13/10/2013
كثيرا ما يثار الجدل والتعليق والتعليق المضاد حول تفاصيل قضايا أو قرارات سياسية يتم اتخاذها لتحقيق مصلحة يراها أصحاب القرار راجحة ويراها البعض الآخر مرجوحة.. لكن الملاحظ أن تقدير المصلحة قد لا تكون من زاوية عمقها وتأثيرها، وحجمها وسعتها، وكذلك من حيث احتمال دوامها والتقديم والتأخير..، بل كثيرا ما تكون من زاوية حسابات سياسوية أو انفعالية لحظية.
الكلام والمداد الوافر الذي سال بشأن تشكيل النسخة الثانية من حكومة عبد الإله ابن كيران يجعلنا نسجل عددا من الملاحظات:
الملاحظة الأولى: هو أن شقا من التعليقات المنتقدة للتشكيلة الحكومية انتقادات سياسية حزبية، بمعنى أن مواقف صادرة من قيادات وفاعلين حزبيين يصطفون في خانة المعارضة، ولذلك من الطبيعي أن تصدر عنهم مثل تلك الانتقادات، لأنه سياسيا لا يمكن للمعارضة أن تصفق للحكومة أو الأغلبية وزعيمها، حتى لو كانت بعض من قيادات المعارضة مقتنعة في قرارات نفسها بأن هناك مؤشرات ايجابية منبعثة من التشكيلة الحكومية، اللهم إن كنا فعلا نتوفر على أحزاب حقيقة وتؤمن بالديمقراطية فعلا وليس قولا أو ادعاء.
الملاحظة الثانية: هو أن بعض الانتقادات التي وجهت لهذه الحكومة أو لقيادتها وخاصة لعبد الإله ابن كيران لا تتجاوز حد السب والشتم، من قبيل تصريحات بعض قيادات الاستقلال أو الاتحاد الاشتراكي الجديدة، وبذلك لا يمكن اعتبار هذه الملاحظات أو الانتقادات سياسية بقدر ما هو “حقد سياسي” لو جاز التعبير.
الملاحظة الثالثة: تعليقات بعض المحللين، للأسف الشديد، لا تتجاوز العزف على وتر كون هذا الحزب أخذ أكثر عدد من الحقائب والآخر أقل، محاولين إقناع الناس بأن العدالة والتنمية انهزم أمام ضغط “اللوبيات” الحزبية أو السياسية أو غيرهما، وبذلك تبقى هذه التعليقات والملاحظات ضيقة ومتعسفة وقاصرة على الإحاطة بالعمق الذي أنتج هذه التشكيلة الحكومية بغض النظر عن التفاصيل المتوغلة في التسطيح والتنقيص والتبخيس.
لذلك كله، فإنه واضح أن إخراج التشكيلة الحكومية إلى حيز الوجود تحكمت فيه الموازنة بين مفسدتين راجحتين إحداهما مفسدة كبيرة والأخرى مفسدة صغيرة، قدر ابن كيران شخصيا وقيادات العدالة والتنمية من جهة وربما بعض قيادات التحالف الحكومي أن يرجحوا العمل بالمفسدة الصغيرة تجنبا للمفسدة الكبيرة.
لكن الواضح أن أغلب التحليلات أو التصريحات، وللأسف بعضها من قواعد حزب العدالة والتنمية أساسا، ذهبت في اتجاه تقدير أن المفسدة الكبيرة هي التي رأت فيها قيادة حزب المصباح وفي مقدمتهم ابن كيران أنها صغيرة، ما جعل عددا من الأصوات شرعت تلعن السياسة وتكفر بالتوافق أو مصلحة البلد، وكأن هذه المواقف تمجد العدمية.
إلا أن “الحقيقة الحاسمة” التي تبدو معالمها جلية من ثنايا خطاب بعض قيادات العدالة والتنمية أساسا وكذلك من ثنايا تصريحات بعض قادة الأغلبية أساسا يؤشر على أن سيناريوهات ومخططات الإبادة السياسية أو “الانقلاب” الناعم على الديمقراطية كان راجحا، باعتباره مقدمة منطقية إلى مفسدة كبرى، مفادها أنه كان من الراجح أن يدخل المغرب في متاهات سياسية وتأويلات دستورية تعود بنا إلى مغرب ما قبل “الثورة”، أي الثورة على التحكم والفساد والاستبداد والمنهجية الديمقراطية.
ولعل المنطق المقاصدي يقتضي الإقرار بأن دفع هذه المفاسد الكبيرة التي بدت مؤشراتها واضحة في ظل سياق إقليمي ودولي مكشوف مقدم على جلب مصالح قد تكون ضيقة ومحصورة في كم الحقائب الوزارية ومواقع الوزراء للافتخار بالانتصار الموهوم، الذي قد يتحول إلى هزيمة كبيرة وساحقة، وربما أبدية، أمام موجة عاصفة تقف على أبواب مغرب المستقبل والأمل. كما أن القبول بتنفيذ أو إقرار العمل بمفسدة أصغر تجنبا للمفسدة الأكبر أمر مقبول.
وأي لبيب قد يفهم مغزى ومعاني حدث “صلح الحديبية” بعدما غلب الرسول صلى الله عليه وسلم المصالح الحقيقية التي ستفتح لرسالته آفاق المستقبل على اعتبارات رأى أنها مرجوحة رغم أن أتباع الرسول آنذاك تمسكوا بها بشدة، وذلك عندما قبل شروطا قد يعتقد البعض حينها أن في الأمر تنازلا كبيرا سيضر بالمسلمين وبالرسالة، حيث قبل الرسول بحذف البسملة (بسم الله الرحمان الرحيم) المعهودة في الرسالة على أن يكتب مكانها “باسمك اللهم”، ثم يتم حذف وصف “الرسالة” أو الرسول من عقد صلح الحديبية على أن يتم الاكتفاء باسم “محمد بن عبد الله”.. هذا أحد الأمثلة المشهورة التي يعرفها الكثير.. وإلا هناك كثير من الأمثلة التي تصب في ذات المغزى، والتي تظهر المنطق في التفاوض وفي تقدير المصالح ودفع المفاسد أو الترجيح بين مفسدتين راجحة ومرجوحة.
فنحن بالفعل في حاجة ماسة إلى أن نفهم يوما بعد يوم الفقه السياسي استنادا إلى فهم عميق للواقع السياسي المحكوم بعوامل خارجية لا تملك أن تتحكم فيها، على اعتبار أن السياقات السياسية تكون مرتهنة للكثير من لوبيات وعوامل ضغط محلية وإقليمية ودولية.. وهذا من شأنه أن يجنبنا الغلو أو التطرف في التصريحات والمواقف الانفعالية اللحظية، ربما أن الكثير من هذه المواقف تنبني على الخوف من تعليقات الناس ومن استفزازاتهم التي لا تخلو من خلفية سياسية بوعي من غير وعي، ومواقف أخرى تتأسس على معطيات ربما تعوزها الدقة اللازمة.
لكن رغم ذلك كله السؤال الكبير والعريض الذي يتطلب إجابة بعدية وليس لحظية، هل هذه الحكومة ستستطيع أن تحقق آمال الشعب المغربي؟ وهل ستنجز الإصلاحات الموعودة بغض النظر عن التفاصيل؟ وهل سيلتزم الحلفاء بميثاق الأغلبية لتنفيذ انجازات تخدم مصالح الشعب بعيدا عن أي عراقيل؟.. هذا ما يجب أن تجيب عنه الحكومة الحالية، لكن بعد نهاية الولاية التي انتدبت لها هذه الحكومة وليس الآن.
عبد اللطيف حيدة