علي فاضلي يكتب: إذا عاش النسر عاشت فراخه…الدولة والفرد في خطاب ابن كيران

من المقولات الشهيرة للأستاذ عبد الإله ابن كيران التي تلخص بشكل مكثف منهجه وأطروحته السياسية هي مقولة “إذا عاش النسر عاش أولادو“، وهي المقولة التي أعاد تكرارها في سياق شرح قرار رفع الدعم عن المحروقات. وليس غريبا أن تكون تجربة بنكيران من التجارب الاستثنائية الناجحة للحركة الإسلامية، فهي من التجارب القليلة جدا التي استطاعت النجاح، وسر تلك التجارب أنها تنطلق من شرط الدولة الوطنية الحديثة، وهو الشرط التي تعبر عنه بعمق مقولة بنكيران ” إذا عاش النسر عاشت فراخه”.

يعتبر بعض من أبناء العدالة والتنمية أن قرار رفع الدعم عن المحروقات كان من الأخطاء الكبيرة لابن كيران، ومنهم من يطالب بالاعتذار عن ذلك القرار، غير أن هذا الموقف هو موقف ينطلق من وعي الطبقة المتوسطة، وهو وعي يخترق كذلك الأحزاب اليسارية التي انتقدت قرار رفع الدعم عن المحروقات، بالرغم من زعم تلك الأحزاب أنها تحمل “نظرية الطبقة العاملة” وبأنها تدافع عن الطبقات المسحوقة والكادحة، لكنها في الواقع تدافع عن مصلحة الطبقة المتوسطة في سعيها نحو الارتقاء الطبقي دون النظر في واقع الطبقات الكادحة والفقيرة، ولأن وعيها مزيف فالطبقة المتوسطة بفصل معركتها عن معركة مجموع الطبقات فهي لا تخدم حتى مصلحتها الحقيقية.

لست هنا لأقول بأن الدولة الوطنية الحديثة ذات الجذور “الويستفالية” أو “الصوامع العمودية” بتعبير فوكوياما هي نموذج نهاية التاريخ، فهذا قول غير جدلي حتى لو زعم قائلوه بأنهم جدليو المنهج، ولست هنا لأقول بالتخلي عن المثال وعن الطوبى، لكن يجب الوعي بأنها طوبى “بأنها برنامج مطروح على الإنسان كإنسان، بالنوع البشري في سيرورته التاريخية الطويلة” (العروي، مفهوم الدولة).

الاتحاد الأوروبي كبناء “فوق-دولة” يجد جذوره في المقولات المثالية الكانطية، والليبرالية تجد جذورها في المقولات المثالية الكانطية، والأحزاب اليسارية الغربية تسعى نحو مثال/طوبى “السلام العالمي”، وحتى الحزبين الديمقراطية والجمهوري الأمريكيين يسعيان نحو طوبى/مثال، كما تعرضت المدرسة الواقعية التي تنطلق من أرضية الدولة الوطنية كمحدد رئيس لنقد شديد من المدارس النقدية والماركسية وحتى الليبرالية، ويمكن مثلا العودة لنقد روبرت كوكس وتشومسكي للمدرسة الواقعية.

أليس الاتحاد المغاربي هو طوبى/مثال في الواقع الحالي !؟ لكنه مثال قابل للتحقق شرط حل الخلاف المغربي-الجزائري، فهو مثال قابل للتحقق مستقبلا. أوليست الوحدة العربية مثالا/طوبي في الوضع الحالي، لكنها ممكنة التحقق مستقبلا شرط تحقق شروطها التاريخية، ألا يؤكد الاحتفاء بالمنتخب المغربي في كأس العالم في قطر أن حلم الوحدة يسكن الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج.

إن تحقق المثال لا يقف على سنوات أو حتى عقود، لكنه مسار طويل رهين بتحقق شروطه التاريخية، لكن هذا لا يعني الانطلاق من شرط المثال/الطوبى، وأن يظل الإنسان حبيس ذلك المثال ولا يتجاوزه، وهو أمر أعاق بناء الدولة الوطنية في السياق العربي، بل لابد من الانطلاق من شرط الدولة الوطنية الحديثة والبناء عليه، ما يعني ضرورة تقوية الدولة الوطنية.

هنا تبرز أهمية أطروحة عبد الإله ابن كيران في الانطلاق من شرط الدولة الوطنية الحديثة، وعدم الانطلاق من تجارب مفارقة/فوق الدولة، فهو ينطلق من شرط تقوية الدولة المغربية، وهنا يختلف/يتجاوز بنكيران باقي الحركات الإسلامية المخاصمة للدولة الوطنية والتي تنطلق من تصورات فوق-الدولة.

ومن هنا نفهم القرار التاريخي لرفع الدعم عن المحروقات، فهو قرار ينطلق من شرط تقوية الدولة الوطنية، فتقوية الدولة الوطنية وتحصينها ماديا هو مقدمة نحو تحصين سيادتها الوطنية والضغط الخارجي، وتقوية الدولة هو في صالح الفرد، فقد تكون للقرارات التي تقوي الدولة أثر سلبي لحظي على الأفراد، لكن ضعف الدولة ستكون له نتائج وخيمة على الأفراد.

لقد كان لقرار رفع الدعم تأثير غير مسبوق على ميزانية الدولة، بحيث حررها من خطر الارتهان للخارج بشكل مفرط، ومنحها هامشا كبيرا للتدخل نحو إعادة توجيه تلك الأموال نحو وجهتها الحقيقية في الاستثمار وفي الخدمات الاجتماعية التي تستفيد منها مجموع الطبقات وعلى رأسها الطبقات الفقيرة.

لقد كان المتضرر الرئيس من رفع الدعم هو الطبقة الغنية التي كانت تستفيد من دون وجه حق من ملايير الدعم المخصص أصلا للفقراء، لكنه تحول لإغناء الأغنياء وتفقير الفقراء، وأصبح الفقراء أقل الطبقات استفادة من صندوق المقاصة. لذلك فقد شنت البورجوازية الاحتكارية التي كانت تستفيد من الدعم غير المشروع من صندوق المقاصة حملة إعلامية مخدومة لتشويه القرار التاريخي لبنكيران برفع الدعم عن المحروقات، عبر توظيف الفقراء في معركة غير معركتهم.

إن نقد قرار ابن كيران رفع الدعم ومواقفه من الدولة ينبغي أن ينطلق من منهج الرجل من الدولة نفسها، و لا ينبغي الانطلاق من منهج غير منهج بنكيران، وهنا يقع بعض أبناء العدالة والتنمية تحت تأثير الإعلام المخدوم في منهج غير منهجهم، ومن ذلك القول بأن بنكيران خدم الدولة و”وظفته” للقيام بالإصلاحات التي عجز عنها سابقوه، وبأنها إصلاحات كانت لصالح الدولة على حساب الأفراد.

إن هذا الطرح ينطلق من منهج غير منهج العدالة والتنمية، وينطلق من موقع غير موقع العدالة والتنمية كحزب ترأس الحكومة لعشر سنوات، وهو موقع كان يفرض عليه القيام بالإصلاحات التاريخية التي تخدم الدولة، والتي لم يقدر سابقوه على القيام بها، فهذه ليست نقيصة من بنكيران والعدالة والتنمية، بل وسام شرف لهم.

فتقوية الدولة وتحصينها ضد الضغوط الخارجية سيصب في نهاية المطاف في صالح الأفراد، واليوم فبفضل الإصلاحات التاريخية التي قام بها بنكيران تتحقق نتائج لصالح الفئات الفقيرة والكادحة التي كانت أقل الطبقات استفادة من الدولة، لقد تم توجيه جزء من الثروة نحو وجهتاها الحقيقية بعد عقود من الظلم التاريخي الذي لحق الطبقات الفقيرة.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.