يتيم يكتب: قواعد في منهج العمل السياسي.. استقراء لقواعد العمل السياسي من مسار وواقع حزب العدالة والتنمية

13.11.02

محمد يتيم*

الحلقة الأولى

  العمل السياسي كما هو معلوم مجال متحرك يتميز بالسرعة والحركة، وتتجدد المواقف بتغير الأحوال والظروف، وهو مجال تختلط فيه المفاسد والمصالح، ومن ثم فهو في نظرنا في العدالة والتنمية “موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك في معترك صعب” في غياب قواعد منهجية عامة تنطلق من تلك المرجعية ومن القواعد المستنبطة،  سواء من ” السياسة الشرعية ” كما يصفها ابن القيم الجوزية، أو من قواعد علم السياسة الوضعي، ومن تاريخ العمل السياسي وتراكم التجربة الإنسانية فيه، قواعد تؤطر التعامل مع متغيراته ومفاجأته. 

هو كذلك ليس بالنسبة لمن ينطلقون من مرجعيات ومنطلقات منهجية أخرى في العمل السياسي، ومن يحاكمونه إلى مقررات ومنطلقات مختلفة عن مقرراتنا ومنطلقاتنا، بل أيضاً بالنسبة لمناضلي الحزب الذين قد تبــهت في فكرهم أو وجدانهم تلك القواعد، بسبب الانخراط في التدافعات اليومية للعمل السياسي، أو بسبب ضعف القدرة على القراءة النقدية في متون عدد من المتون الصحفية التي لا تصمد إذا أخضعت لقواعد “الرواية” و”الدراية”..

والقواعد المنهجية المشار إليها، بعضها ذو بعد علمي اجتماعي، وبعضها الآخر له بعد فكري معرفي، وبعضها له بعد تنظيمي، وبعضها الآخر له بعد أخلاقي، مع الإشارة إلى أن هناك تداخل بين هذه الأبعاد المختلفة. واعتبرناها منهجية  لأنها تعالج الأسس وتسهم في بناء شبكة مفاهيمية تساعد على الفهم والمعالجة، وتغني المناضل عن البحث عن الشروحات والحيثيات والمعطيات التفصيلية التي قد لا يتأتى توفرها عند كل حادثة أو اجتهاد، ومن ثم تختصر الجهد التواصلي الذي يبقى دوما ضروريا، وتمكن المناضل من أن تكون له شبكة تحليل يغربل من خلالها الروايات والأخبار ويتصدى تلقائيا من خلالها للشبهات وحملات التشكيك، ويستطيع من خلالها مقارعة المواقف والآراء السياسية التي تنطلق من مرجعيات فكرية ومنطلقات منهجية وأيديولوجية مختلفة عن مرجعيته ومنطق أتى المنهجية والفكرية .

ونعرض في هذا المقال ومقالات أخرى إذا يسر الله لعدد من تلك القواعد مع الإشارة ما أمكن لبعض تطبيقاتها الواقعية.

أولا: الرسول الأكرم علم المنهج قبل كل شيء.

المتأمل للسيرة النبوية سيلحظ أن الإسلام قد أحدث نقلة نوعية في حياة العرب، حيث نقلهم من حالة البداوة والهامشية إلى حالة من الفاعلية والتحضر. فالإسلام دينا ودعوة لم يأت بنظريات فلسفية أو علمية أو تربوية أو كونية لأنه ليس كتاب “علم” بالمعنى التقني التخصصي لمفهوم العلم، بل إنه جاء برسالة أعادت صياغة الإنسان وترتيب موقعه في الكون وأولوياته في الحياة.

كانت القضية الأساسية التي جاء بها كلمات بسيطة لكنها عظيمة في إعادة بناء الحياة الإنسانية وتمكين الإنسان من القدرة على الفعل بتحديد رسالته بوضوح في الوجود، وتحرير ملكاته طاقاته، فانطلق هذا الإنسان وبدأ ضمن هذا الإطار المنهجي في اكتساب المعارف والخبرات وتطوير القدرات وتدليل الصعوبات وابتكار الآليات.

كثير من المؤرخين يتكلمون عن العصر الذهبي الإسلامي ويتحدثون عن العصر العباسي، في حين أن هذا العصر إنما كان نتيجة لعصر ذهبي حقيقي هو العصر الأول، أي العصر النبوي الذي وضع القواعد العامة للمنهج الذي أهل الإنسان العربي للخروج من حالة ما قبل الحضارة إلى مرحلة الفاعلية الحضارية .

إن تحرير العقل بالدعوة إلى إعمال النظر وترك التقليد والسير على نهج الأقدمين والإبائية وتحري البرهان والدليل وترك الظن الذي لا يغني من الحق شيئا، والحذر من الهوى والبناء التربوي المتوازن للإنسان الذي يساعد على العقل على التحرر من سلطان الهوى والشهوة ويمكن من الاستقلالية

 

ثانيا: بعض قواعد منهجية في تصور العمل السياسي وقواعد الإصلاح

سنعمل هنا لاستدعاء عدد من القواعد ذات الصلة بواقعنا السياسي اليوم وخاصة ذات الصلة بتقييم  المشاركة السياسية لحزب العدالة والتنمية  من موقع التدبير،  وما تثيره من ملاحظات وانتقادات وشبهات وحملات تشكيك:

1.      القاعدة الأولى: قاعدة إن كنت مدعيا فعليك بالدليل وإن كنت ناقلا فالصحة، وهي قاعدة منهجية تولد عنها في الحضارة الإسلامية ترعرع كثير من علوم الآلة والمنهج الضابطة ل “الدراية” مثل علم المنطق، وعلم قواعد العمران والضابطة للرواية مثل علوم الحديث، وخاصة علم مصطلح الحديث. هي علوم تستند إلى قواعد مقررة في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: “قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين “وقوله تعالى” إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس”، وقوله تعالى: “وإن الظن لا يغني من الحق شيئا”، وقوله صلى الله عليه وسلم: “اجتنبوا الظن فإن الظن أكذب الحديث”،  وقوله تعالى: “إذ تلقونه بأفواهكم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم” وقوله صلى الله عليه وسلم: “كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع

وهذه وغيرها مما يضيق المجال هنا ذكره، والتفصيل في مقتضياته كفيلة بتكوين حصانة منهجية ضد “تهافت الأدلة”، حيث لا أدلة في بعض التعميمات والإطلاقات و” التحاليل” المتسرعة في زمن أصبح فيه كل من هب ودب ينصب فيه نفسه محللا سياسيا، أو قائما على مركز دراسات!! أو مركز “بحث” !!!!، ناهيك عن بعض المنشورات الصحفية التي تعودت على اختلاق الأخبار آو الزيادة فيها سيرا على سنة الكهنة والعرافين الذين يسترقون السمع ويتلقون خبرا واحدا صحيحا ويضيفون إليه مائة خبر كاذب وألف استنتاج متهافت، حتى كادت المصداقية الصحافية غائبة إلا فيما نذر، وأصبح اقتناؤك لعدد من الصحف اليومية لا يضيف لك شيئا والأعراض عنها لا ينقص منك شيئا ، والإنذار لا حكم له !!

هي قاعدة أصيلة وأساسية في تكوين شبكة للقراءة والتحليل كفيلة باختصار الجهد وصرفه في العمل بدل تشييعه في نقل الشائعات والمرويات الضعيفة والتحاليل المخدومة الموجهة والموجهة، ولكنها سنة الله في خلقه “وفيكم سماعون لهم”.

 2.      القاعدة الثانية : القاعدة الأخلاقية في القياس وقياس الأولى

وهذه قاعدة متفرعة عن الأولى ومخصصة لها. ونقصد بالقاعدة الأخلاقية في القياس قاعدة حسن الظن، وأن الأصل في تصرفات أعضاء الحزب قيادات وقاعدة هو الحرص على مصلحة البلاد ومصلحة الحزب، وذلك على عكس بعض الفاعلين السياسيين الذين يجعلون سوء الظن هو الأصل، بل إنهم يعتبرون ذلك من الحزم استشهادا بما نسب إلى الأمام على من قول ساقط عقلا وشرعا: “إن من الحزم سوء الظن”، والواقع أن العكس هو الصحيح، فالأقرب للعقل والفطرة السليمة أن نتعامل مع الناس عامة ومع المناضلين منهم بإحسان الظن، وأن نحمل تصرفاتهم على أحسن الوجوه، وأن نجتهد في أعذارهم فنقول: لعلهم قصدوا كذا وأرادوا بكذا كذا …. ( التمس لأخيك سبعين عذرا، فإن لم تجد فقل لعل له عذرا لا أعرفه)، وأن نبتعد عن التخوين أو الاتهام في النوايا أو التشكيك في الدوافعّ، لأن عالم الدوافع والموانع النفسية عالم غيبي والرجم فيه بتأويل إنما هو رجم بالظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا .

ويرتبط بهذه القاعدة العمل بقياس أصيل اختصت به منظومة الاستدلال القرآنية أي “قياس الأولى” المتضمن في قوله تعالى: “لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا سبحانك هذا إفك عظيم”، ومعناه أنك حين تريد الحكم على موقف شخص آخر أو مجموعة أو مسؤول عن تدبير الشأن العام الذي تختلط فيه المفاسد والمصالح، وقبل أن تصدر حكما فضع نفسك مكانه وتساءل هل يمكنك أن تجوز على نفسك أسوا ما ينسب للقائمين على ذلك الشأن، خاصة أن كانوا من أهل الاستقامة والصلاح، وكنت تعتبر أنهم مثلك أو أكثر منك. حريصون على تحري المصلحة العامة وخدمة الوطن؟

يـــتــبــــع..

*عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.