التليدي: مسيرة حزب الاستقلال وسؤال التوازن السياسي

>
 13.09.24
 كتب الكاتب الصحفي بلال التليدي في عموده بجريدة التجديد مقالا عن مسيرة شباط عنونه بــــ : “مسيرة حزب الاستقلال وسؤال التوازن السياسي” نشرته يومية التجديد في عدد الثلاثاء 24 شتنبر 2013، وهذا نصه:
 
“لا شك أن المسيرة التي نظمها حزب الاستقلال للاحتجاج على قرار الحكومة باعتماد نظام المقايسة سيشكل وحدة أساسية للقياس وتحليل متجهات الدينامية السياسية في المستقبل القريب.
 
طبعا، هناك من سينشغل بالدينامية السياسية اليومية، وسيتجه بشكل أساس إلى استحضار معادلة الانتصار والهزيمة في وسم الفاعلين السياسيين، وسيكون طبقا لهذا التحليل حجم المسيرة، وشكل تنظيمها كما المضامين والسلوكات التي صدرت عنها، وحدات أساسية للقياس والتحليل،  وستكون الخلاصة الطبيعية تبعا لذلك، أنه بهذه الاعتبارات جميعا، لم تكن المسيرة أكثر من مؤشر إضافي على ضعف وهزال وبؤس المعارضة السياسية.
 
لكن مشكلة هذا التحليل الذي ينشغل فقط بالدينامية السياسية اليومية، ودراسة أثرها على مستقبل التوليفة الحكومية، أنه لا يكشف الأعطاب  الخطيرة التي أصابت الحياة السياسية،  ولا يصل استراتيجيات “تأهيل الحقل الحزبي” بواقع مفرزاتها ومخرجاتها،  وأثرها الخطير على مستقبل الحياة السياسية في المغرب.
 
قد يرى البعض طبقا لمعايير القياس ووحدات التقييم المعتبرة في التحليل السياسي اليومي أن  المسيرة التي نظمها حزب الاستقلال أمس الأحد احتجاجا على قرار الحكومة اعتماد نظام المقايسة في أسعار المحروقات،  تقدم دليلا إضافيا على انهيار مصداقية المعارضة وعدم  أهليتها للقيام بالأدوار الدستورية المنوطة بها، لكن، بمنظور التحليل الاستراتيجي البعيد المدى، فالأمر أعمق من أن يكون تقييما لقوة هذا الفاعل على حساب ذاك، أو قدرة هذا الفاعل على قلب الطاولة أو عجزه عن التأثير في عناصر المعادلة السياسية. الأمر مرتبط بآثار سياسات التحكم في الحقل السياسي وما أفرزته من فشل “النسخ الجديدة” للأحزاب الوطنية أو القيادات الجديدة” التي اصطنعت لأداء وظيفة “المعارضة الصدامية”، وعجزها عن ضمان التوازن في الحقل السياسي، وتسببها في إغراق الحياة السياسية بمسلكيات بئيسة لم يعهد لها العمل السياسي نظيرا في السابق لتكون نتيجة التحكم  في مكونات الحقل الحزبي مزيدا من الإضعاف لقواه الحية التي لو تركت لنفسها لقامت بشكل طبيعي بدور حقيقي في إحداث التوازن السياسي.
 
إنه لا مصلحة للحقل السياسي في أن تنهار الأحزاب وتضعف مصداقيتها ويفقد الناس الثقة في رموزها وقياداتها، ولا مصلحة للحياة السياسية أن يفقد التوازن السياسي بغياب المعارضة السياسية أو فقدانها لما تبقى من مصداقيتها الضعيفة أصلا، لكن في المقابل، إذا كانت قوة  المشهد السياسي تتطلب توازنا سياسيا بين  القوى السياسية، فإن هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق خارج قواعد الحياة السياسية الطبيعية، حيث اصطناع القيادات على العين، والتحكم في الداخل الحزبي وتحريك نخب ضد بعض مرة باسم حركات التصحيح، ومرة باسم محاربة الأسر وغيرها من الذرائع التي استخدمت لإحداث شروخ عميقة في الأحزاب الوطنية التي لو تركـت لأمرها لأنتجت نخبها الطبيعية وقياداتها القادرة على خوض استحقاقات المرحلة بامتياز.
 
لا أحد سيفرح في اليوم الذي سينهار فيه حزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي، ولو أنهما يمثلان اليوم خصمين للتجربة الديمقراطية التي يقودها حزب العدالة والتنمية إلى جانب حلفائه، لأن انهيار هذه الأحزاب الوطنية سيطرح سؤال التوازن السياسي من جديد، ولن يستطيع أي حزب من الأحزاب التي انبثقت من خارج رحم الشعب أن تقوم بهذه الوظيفة، مهما تم تحكيم  لغة الحساب الانتخابي، ومهما تم استخدام تقنية التقسيم حينا والجمع والإدماج حينا آخر.
 
إن المعضلة القادمة التي تحدق بمستقبل الحياة السياسية، مرتبطة بالتحديد بإشكالية التوازن السياسي، ومرتبطة في الأصل بهاجس إضعاف الأحزاب التي تقود التجربة الديمقراطية، إذ غالبا ما يستعمل هذا بالمبرر للتدخل في الحقل الحزبي، لصناعة نسخ جديدة من القيادات التي تقوم بمثل هذه الوظائف، والنتيجة في  الأخير أنه لا توازن سياسي تحقق، ولا أحزاب قوية  تبلورت، ولا أحزاب وطنية عريقة بقيت محتفظة بإرثها الوطني، ولا تجربة ديمقراطية ستنجح، لتكون في المحصلة الضحية هي الحياة السياسية التي تفقد شريحة واسعة من الناس الثقة في رموزها وقواعدها الخفية والمعلنة، وتتخلق بعد ذلك  الكيانات العدمية التي لا تنتعش إلا في هذه ألأجواء.
 
خارطة الطريق واضحة، إن التوازن الذي لم نستطع بناءه اليوم، قد نستطيع بناءه غدا،  شريطة مراجعة الوسائل التقليدية العتيقة، وترك الأحزاب لنفسها تقرر مصيرها  بنفسها، وتفرز قياداتها بشكل طبيعي، وآنئذ، فإن التعدد السياسي الموجود في المجتمع سيخلق بالطبيعة توازنه  السياسي.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.