ابن كيران والحالة التونسية

بقلم: نور الدين مفتاح

ثورات الربيع العربي كانت نتائجها في الواقع اكتساح صناديق الاقتراع من طرف الإسلاميين. وهذا المعطى خلّف هلعا لدى جزء من المجتمع الذي كان يخشى من الأصولية المنغلقة الشبيهة بنظام طالبان، كما خلف نفس المعطى الخوف لدى لصوص المال العام الذين كانت فرائصهم ترتعد لفقدانهم لسلطتهم وجاههم ونفوذهم وأسرارهم، وإذا كان الحداثيون والعلمانيون والليبراليون الحقيقيون قد ذهلوا من هذا الاكتساح الإسلامي في مجتمعات عربية يغلب عليها عموما طابع التواضع الثقافي والمحافظة، وخافوا من سيادة نموذج مجتمعي ماضوي يناقض تصورهم لمجتمع منفتح منخرط في عالم اليوم، فإن تواضع قوتهم التنظيمية جعلهم عاجزين عن كسب ثقة الجماهير، وكثير من هؤلاء اضطروا إلى التحالف إما مع فلول الأنظمة البائدة أو مع الانقلاب لصد الإسلاميين وكبح جموحهم.

والواقع أن هذه القوى المضادة للإسلام السياسي كخليط من الخائفين إما على المجتمع أو على مصالحهم لم تكن توجد في إطار عراك داخل الحدود الوطنية فقط، بل إن الرهان أصبح أحيانا إقليميا وأحايين أخرى دوليا، وكانت ساحته الأبرز والأكثر إيلاما هي مصر التي استعمل فيها القتل والاجتثاث لإزاحة الإسلاميين الذين وصلوا إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع، وحتى إن تحالف طيف العلمانيين مع العسكر وجزء من الشعب المصري، فإن هذه التجربة كانت هي الأسوأ، ووضعت حدا لما يمكن أن نسميه بالانتقال الديموقراطي في المحروسة، وبطبيعة الحال كان هذا مريحا جدا لدول زلزلت الأرض تحت أقدام حكامها في الخليج العربي خوفا من وصول عدوى استيقاظ الشعب إليها، فعزمت على التصدي لمبدأ الثورة في حد ذاته تحت ذريعة الخوف من الإسلام المتشدد، مع أن بعضهم لا يحكم في بلده إلى الآن إلا بإسلام أكثر تشددا.

من هنا يمكن أن نصل إلى فهم ما جرى في تونس الخضراء، فما حصل بداية هذا الأسبوع لم يكن هزيمة لإسلاميي حركة النهضة، ولكنه كان انتصارا للثورة الأولى التي أطلقت مسلسل التغيير الجذري المأسوف على مآله في العالم العربي. والنتيجة التي وصلت إليها بلاد ثورة الياسمين لم تكن مفروشة بالورود، فقد كان إسلاميو تونس الذين حازوا على أغلبية مقاعد المجلس التأسيسي بين نيران متعددة، منها الإسلاميون الأكثر تشددا على يمينهم، الذين كانوا يعتبرون اعتدالهم خيانة، بحيث هاجموا أضرحة واستعملوا العنف ووصلوا حد الاغتيالات، ونار مجتمع جزء كبير منه صوت لأصحاب الغنوشي، ولكن نخبته تشربت العلمانية والانفتاح وحرية المرأة منذ عهد بورقيبة، والنار الثالثة هي لفلول نظام بن علي الذين رفضت النهضة مشروع قانون العزل السياسي ضدهم الذي قدم للمجلس التأسيسي، وهو ما أعطى تحالفاً يصعب الحكم عليه بين جزء من الحرس القديم من جيل بورقيبة وجزء من بقايا نظام بن علي المحنكين في دروب الحرفة الانتخابية والنفوذ ولفيف من اليساريين والعلمانيين والليبراليين. هذه الخلطة المجتمعة في حزب «حركة نداء تونس» هي التي استفادت ديمقراطيا من ندوب الحكم التي زوقت جسد حركة النهضة أمام جبل الإكراهات الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التجاوز مع ظروف الانتقال الديموقراطي القاسية عادة.

يحسب للنهضة أنها لم تتعنت مثل رئيس مصر المنتخب السابق محمد مرسي، وتخلت عن الحكم طواعية مرتين، وصوتت على دستور متطور، وبالفعل فقد أدت في هذه الانتخابات ثمن أخطائها، هذا صحيح، ولكنها أيضا أدت ثمن اعتدالها، وفقدت جزءا من مناصريها، ولكنها أعطت لهذا المحيط العربي أجمل هدية، وهي أن إسلاميي المؤسسات أصبحوا أحزابا كباقي الأحزاب، يمارسون تدبير الشأن العام باسم السياسة وليس بتفويض إلاهي، ويخطئون ويصيبون، وعندما تترسخ هذه القناعة، فإن الكثير من الجهد الذي كان يضيع في محاكمة نوايا الإسلاميين بدل أن ينصب على ابتكار حلول سياسية واقتصادية واجتماعية للمشاكل المستعصية سيتم استرجاعه لمواجهة احتياجات الناس للديموقراطية والتنمية.

درس تونس مخجل لمصر التي اختارت الاستئصال وصنفت الإخوان المسلمين في خانة الإرهاب، وتعاني اليوم من عدم الاستقرار الذي يعرقل التنمية مهما حاولت إمدادات البترودولار أن تبقى عكاز التوازنات واقفا. ودرس تونس معزز للتجربة المغربية التي عرف فيها القصر كيف يستنكف عن مجاراة موجة الانقلاب على الإسلاميين، وجدد الثقة في حزب العدالة والتنمية، وتكونت حكومة ابن كيران الثانية، وإلى حدود كتابة هذه السطور، ستواجه هذه الحكومة أكبر امتحان في حياتها، وهو إضراب عام واسع لم يسبق أن اجتمعت فيه هذه الأعداد من التنظيمات التي تجاوزت النقابات لتصل إلى العدل والإحسان.

وابن كيران كان يعرف أن يوما كهذا آت لا ريب فيه، فقد اتخذ قرارات لعب فيها بالنار ولكنه كان مقتنعا بأنها ضرورية، ومنها نظام المقايسة في المحروقات مثلا، والدولة نفسها لم تكن مطمئنة لمثل هذه القرارات الجريئة رغم أنها تعرف ضرورتها للتوازنات الكبرى.
ابن كيران هو نهضة تونس مع وجود الفارق. مهمته كانت هي بناء الثقة وإيجاد مكان طبيعي نهائي لإسلاميي المؤسسات داخل المشهد السياسي المغربي، وهو مستعد للحالة التونسية انتخابيا إذا اختار المغاربة بديلا له، وبهذا سيكون النموذج المغربي هو الثاني الذي ستسقط فيه فزاعة الخطر الإسلامي من أيدي من لا يريدون لا الإصلاح ولا الانتقال الديموقراطي. فهنيئا للتوانسة في انتظار ترسيخ الربيع المغربي الذي لن يعطي ثماره إلا بالعسر والألم.. والأمل.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.