ياسين جلوني يكتب:إبادة غزة عنوان أزمة أمة

بعد أزيد من خمسة أشهر من طوفان الأقصى، خمسة أشهر من الإبادة الجماعية بكل أشكالها من تقتيل وتدمير وحرق وتجويع وتعطيش يعيشه سكان غزة، وأمام هذه المأساة التي يعيشها الإخوة في الدين والثقافة واللغة والتاريخ والحضارة، يطرح العقل المسلم العديد من الأسئلة على هذا الواقع المتأزم، أسئلة متعلقة بحقيقة الانتماء، فكيف يعقل للإنسان المسلم الذي نشأ بفكرة أن المسلمين إخوة، وأن رابطة العقيدة أمتن من رابطة القرابة، أن يرى إخوانه يقتلون ويجوعون وهو لا يستطيع دعمهم حتى بالماء والدواء، واقع أن الأمة الإسلامية أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي علمنا أن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضها بعضا، عاجزة عن نصرة شعب مستضعف في قلب هذه الأمة، وسبب استضعافه ومحاولات اجتثاثه هي دفاعه عن مسرى النبي الكريم وعن المقدسات الإسلامية وعن أرضه، وعن الكرامة الإنسانية والاستقلالية والحرية.
أمام تأمل هذا الواقع البئيس، يتضح جليا أن الاستضعاف الحقيقي لا يعيشه فقط سكان غزة، بل تعيشه أمة المليارين، فرغم عدد أبنائها فهي عاجزة عن تغليب موازين القوى لصالح الفلسطينيين، والسبب في كل هذا هو واقع استعماري دولي قسَّم الأمة إلى دول متجاورة متطاحنة، تحكمها أنظمة عميلة، ولاؤها لصانعيها من الغرب الاستعماري أكثر من اهتمامها بنداءات شعوبها المقهورة.
العقل المسلم الذي نال حدا أدنى من الاطلاع على تاريخ الحضارة الإسلامية بداية بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام، ونشره للدعوة وبنائه للدولة، واستمرار دولة الخلفاء الراشدين من بعده، وامتداد الحضارة الإسلامية شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، واحتوائها ثقافات وشعوبا أخرى، وعاشت الأمة في ظل امبراطوريات عملاقة تمتد على ثلاث قارات، آسيا وإفريقيا وأوروبا، سيصعب عليه لا محالة تقبل واقع التشرذم الحاصل اليوم. رغم أن هناك بعض الملاحظات بخصوص تجربة الحكم لهذه الامبراطوريات، إلا أن أغلب من تعاقبوا على حكمها كانت شرعيتهم دينية بالأساس ومبنية على حماية المسلمين وتوحيدهم وضمان أمنهم والدفاع عن المستضعفين منهم في أي مكان وحماية المقدسات الدينية والذود عنها، غير أن واقع اليوم أن الأنظمة التي تقاسمت حكم ملياري مسلم، لطالما بنى بعضها شرعيته على أساس ديني، إلا أنه من المتواطئين الكبار ضد هذه الأمة ومصالحها، بل ومنهم من هو وبال على شعبه بالقهر والظلم والاستبداد والاستعباد.
إن أكبر سؤال يطرحه الإنسان المسلم في ظل واقع الإهانة والعجز والضعف الذي تعيشه هذه الأمة، هو: كيف وصلنا لهذا المستوى من الانحطاط الذي لم يسبق له مثيل؟ وما السبيل لتجاوزه وانبعاث الأمة من جديد؟
صحيح أنه من الصعب تفكيك هذا الواقع بسهولة، فلا بد من قراءة متأنية للتاريخ، فما نعيشه اليوم ما هو إلا تحصيل لعدة أزمات تراكمت عبر تاريخ الأمة وأنتجت لنا هذا الواقع البئيس، أزمات لم يتم علاجها وتداركها في وقتها حتى صعب فهمها، وأصبح تطور الأحداث وتطور التاريخ أسرع من إمكانية إدراكه واستيعابه، فأصبح الإنسان المسلم مفعولا به في التاريخ بدل أن يكون فاعلا.
الأزمة الأولى: انطفاء العقل المسلم
إن توقف الدورة الحضارية لأي أمة يكون مع توقف العقل الإنساني على الإنتاج والإبداع والتفاعل مع واقعه، وذلك وفقا لنظرية مالك بن نبي في تعريفه للدورة الحضارية التي تمر عبر ثلاث مراحل: مرحلة الروح، مرحلة العقل، مرحلة الغريزة. والحضارة الإسلامية انطفأ عقلها منذ القرن الخامس عشر كأقصى تقدير، لاسيما بعد سقوط الإمبراطورية العباسية في المشرق والإمبراطورية الموحدية في المغرب، حيث عرف عهد هاتين الإمبراطوريتان بازدهار العلوم والمعارف، وتطور الثقافات، وغزارة الإنتاج العلمي في شتى مجالات الحياة.
فبعد ذلك التاريخ بدأ الانطفاء التدريجي للعقل المسلم، وانتقل من النقاش العقلي العلمي الفلسفي إلى الجدال الكلامي في سفاسف الأمور، وغزت عقلية الخرافة والصوفية المنحرفة، والجمود والتقليد الحياة الثقافية للحضارة الإسلامية، حتى الدول والإمبراطوريات التي أتت لتخلف العباسيين والموحدين في الحكم، بنت قوتها على الجانب العسكري كالعثمانيين والسعديين، ولم تفتح الباب أمام الفعل الثقافي المتجدد.
منذ تلك اللحظة توقف العقل المسلم عن السؤال، إلى أن انقلبت موازين القوى لصالح الحضارة الغربية، التي استفادت من انتاجات الحضارة الإسلامية، وقامت بإصلاح ديني، وإعادة المركزية للإنسان في إطار الحركة الإنسية، وجعل العقل مرجعا للحقيقة بدل الكنيسة في إطار فلسفة الحداثة، وهو ما أدى إلى عدة تحولات: التأسيس لنظام سياسي جديد بعد الثورة الفرنسية، ونظام اقتصادي جديد بعد الثورة الصناعية، وبروز الأطماع التوسعية والاستعمارية.
الأزمة الثانية: الاستعمار القديم
لم يستفق العقل المسلم من سباته إلا على وقع مدفع الاستعمار الامبريالي، هنا فتح المجال لطرح السؤال “لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم”، إلا أن الوقت لم يتح لنخبة المثقفين المسلمين من علماء ومفكرين لمحاولة استعادة المبادرة وإغلاق قوس قرون الانقطاع التاريخي، لأن واجب الوقت هو رد الاستعمار الغاشم.
ميزة الاستعمار القديم أنه كان استعمارا مسلحا، يهدف إلى احتلال الدول واستغلال خيراتها وإحكام السلطة المباشرة عليها بالسلاح، فكان الجواب المباشر على هذا الاستعمار هي المقاومة بشقيها العسكري والسياسي، ورغم المجهودات الجبارة لقادة المقاومة في جميع أقطار العالم الإسلامي إلا أن العالم الإسلامي لم يتحرر بعد من تبعات الاستعمار القديم، فهاهي فلسطين الجريحة مازالت تقبع تحت وطأة استعمار إحلالي ليس له مثيل في الوحشية والهمجية، بالإضافة إلى قضية الصحراء المغربية التي هي من الأزمات الناتجة عن الاستعمار الاسباني للصحراء المغربية، وجعلت هذه القضية ورقة ضغط وابتزاز من الغرب للمغرب ماتزال تستنزف وقته وجهده وتقض من حريته وسيادته، دون أن ننسى سبتة ومليلية وجزر الكناري التي أصبح النسيان يطالها.
إن مما نجح فيه الاستعمار القديم هو أنه استطاع تفكيك الإمبراطوريات السابقة، فبعد الحرب العالمية الأولى تم تفكيك الإمبراطورية العثمانية وفق اتفاقية سايكس بيكو، وهنا بدأ قصة صناعة الحدود الفاصلة بين مكونات الأمة الواحدة ، كما أن الاستعمار الفرنسي الغاشم لشمال إفريقيا نجح في خلق العداوات والأحقاد بين الإخوة والأشقاء من خلال بوابة الحدود غير المرسمة بين المغرب والجزائر، فبعد طرد المستعمر وجه كل جيش سلاحه نحو أخيه خلال حرب الرمال، كما نجح قبلا في فصل موريتانيا عن المغرب.
ولتأبيد حالة التجزئة والتقسيم للعالم الإسلامي، وتأبيد الصراعات والتناقضات بين مكونات الأمة الواحدة، تم الإبقاء على الاحتلال الصهيوني في قلب الأمة الإسلامية، من أجل ضمان استمرار المشروع الاستعماري للمنطقة، والحيلولة دون أي فرصة لتوحيد الإخوة في الدين واللغة والثقافة والحضارة والتاريخ، وتأبيد واقع التخلف والتفكك والهزيمة والفرقة بين مكونات الحضارة الإسلامية التي تشكل أكبر تهديد للحضارة الغربية التي بنت قوتها على استضعاف الشعوب واحتلال الأوطان واستنزاف الخيرات.
الاستعمار العسكري القديم كان مُكلِّفا للحضارة الغربية، سواء من حيث أرواح الجنود وكذلك في السلاح والعتاد والاقتصاد، لاسيما مع قوة وحدة المقاومة، لذلك تفتقت الذهنية الغربية على استعمار جديد أقل كلفة وأكثر غنيمة.
الأزمة الثانية: الاستعمار الجديد
الاستبداد وسؤال الشرعية
لم تغادر الجيوش الاستعمارية الأراضي الإسلامية بسهولة، بل غادرت بعد أن ضمنت ولاء أنظمة العالم الإسلامي لها، من خلال دفعها بعملائها والمتعاونين معها لمناصب حساسة في بنية دول ما بعد الاستعمار، وذلك لضمان التبعية والخضوع لمصالح الاستعمار. فلطالما تم الترميز للعديد من الشخصيات التي توصف بالوطنية وتنصيبهم في مواقع حساسة في بنية الدولة، لكن في الحقيقة ما هم إلا ثلة من العملاء والمتعاونين مع الاستعمار، والذين ولاؤهم للغرب أكثر من ولائهم لشعوبهم، فشرعيتهم اكتسبوها من خارج شعوبهم وأوطانهم، حتى أن بعضهم لغته ومأكله ومشربه وتعليم أبنائه وتطبيبه كله من خارج الوطن. فما دامت هذه الأنظمة نحتت بأيدي أجنبية ولم تأت عبر اختيارات ديمقراطية، فإنها بالذات أنظمة ديكتاتورية تفننت في ممارسة شتى أنواع الاستعباد والاستبداد والاستبلاد لشعوبها.
حتى وإن جاءت رياح عابرة بزعامات وقيادات وطنية لا تشتهيها سفن الاستعمار الغربي، فإن هذا الأخير يلجأ للاغتيالات تارة والانقلابات تارة (الانقلاب العسكري للسيسي على مرسي، المحاولة الانقلابية على أردوغان في تركيا…) وحتى الرجوع للاجتياح العسكري إن تطلب الأمر ذلك (العراق، أفغانستان، عاصفة الحزم ضد اليمن).
الهيمنة الغربية سياسيا واقتصاديا وثقافيا
إن مرحلة الاستعمار الجديد بدأت مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي كانت الوسيلة التي اعتمدتها القوى الغربية لإعادة تقسيم النفوذ حول العالم، واستمرار ضمان مصالحها في المستعمرات السابقة، لذلك عمدوا لتأسيس منظمات دولية هدفها تأبيد حالة الاستعمار وضمان الهيمنة لهم، وهو ما تمثله منظمة الأمم المتحدة، فهي أمم متحدة لضمان مصالح أمريكا والغرب بالأساس، وقراراتها وبلاغاتها لم توقف حربا ولا إبادة ولا مجاعة، فمهمتها الأساس إصدار بلاغات الفارغة والتنديدات الباردة، أما مجلس الأمن فما هو إلا مجلس حرب، فيه يتم الإعلان عن الحروب ضد الدول الخارجة عن طاعة الغرب، وفيه تحتكر خمس دول التحكم في السلم العالمي.
أما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي هما مؤسستان اقتصاديتان دوليتان دورهما إخضاع اقتصادات الدول للمنظومة الدولية عبر فخ الديون التي لا تنتهي، والتي تكون الباب الذي يتم فيه رهن القرار السياسي والاقتصادي للدول والأمم، ويتم فيها إجبار الدول المستدينة على اتباع سياسات اقتصادية واجتماعية تزيد من تأبيد التبعية الاقتصادية للغرب وتكون ضد المصالح الوطنية (كسياسة التقويم الهيكلي وسياسة التعاقد في المغرب…)
أما في الثقافة فقد تم توظيف شعار “العولمة” كيافطة لتمرير سياسات الأمركة وليس العولمة، حيث ادعى مروجو شعارات العولمة تعزيز التنوع والتبادل الثقافي للشعوب والأمم، إلا أن الواقع أن العولمة أتت لفرض النموذج الثقافي الغربي وسحق بقية الثقافات، حيث تم تدويل اللغة الانجليزية ومعها تم تدويل ثقافة الهمبرغر والوجبات السريعة، وماركات الأزياء الغربية ونمط الاستهلاك الغربي، ناهيك عن منظومة القيم الاجتماعية الغربية التي تشجع الإباحية وتفكيك الأسرة والانحراف على الفطرة البشرية، هذا كله يتم عبر ترسانة من المؤسسات الإعلامية الغربية والمحلية المدعومة من الخارج، بالإضافة للعديد من الجمعيات والمنظمات التي تخترق النسيج الاجتماعي للمجتمعات المسلمة، والتي تشتغل وفق ترسانة أخرى من المواثيق الدولية في مجال الحريات وحقوق الإنسان، والتي للأسف لا تراعي الخصوصيات الثقافية لهذه الشعوب.
في هذا المقال حاولنا أن نفكك واقع أزمات أمتنا اليوم، والتي تعتبر إبادة غزة أبرز عنوان لها، إلا أن السؤال الذي سيطرح من جديد هو: ألم تكن هناك محاولات إصلاحية جادة لتجاوز هذه الأزمات؟ هل تركت هذه الأزمات حتى تفاقمت بهذا الشكل الذي نعيشه؟ ما السبيل لتدارك الأمر وتجاوز هذه الأزمات؟
أزمة مركبة ومعقدة ومتشابكة كهذه التي نعيشها تطرح العديد من الأسئلة، والتي تتطلب تناولا تفصيليا ومدققا، فمعركة طوفان الأقصى أتاحت أكبر فرصة لتعميق الوعي بالأمة وأزماتها، فالوعي بالأزمات شرط لتجاوزها، وتغيير الواقع لا يتأتى دون فهمه واستيعابه. ومهما طال الزمن أو قصر، لابد لليل أن ينجلي، ولا بد للقيد أن ينكسر.
ياسين جلوني
2024/03/23

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.