مستنقع الحكم

المحجوب لال

من الأفكار السائدة بالوطن العربي لدى فئة غير قليلة من الناس، أن الربيع العربي فعل لا ثوري ولا عفوي، وإنما طبخته المخابرات الغربية منذ سنوات وعملت على تزمينه اليوم، ومن كان منهم متشككا بعد سقوط الأصنام الأربع بكل من تونس وليبيا ومصر واليمن، بات اليوم متأكداً أو على يقين بصدقية موقفه من الربيع العربي، خاصة وأن هذه الدول غرقت في الفوضى والصراع الطائفي والمزايدات السياسية بشكل لا يخدم سوى المصالح الغربية.

ومن اختلف مع أصحاب هذا الرأي، اتفق معهم أن الإسلاميين هم الخاسر الأكبر من الحراك الشعبي، إذ تم دفعهم إلى الحكم وتدبير الشأن العام في وضع اقتصادي وسياسي واجتماعي مأزوم، فانتظارات الشعوب كبيرة وآمالهم عريضة، وما يتوافر من إمكانات السيطرة على الدولة ومفاصيلها للحاكم الجديد تكاد تكون معدومة.

وإذا كان الغرب قد صدم في مستهل الحراك، فتخبط أول الأمر، فإنه سرعان ما تحكم في زمام اللعبة وأصبح صاحب المبادرة، فتم تحويل الصراع من صراع شعبي ضد الاستبداد والفساد، ومن المطالبة بالحرية والكرامة الإنسانية، إلى صراع بين الفرقاء السياسيين والتوجهات الإيديولوجية، فصار هم المواطن ليس الحرية ولا الديمقراطية بل الأمن والاستقرار.

إن ما سبق قد نتفق معه جميعا أو مع بعضه، لكن في تصوري أن تحليل المشهد إنطلاقا من تصورات قبلية جاهزة وأحكام قيمية معدة مسبقة، لا يخدم التحليل العلمي والواقعي للحراك وما بعده، لأن التجربة التونسية خير دليل على استحالة توحيد الحكم تجاه ما يحدث بالوطن العربي، صحيح أن حركة النهضة باعتبارها ممثلة للتيار الإسلامي لم تعد في الحكم، لكن خروجها لا يعني أنها فقدت شعبيتها أو أن ثقة الجماهير فيها قد تأثرت، بل إن الواقعية السياسية هي التي أدت بهم إلى إتخاذ قرار الإنسحاب من تدبير الشأن العام حرصاً على التوافق الوطني وعلى الثورة ومكتسباتها، وفي اعتقادي أن الطريقة التي تمضي بها الثورة التونسية والتي يغلب عليها التروي والمأسسة والنهج التشاركي، سوف تمكن من تحقيق الأهداف سواء على المدى المتوسط أو البعيد.

وأما ببلادنا فإن وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة وترأسه لها، قد جعل فئات عريضة من الشعب تأمل وتنتظر انفراج الأحوال، خاصة وأن الحزب قد رفع شعار محاربة الفساد والاستبداد، وهو شعار دقيق للغاية، يغطي جانبين أساسيين مؤثرين، ألا وهما الجانب الاقتصادي والجانب السياسي، فمحاربة الفساد تقتضي القطع مع الريع وثقافة الامتيازات، وتجاوز المزاوجة بين السلطة والمال، وتعديل القوانين بالشكل الذي يحقق العدالة الاجتماعية ويمكن المغاربة جميعا من الإستفادة من الثروات الوطنية. وفيما يخص محاربة الاستبداد فإنها تقتضي التدافع لأجل مأسسة دولة الحق والقانون، وإرساء قواعد الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة وتكريس جوهرية دور المواطن في العملية السياسية بمزيد من الديموقراطية وتفعيل وتقوية المؤسسات المنتخبة.

إن ما وقع خلال نصف الولاية الحكومية جعل كثير من المتتبعين يرون أن قوى الرجعية السياسية والانتكاس الديمقراطي، يسعون إلى افقاد العدالة والتنمية أهم ما تمتلك ألا وهو رأسمالها الرمزي، المتمثل في الصدق والمصداقية، فيكفي النظر إلى الإعلام الرسمي والخاص، لترى حجم النقد المباشر وغير المباشر الموجه للأداء الحكومي، ولنحلل الصورة المدرجة والكاريكاتير، وعناوين الأخبار ومقالات الرأي وغيرها، لنكتشف حجم الميل السياسي والانحياز الملحوظ لعدد من الصحافيين والمنابر الإعلامية.

كان أول السهام الموجهة نحو الحكومة، إعلانها للوائح المأذونيات وغيرها، فقيل عندئذ إن التحدي ليس الإعلان عن اللوائح بل محاربة الموجود وتغيير الواقع، وإذا كنا نعلم أن الحكومة تسعى فعلاً لتحقيق ذلك على المستوى القانوني والمؤسسي، فإننا نقول أن تجاوز هذا الاستدراك يقوم على أساس الإسراع بالخطوات والتحركات في هذا الجانب، أي القطع مع منطق المنح والعطاء والتوجه إلى منطق الالتزام وشفافية المساطر.

ثم سعت الحكومة إلى إصلاح صندوق المقاصة، فكان التوجه الأولي يسير نحو منح الفقراء والفئات الهشة دعما ماديا مباشرا،ً بالاستفادة من بعض التجارب الأجنبية ومحاولة تكييفها مع الواقع المغربي، غير أن من الشركاء من عارض هذا التوجه بقوة نظرا لما كان سيخلفه من نجاح اقتصادي وشعبية سياسية للحزب، والمطلوب اليوم إعادة إستحضار تلك الروح والتفكير بعقل السياسي وليس بعقل الإداري أو التقنوقراط.

ولا ننسى الحملات الإعلامية في الجرائد الورقية والإلكترونية، وفي فضاءات التواصل الاجتماعي التي كانت تقول “الخلفي بين الأمس واليوم” و “الرميد بين المعارضة والوزارة”، وتصور الرجلين وكأنهما قد تنكرا لكل المبادئ والقيم التي حركتهما ووجهتهما، لكن ما نشهده من إصلاحات في الإعلام والقضاء في حدود الممكن، تثبت أن كلام كثير من المنتقدين مجرد ادعاءات مرسلة، والمطلوب من الحكومة اليوم، هو الاستمرار فى النهج الإصلاحي، ومأسسة المقاربة التشاركية، وتأكيد ثقافة الحوار مع مختلف المعنيين والشركاء والفاعلين، دون أن نترك الزمن يسرقنا بعيدا عن تحقيق المطلوب والمأمول.

ثم كان محضر يوليوز، حيث صورته المعارضة وكأنه صراع شخصي لابن كيران مع المعطلين وحملة الشواهد، وبأنه قد استأسد على الضعاف والفئات غير المحمية، في حين أن الصورة كانت واضحة، ابن كيران يقول إن القضاء هو الفيصل بيننا، وما دامت المسألة قانونية ودستورية، فإنه لا يملك إلا تنفيذها. إننا ندعو لمزيد من مراقبة الإمتحانات والمباريات وضمان الشفافية والنزاهة وتكافؤ الفرص بين جميع المتبارين، فهذه هي الروح الأولى الموجهة لتحرك إخوان ابن كيران، وإلا فإن الإدماج المباشر للأطر العليا أكثر عدالة وشفافية من مباريات لا تتحقق فيها شروط الاستحقاق والمصداقية.

 

ثم جاءت مسألة التحالف مع حزب الحمامة، بعد سلسلة من الاتهامات المتبادلة، فكانت صورة الحزب كما تم تصويرها، صورة انتهازيين وسياسيين لا يختلفون عن غيرهم من حيث أدوات العمل وأدوات الاشتغال، وطالب البعض بخروج الحزب من الحكومة، واللجوء إلى انتخابات سابقة لأوانها، فهي السبيل للحفاظ على ماء وجه الحزب، واسكات الأصوات القائلة بأنه أصبح حزبا مخزنيا أكثر من المخزن، ولو أنه فعل لما تلافى النقد المضاد من ذات الجهات.

إن الاستمرار في المستنقع السياسي على حد تعبير البعض، يجعل الكثيرين يعتقدون ان الحزب قد تنازل عن مبادئه وقيمه وشعاراته، لصالح المخزن والنظام، أقول إن هذا المنطق في التفكير، لا يقوم على أسس واقعية، وإنما هو التجسيد الخطابي لبعض الكتاب والأقلام ومنابر الإعلام، لأن العارفين بأوضاع المغرب، القارئين لدستوره، الفاهمين لمنطق العمل ودور وسلطة مختلف المؤسسات القائمة، يدرك أن لا حكومة وإن كانت لوحدها، قادرة على فعل أفضل من ما تم إنجازه إلا بقليل، فكيف بحكومة توافق حزبي.

إننا لا نبرر عدم الإقدام السريع أو الإتجاه المباشر نحو كثير من الملفات، وإنما ندعوا إلى نظرة موضوعية، تحاكم الموجود وفق حدوده العملية وامكاناته الموضوعية، وليس إنطلاقا مما نحلم به أو نأمله، أو ما يحاول البعض تصويره وتصديره لنا من غير دليل واقعي ولا تفحص موزون موضوعي لمختلف القضايا والملفات المطروحة.

وإن كان من دعوات موجهه للحزب، فإن المأمول منهم دراسة تحركات القوى الضاغطة بالبلد، وتحليل خطاباتها وممارساتها، لأجل تلافي أي مطبات يمكن إدخال الحكومة فيها والحزب على وجه الخصوص، كما أن الاشتغال في الفترة الماضية من داخل دواليب الوزارة والمؤسسات، يجعل الصورة أوضح للعاملين والموجهين والمخططين، الشيء الذي يمنح فرصة الحديث من واقع مدروس ومعلومة مؤكدة، خاصة وأن من أهم أسلحة السياسي المؤثر، المعلومة الدقيقة والرأسمال المعرفي، ثم التفكير إنطلاقا من مسلمة الصراع السياسي وليس التنافس الميداني والخطابي، بما يعنيه ذلك من الاستعداد لأدوات عمل غير أخلاقية وغير سياسية متاحة للخصم، بل هي جوهر تحركه وتفاعله مع غالب القضايا والاشكالات، مع إستحضار البعد الجدلي في فكرة التدافع، وليس الاكتفاء والتركيز على بعد التواصل والحوار والإختلاف.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.