رحموني يكتب: هوامش على متن خطاب العرش

خالد رحموني *
جدد الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى الــ14 لعيد العرش، التعاقد السياسي الذي انبنت عليه المرحلة والموسوم بالوفاء لمنطق الاصلاح في اطار الاستقرار ،كصيغة محددة لبناء الانتقال السياسي في البلد، هذا التعاقد تجسد بالضبط بين عديد من القوى والمؤسسات الدستورية أغلبية ومعارضة وقوى سياسية واجتماعية جعل من المؤسسة الملكية راعية له وفاعلة فيه، بحيث أصبح ذلك التعاقد  السياسي يربط بين الملكية، وقوى التحالف السياسي القائد لدينامية الاصلاح الديمقراطي في هذه المرحلة ، في اتجاه إنجاز واستكمال مهام الإصلاح، في إطار ما يتيحه الدستور الحالي من ممكنات سياسية ، والذي سبق له وأن رسم هندسة غائمة للعلاقة بين السلط مبنية على أساس التعاون والتعايش وليس التناقض أو القطيعة، و قد حددت نفس الوثيقة الدستورية بشكل غير محسوم ونهائي  العلاقة بين المؤسسات وجعلتها مبنية على أساس من الوفاق والتداخل مجسدة لمنطق  الاستقرار المؤسساتي والاستمرارية السياسية.

رئيس الدولة يقدم حصيلة سنة
ولأن الملك الرئيس الفعلي للدولة في الدستور الجديد، فإن خطاباته  مُوجهة، وخطاب العرش  يعتبر حصيلة سنوية للمٌنجز على مستوى ممارسة الملك للحكم، حيث قدم حصيلة سنة من ممارسة الملكية للحكم، أو إن شئت الخطاب بمثابة تقرير سنوي لأداء الملكية كمؤسسة دستورية راسخة في المغرب السياسي، سيما أن بلادنا تنأى عن الصراع الدامي حول السلطة، وتستجمع كل جهودها لتفريغها للإصلاح الذي يراعي التدرج بتكامل بين المؤسسات الدستورية و بالتحديد السلط التشريعية والتنفيذية، دون أن ننسى وجود إكراهات تتطلب براغماتية عالية، وتجديدا لآليات العمل وفق تنزيل حقيقي ديمقراطي لمضامين الدستور.

لاوجود لأي أزمة سياسية
وفي هذا الصدد، كانت إشارة الملك، إلى الحكومات السابقة التي أسهمت في تحقيق ما نعيشه اليوم، إشارة هدفها إحداث التوازن بين مختلف الفعاليات السياسية، لكي لا يشعر أي طرف من الأطراف بالانحياز إليه، أو لغيره، حيث نلاحظ عدم الإشارة لا من قريب ولا من بعيد لما سمي بالأزمة السياسية أو الحكومية، وفي ذلك حرص على الإبقاء على المسافة الضرورية مع كل الفرقاء السياسيين وعدم الانحياز سوى لاستمرارية الدولة ومؤسساتها الدستورية.
ويأتي ذلك، بمقتضى ترفع المؤسسة الملكية عن النزاعات السياسية والرهانات الحزبية لبعض الأطراف التي تؤثث الفضاء السياسي العام.
إن الأهم في الخطاب الملكي، تأكيده على بعد الاستقرار السياسي والمؤسساتي المبني على منطق الاستمرارية في بنية الدولة، ولا وجود لأي أزمة سياسية في البلد، كما يحاول البعض أن يُوهمنا بذلك ولا لجمود في عمل المؤسسات الدستورية.
فالملك يقف على نفس المسافة من جميع الفرقاء السياسيين، مُكرسا موقعه كضامن للتوازن في الحياة السياسية بالمغرب، وهذا لا يلغي حقيقة كوننا لا زلنا  أمام تكريس إعلان إضافي للانحياز إلى منطق الملكية الحاكمة التدبيرية شبه التنفيذية، حيث تشتغل الدولة بعيدا عن الخلافات التي يحبل بها الحقل العام، وهي لا تتأثر بمجمل ما ينضح به الصراع السياسي الدائر في الحقل السياسي، مع الحرص على ابداء بعض التوجيهات والمبادرات ومباشرة بعض الصلاحيات التنفيذية الموكولة دستوريا لصالح السلطة التنفيذية.
وكما شكر للحكومات السابقة على جهودها في تفعيل أوراش التنمية، لم يفته التنويه بعمل الحكومة الحالية التي تسعى هي أيضا لإنجاح الأوراش الكبرى للتنمية.

انسجام في الارادة بين الملكية والسلطة الحكومية
ويُمكن هنا تسجيل أن الخطاب الملكي جسد الانسجام والتكامل بين التوجهات الملكية والتوجهات الحكومية الحالية، فلا تناقض بين المؤسستين مادامت الحكومة تعمل على تفعيل التوجهات الاصلاحية للمؤسسة الملكية في جزء كبير من عملها.
وفي هذا الشأن، ساهم الخطاب في رسم أولويات السياسات العمومية وادلى بدلوه في برنامج عمل الحكومة في المرحلة المقبلة بناءا على منطق التعايش بين مؤسستين دستوريتين، والمتمثلة بالدرجة الأولى في الاشارة الى ضرورة تسريع وتيرة التنمية في مختلف القطاعات، و العناية بالاستثمارات خاصة في قطاعات السياحة و الصناعة و الفلاحة، كما حدد المجالات التي كانت حصيلتها محدودة، وتتطلب جهودا كبيرة من طرف الحكومة، وعلى رأسها المجال الثقافي، حيث يحتاج هذا المحور إلى دينامية للنهوض بجوانب التعدد اللغوي و الإثني والثقافي كروافد رئيسة للهوية المغربية في مواجهة التحديات.
كما كان لافتا الإعلان عن الموقف إزاء إصلاح منظومة العدالة وتأكيد نتائجها، وعموما فإن  إصلاح القضاء في مجمله مشروع كبير يتطلب إجماعا وحسما وحزما، وتقديم تلك الخلاصات تأكيد على الاستمرار في تطوير المنظومة التي بدون شك لها علاقة وثيقة بإنعاش الاستثمار، وتوجيه مجموعة من الرسائل إلى الشركاء الاقتصاديين في الداخل والخارج من أجل تحسين مناخ الاستثمار.

البيعة التعاقدية وإمارة المؤمنين
جاء الخطاب الملكي، أيضا لتأكيد استمرارية الدولة، والتذكير بأن صفة الملك كأمير للمؤمنين، يجد مرجعيته في البيعة التعاقدية، المبنية على أساس مضمون واضح وجلي حدده نص الخطاب، بقوله “سيرا على تقاليدك العريقة، لا ينحصر مغزاه فقط في تجسيد ولائك الدائم لخديمك الأول، المؤتمن على قيادتك، وصيانة وحدتك. إنه يؤكد أيضا، وبصورة متجددة، رسوخ البيعة المتبادلة بيني وبينك، للمضي بالمغرب في طريق التقدم والازدهار، والتنمية والاستقرار. كما يجسد وفاءك لثوابت الأمة ومقدساتها”.

فرضيتان في إغفال الحديث عن مصر
وعندما نقرأ الخطاب الملكي في سياقه العربي والدولي والمحلي، باستحضار واقع الأوضاع الجيوسياسية والأزمة الاقتصادية، بل باستصحاب موقع الإسلاميين في العملية السياسية، نجد الخطاب كان واعيا بما يكفي بما يجري، فحديثه عن سوريا، مواصلة لجهود المغرب الرسمي الذي كانت له مع مجموعة أصدقاء سوريا دور متقدم في الموضوع، إلى جانب بعض دول الخليج، فالوضع في سوريا يعيش “الستاتيك” والجمود والانتقال السياسي هنالك ممتنع لحد الآن، لكن بشار الأسد انتهى سياسيا لذلك فالموقف المتضمن في الخطاب الملكي يجسد استمرارية بخصوص موقف المغرب تجاه القضية السورية.
أما إغفال الحديث عما يجري في مصر، فيُمكن ترجيح أن الملف ضبابي هناك، بالإضافة إلى مواقف الدول الكبرى الذي تعتوره صراعات حادة وقوية حول تدبير مرحلة ما بعد الانقلاب.
وتجديد الخطاب تأكيده على موقفه مما يجري في سوريا ومالي وفلسطين، دون الإشارة إلى ما يقع بمصر، أفسره شخصيا بفرضيتين، الأولى:  تتعلق بعدم ارادة المغرب الرسمي التدخل في الشؤون الداخلية لمصر، باعتبار أن تقييمه للوضع هنالك مفتوح على خلافات عميقة داخلية، وقد سبق للملك أن هنأ حكام ما بعد الانقلاب على الشرعية الديمقراطية، وربما تطورات الأوضاع كانت تجعل الموقف مترددا وغير ناضج ولا محسوم ومنفتحا على مبادرات لقوى كبرى لحلحلة الوضع هنالك.
أما الفرضية الثانية: فتتمثل في تفادي أي ارتهان بموقف جاهز وجامد علما أن الوضع لا زال يتفاعل وبالخصوص ما تترقبه الساحة المصرية من مواقف القوى الكبرى في العالم لبحث المخرج السياسي من الأزمة ومخلفات الانقلاب على الشرعية في مصر.

حضور ملكي في القضية الوطنية
ولأن موضوع قضية الصحراء والوحدة الترابية المغربية ليس في صلب عمل الحكومة وحدها، فالخطاب الملكي أظهر أن المؤسسة الملكية لها حضور قوي في مداولة الموضوع، سيما وأن هناك أطرافا خارجية تتدخل فيه، وفي مساره خاصة الجزائر، وهنا كان لافتا الدعوة إلى العناية بملف حقوق الإنسان، كأولوية في المرحلة المقبلة كمدخل لتفعيل مقترح المغرب بمنح الأقاليم الجنوبية حكما ذاتيا.
ورغم ما تتعرض له الدبلوماسية المغربية من انتقادات من طرف بعض الفاعلين السياسيين، أبدى الخطاب رضاه عن أدائها، مشيرا إلى  أنها حافظت على العلاقات الطيبة مع الشركاء التقليديين للمغرب، كما انفتحت على شركاء جدد، لكن هذا لم يمنعه من دعوتها إلى الاهتمام بالمحور الأوربي و الإفريقي كمحورين يجب أن يحظيا بالأولوية في هذه العلاقات.

المشكلة في نسق الحكامة والتدبير لا في بنية السلطة والسياسة
ومن الأمور التي نستشفها من الخطاب أن مشكل المغرب، يرتبط بأزمة في الحكامة وارتباك في التدبير ومحدودية في النجاعة وضعف في الفعالية ، وليست في الشرعية أوفي نهج الحكم ذاته أو في الاستراتيجية المتبعة، أو حتى في التناقض الكامن في المشاريع المجتمعية المختلفة والتي تبدو رهاناتها متناقضة، لأن ذلك مجاله أدنى من أدوار المؤسسة ذاتها.
إذا، ما يُمكن استخراجه من القول المجمل للملك في بسط هذه الحصيلة السنوية،  أن مشروع الدولة ناجز مكتمل لا يتأثر بالتحولات العميقة بل يتكيف معها بمرونة كبيرة، ومشروع الدولة نفسه لا يتطلب سوى رفع في مستوى الفعالية وبذل المزيد من الجهد في إيقاع الإنجاز.
وهنا نلمس تأكيدا دائما على أن للدولة منطق عنيد في إنتاج الاستمرارية، مع الإشارة لخصوصية التجربة المغربية في محيط متحول ضمنيا، التي لا ترتبط أساسا بتغير السياقات والرهانات وبالتبع الحكومات.

مواطنون لا رعايا
أرجو أن تستكمل بلادنا في القابل من الأيام الانتقال التام إلى دولة المواطنين لا الرعايا، بحيث تكون العلاقة بين الحكام والمحكومين مبنية على منطق “المواطنية” وليس الرعاية، وقسط من هذا الانتقال يكون رمزيا وإشاريا وثقافيا.

في أفق “تأنيس” السلطة
إن هيبة الدولة ترتبط بالعدل أساسا وانتهاء، فالعدل أساس الملك، ودورها يتكرس بإقرار السياسات العامة المبنية على الكرامة وبسط الحريات والوفاء للشعب، ورسوخ المؤسسة الملكية، ومكانتها يتصل بتعزيز المشروعية التاريخية والنضالية التحررية بالمشروعية الديمقراطية والتحكيمية والرمزية والدينية، بالحفاظ عل مرجعية الإسلام ضابطا ومحددا للعلاقة بين المجتمع والدولة، أي بالانحياز إلى منطق الملكية الديمقراطية البرلمانية وتكريسها دستوريا وتأكيدها كنهج في السياسة والعلاقة بين المؤسسات الدستورية،
أتمنى -هذه السنة- الانتقال إلى منطق “تأنيس” السلطة، والتي بدأت خطواتها في المبدأ الدستوري الذي تجاوز فكرة أن شخص الملك مقدس .

القطع مع التقليدانية
المطلوب اليوم، إحداث تطوير عميق داخل الثقافة السياسية المرتبطة بالنخبة السياسية أو تلك المحيطة بالمؤسسة الملكية لتصير أكثر ديمقراطية وتحديثا وانفتاحا واندراجا في العصر مع الحفاظ على هويتنا الإسلامية المتنوعة الروافد طبعا.
فالمكانة والقيمة والاعتبار الذي يكنه المغاربة، بكل أطيافهم للمؤسسة الملكية ولأدوارها، يتسامى على كل ذلك التعاطي التقليداني مع البنى العتيقة الموروثة والمتلبسة بها، والتي تشكل عائقا إضافيا أمام تحديثها وتطويرها ديمقراطيا، بل تُعيد إنتاج منظور تحكمي غير لائق بمؤسسة، تسعى إلى  الاندراج في العصر.
*عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.