كلمة الموقع: *من سيحسم النقاش بخصوص إصلاح مدونة الأسرة؟*

بعد ردود الفعل الإيجابية التي خلفها المهرجان الوطني الذي نظمه حزب العدالة والتنمية بخصوص إصلاح مدونة الأسرة، وما أثاره من مواقف مشرفة تبنتها شخصيات وفعاليات علمية ووطنية حركها حرصها على الحفاظ على استقرار الأسرة باعتبارها الخلية الأساسية في المجتمع، وغيرتها على ضرورة تمثل مرجعية وثوابت الدولة والمجتمع في أي إصلاح مرتقب، بدا بشكل جلي أن دعاة الإصلاح الجذري والشامل للمدونة يعيشون في حالة شرود وأنهم قد خسروا معركة الرأي العام، فلم يجدوا من سبيل سوى اللجوء إلى أساليب التضليل وقلب الحقائق وتهريب النقاش والاستنجاد بقناة أجنبية داعمة وموجهة ليروجوا لتغيير جذري وشامل موهوم، بدعوى أن الذي سيحسم في النهاية هذا الإصلاح هو البرلمان، والذي حسب زعمهم تسيطر عليه أغلبية حداثية ومتنورة، باعتبار أن التيار المحافظ الذي يمثله -حسب رأيهم- حزب العدالة والتنمية قد انتهى وأصبح أقلية معزولة في البرلمان.
وقد تجلى هذا الطرح بوضوح خلال حلقة من برنامج “هي الحدث” خصصته قناة “فرانس 24” لتفسح المجال لما أسمته النسوانيات بالمغرب ليبسطوا متمنياتهم بخصوص إصلاح مدونة الأسرة، حيث لم يكن هناك أي جديد بخصوص ما عبرت عنه ضيفة البرنامج، وهي رئيسة إحدى الجمعيات النسوانية بالمغرب، سوى تكرار كلامها عن رغبتهن في إصلاح جذري وشامل للمدونة وتجرؤهن على المطالبة بمراجعة مواضيع محسومة بنصوص قرآنية قطعية وبمقتضى مرجعية وثوابت الدولة والمجتمع وبالتوجيهات والتأطير الملكي في الموضوع، لكن الجديد في هذه المقابلة هو تفاؤل هذه السيدة بأن التغيير سيكون جذريا وشاملا على اعتبار أن هذا الإصلاح سيحسمه في النهاية البرلمان، ولأن الأغلبية الحالية المشكلة له متنورة حسب زعمها، وأن ما يقوم به حزب العدالة والتنمية في هذا الموضوع لا يعدو أن يكون ضجيجا، باعتبار أنه يمثل أقلية لا دور لها.
لقد ربطت المتحدثة باسم التيار النسواني بالمغرب تفاؤلها المغشوش بمعطى واحد مغلوط ومهزوز وتجاهلت أو تناست معطيات أخرى عديدة جوهرية ومحددة وحاسمة في مسار إصلاح مدونة الأسرة بالمغرب عبر التاريخ، وبنت حسمها المزعوم على فرضية خاطئة صنفت البرلمان المغربي -حسب هواها -إلى صنف حداثي ومتنور وضعت داخله بقرار منها -بكل ديمقراطية حداثية- كل الأطياف السياسية، وصنف محافظ اختزلته في حزب العالة والتنمية وحسمت التصويت لصالح مدونتها الحداثية بعد المراجعة الجذرية والشاملة.
لكن ما لم تنتبه له السيدة المصنفة هو أن مدونة الأسرة ليست نصا قانونيا عاديا يمكن أن يعدل بكل حرية وبدون قيد أو شرط وفي تجاوز للمرجعية والثوابت والقيود الدستورية والتوجيهات الملكية وضدا على قناعات الشعب المغربي المسلم، وأنه ليس بإمكانها أن تحسم تعديلاته كما تشاء وبهذه السهولة بالبرلمان بالتصويت بمنطق الأغلبية المتنورة العددية والأقلية المحافظة المعارضة.
ألم تنتبه إلى أن مشروع القانون المتعلق بمدونة الأسرة الذي سيعرض على البرلمان سيسلك طريقا خاصا لا تسلكه باقي القوانين وأنه سيمر بمحطة محورية باعتبار أن الدستور يربط القانون المنظم لشؤون الأسرة بالشريعة الإسلامية؟ وبالتالي فإن هذا النص سيعرض قبل ذلك على جلالة الملك أمير المؤمنين الذي ما فتئ يذكر جلالته في كل مرة يتحدث فيها عن إصلاح مدونة الأسرة بقوله: “إننا، بصفتنا أمير المؤمنين، لا يمكننا أن نحل ما حرم الله ولا أن نحرم ما أحله جل وعلا’’؟
ثم كيف وصلت إلى هذه الخلاصة المتسرعة من كون أغلبية البرلمان هي أغلبية حداثية ومع الإصلاح الجذري والشامل، وأن التيار المحافظ لا يمثله سوى حزب العدالة والتنمية؟ هل حزب الاستقلال الذي ترأس زعيمه علال الفاسي رحمة الله عليه أول لجنة حول قانون الأحوال الشخصية ليس محافظا؟ وهل حزب التجمع الوطني للأحرار؛ وحزب الحركة الشعبية؛ وحزب الاتحاد الدستوري، بل وحتى أعضاء من أحزاب أخرى ليسوا محافظين فيما يتعلق بشؤون الأسرة باعتبارها ليست تشريعا تقنيا عاديا وبسيطا، وإنما هو تشريع جوهري يتعلق بخلية مقدسة ولها اعتبار وتقدير وهالة عند المجتمع المغربي ومرتبطة بهوية ومصير الشعب المغربي وواقعه وثقافته وخصوصياته؟
ثم في النهاية أين موقع الشعب المغربي وإرادته وقناعاته من كل هذا النقاش؟ هل يمكن للبرلمان، الذي من المفترض فيه أنه يمثل هذ الشعب، أن يعدل ويحسم كيف يشاء دون مراعاة المرجعية والثوابت الدستورية وقناعات الشعب المغربي المسلم؟
إن أي إصلاح لمدونة الأسرة لا يمكنه أن يكون ناجعا ونافعا وضامنا لاستقرار الأسرة والمجتمع إلا إذا راعى في البدء والختام أنه تعديل محدود ومؤطر لنص قائم يتضمن ثوابت وقطعيات، وأنه تصحيح لبعض الاختلالات التي أبانت عنها التجربة وليس فرصة لضرب وتجاوز القطعيات والمبادئ والأسس والمرجعيات التي بنيت عليها المدونة، وأنه إصلاح من وإلى الشعب المغربي المسلم الذي هو الأغلبية الحقيقية، وأن الأقلية لا توجد في صف أولئك الذين يصطفون إلى جانب هذا الشعب ويدافعون عن مرجعيته وثوابته ومصالحه، وأن الضجيج هو ذلك الذي تحدثه تلك الأقلية المتغربة والغريبة عن واقع ومرجعية وهوية هذا الشعب.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.