يتيم يكتب : دعاة الدارجة والالتفاف على الرؤية الدستورية للمسألة اللغوية

13-11-05

 محمد يتيم*  

تبرز من حين لآخر، دعوات غير مفهومة، من طرف بعض الفرنكفونيين إلى “الترسيم” العملي للدراجة، واعتمادها لغة، في التعليم، والإعلام، والإدارة.

  ويشتغل هؤلاء، بطرقهم من أجل تمرير دعاوى، لا تستند إلى أساس معرفي أو علمي، وعلى غير أساس من تجارب البلدان التي حققت نهضتها، دون أن تمر ضرورة من خلال استضعاف لغاتها الرسمية والوطنية.

هي دعوة – كما تبين ذلك تجارب في عدة دول عربية إسلامية – تستهدف اللغة العربية التي لا تزال تشكو إلى ربها ظُلم قومها وتُشكك في قدرتها على أن تكون لغة علم وتعليم وتواصل، دعوات تأتي يا للغرابة للالتفاف على المقتضيات الدستورية الواردة في دستور 2011 من أجل إعادة الاعتبار لها. 

دعوات من قوم لا نعلم لهم تمثيلا سياسيا أو انتماء حزبيا، ولا باعا في علوم اللغة أو العلوم المُرتبطة بتجارب النهضة وتاريخها ونماذجها، ولكننا نجدهم يقفزون من قضية إلى قضية، ومن مجال إلى مجال ويشتغلون بمنهج مجموعات الضغط التي تعرف من ” أين تؤكل الكتف ؟” ولو دون “عُزومة ” !!! ومن أجل مناقشة هذه الدعوة نُسجل الملاحظات التالية :

  أولا : لا يُجادل اثنان بأن المغرب شهد ويشهد حالة اختلال في الجانب اللغوي والمتمثل في الوضعية الامتيازية للغة الفرنسية، وهي الوضعية الناتجة عن الاستعمار الفرنسي للمغرب. وهي الوضعية التي تواصلت بسبب أن البعض يعتبر أن العلاقة الاستراتيجية على المستوى الاقتصادي، والسياسي، والثقافي، بين المغرب وفرنسا، وكون اللغة والثقافة الفرنسية أصبحتا تشكلان جزء لا يتجزأ من تاريخنا الثقافي المعاصر كافية كي نتنكر للغتنا ونجهز على وجودها وأولويتها في تعليمنا وإدارتنا وحياتنا العامة.

نعم، اللغة الفرنسية أصبحت جزءََ من بنية الثقافة المغربية بسبب أن جزء كبيرا من نخبنا وطبقات متلاحقة من أجيالنا، أصبحت تتملك وتعيش باللغة والثقافة الفرنسيين، ربما أكثر مما تعيش وتمتلك الثقافة واللغة المغربية، في أبعادها العربية، والإسلامية، والأمازيغية، والحسانية. 

وهو أمر واقع لا يجوز القفز عليه من خلال مواقف “شوفينية”، تطرح المعركة طرحا مغلوطا يعتبر أن الاحتفاظ بمكانة اللغة الفرنسية لا يتأتي إلا على حساب اللغة العربية، وأن إعادة الاعتبار للغة العربية يعني ضرورة مواقف عدائية من الفرنسية لغة وثقافة. هي بالتبع، مكون أساسي من العلاقات التاريخية المغربية الفرنسية بما تختزله هذه العلاقات من حميمية تارة، ومن توتر تارة أخرى، ومُعطى ينبغي اعتباره، وهو أحد الأركان في المصالح الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية المتبادلة بين البلدين. 

وفي المُقابل، ينبغي التأكيد أيضا أن اللغة والثقافة العربية، والثقافة المغربية، بالخصوص بمكونها العربي والإسلامي ومكوناتها الأخرى، هي أيضاً جزء من الواقع الاجتماعي والسياسي، ومن المشهد الثقافي الفرنسي المتنوع، وأنه بقدر ما هنالك مصالح فرنسية في المغرب فهناك مصالح للمغرب في فرنسا. ينبغي إلى جانب ذلك كله، أن نأخذ بعين الاعتبار أنه بالقدر الذي علينا أن نتفهم ما تطرحه قضية المحافظة على الهوية اللغوية والثقافية في فرنسا من إشكاليات وما تثيره من حساسيات إلى الحد الذي تطرح فيه بفرنسا بحدة قضية الاستثناء الثقافي في مواجهة الغزو الثقافي الأمريكي، وما ينتج عن العولمة من تحديات التنميط الثقافي، من حق المغرب والدول التي في وضعيته أن تكون لها مقاربتها الخاصة للمسألة الثقافية والمسألة اللغوية، حيث أنه لا ينبغي أن يُنظر إلى الدعوة إلى إعادة الاعتبار للغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية الأولى للبلاد بأنه موجه ضد اللغة والثقافة الفرنسيتن.

بل فقط حق مشروع، في أن نعيد الاعتبار للغتنا وثقافتنا، وأن تكون لنا سياسة لغوية وثقافية متوازنة ومنسجمة تماما كما تحرص فرنسا وغيرها من الدول على ذلك.

ثانيا : وجب أن نذكر أن دستور 2011، قدم مقاربة متقدمة ومتكاملة للمسألة اللغوية والثقافية، من المفروض أن تنهي حالة الفوضى التي طبعت الوضع اللغوي في المغرب منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، وأن تنهي حالة الاستقطاب السياسي والإيديولوجي في معركة العدالة في توزيع الرأسمال الرمزي، التي ما هي إلا مظهر أو واجهة لمعركة البناء الديمقراطيـ والعدالة الاجتماعية. أي معركة التوزيع العادل الرأسمال المادي ولخيرات الوطن.

آن الأوان، أن ينتهي فيه الزمن الذي كان المغرب فقط لأولاد الأعيان، الذين استفادوا خلال المرحلة الاستعمارية من وضعهم الامتيازي لغويا وثقافيا وتعليميا واقتصاديا واجتماعيا في علاقتهم بالإدارة الاستعمارية. فإذا كان ذلك أمرا مفهوما في ذلك الوقت، أي تحتمه ضرورات أن يكون لتلك الإدارة وسطاء ووكلاء تلتقي مصالحها بمصالحهم ومنافعها بمنافعهم، وكان المعبر الطبيعي لذلك هو اللغة والثقافة، وما يرتبط بهما من علاقات وامتيازات، فإن المغرب اليوم، وجب أن يكون لكل أبنائه سواء تعلق الأمر برأسماله المادي الطبيعي، أو برأسماله اللغوي الرمزي، وأنه لا ديمقراطية اجتماعية، واقتصادية، دون تمييز لغوي أي دون ديمقراطية لغوية.

وأصل هذه، أن نخاطب المجتمع بلغاته الرسمية، ونعلمه بها، ونفرض في القانون كما يفعل الفرنسيون، وغيرهم، استعمال وحماية اللغة العربية، ما نقوله ليس شوفينية أو عُروبية منغلقة ولكنه منطق الأمم المتحضرة التي تحترم نفسها، بل المنطق الذي أسس عليه الدستور تناوله للمسألة اللغوية. لقد أكد دستور 2011 على المقومات التالية في معالجة المسالة اللغوية والثقافية :

1 – تظل اللغة العربية اللغة الرسمية. وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها وتنمية استعمالها.

2 – تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء، ويحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفية إدماجها في التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية كي تتمكن من القيام بوظيفتها بصفتها لغة رسمية.

3- تعمل الدولة على صيانة الحسانية -باعتبارها جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية الموحدة- وعلى حماية اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة في المغرب وتسهر على انسجام السياسات اللغوية والثقافية الوطنية، وعلى تعلم وإتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا في العالم باعتبارها وسائل للتواصل والانخراط والتفاعل مع مجتمع المعرفة والانفتاح على مختلف الثقافات وعلى حضارة العصر.

4- يحدث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية، والثقافة المغربية، مهمته على وجه الخصوص حماية، وتثمين اللغتين العربية والأمازيغية ومختلف التعبيرات الثقافية المغربية والأمازيغية”. من الواضح أن هذه المقاربة المتكاملة تضع في قلب السياسة اللغوية ببلادنا إعادة الاعتبار للغة العربية، وتلقي بالمسؤولية في ذلك على كاهل الدولة، وتعتبر أن تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، مسؤولية جماعية باعتبارها إرثا لجميع المغاربة، وأنها قضية ليست قابلة التسييس أو التطييف، أو التناول الشوفيني الذي يجعل منها ضرة أو خصما للغة العربية، بحيث لايكون إعادة الاعتبار لواحدة منهما إلا على حساب الأخرى.  كما أن إعادة الاعتبار للغة العربية لا يتعارض، ولا يمكن أن يفهم منه عدم التمكن من اللغات الأجنبية الأكثر تداولا في العالم، وأن هذا الخيار كما أنه يشمل التمكن من الفرنسية، فإنه بدرجة أولى يشمل لغات أخرى هي الأكثر انخراطا في مجتمع المعرفة، والأكثر أهلية لضمان التواصل مع الأغلبية الساحقة من شعوب العالم، كما هو الشأن بالنسبة للغتين الإنجليزية والإسبانية. 

ثالثا : ضمن هذا التأطير الدستوري المتوازن والواضح، فإن الدعوة إلى “تدريج” لغة الإعلام والتعليم والإدارة دعوة غير مفهومة، لأنها من جهة تعني استبدال لغة معيارية “دارجة” جديدة على حساب الدارجات الحقيقية الفعلية، والحية في التعامل اليومي.

“المعيرة”، اغتيال للدارجة الحقيقية، على عكس دعواهم اعتماد الدارجة، بمعنى اللغة التي درج القوم على استخدامها، وذلك من أجل دارجة مختبرية، لا هي دارجة الشمال، ولا دارجة الجنوب ، أو دارجة الوسط، أو الشرق !! فلم الإجهاز على اللغة العربية الجامعة، إذا، من أجل إحلال لغة دارجة معيارية صنعت في المختبرات ولم يصنعها الاصطلاح الاجتماعي كما هو مقرر في علوم اللغة ؟

هي دعوة، غير مفهومة، لأن السياسات اللغوية الرشيدة في العالم تتجه أكثر إلى التمكن من لغات العلم،  والحضارة، والانفتاح، أي على مزيد من الانفتاح بدل الانغلاق على لغات محلية، أي أن التوجه العام مزيد من اعتماد لغات تمكن من توسيع دائرة التواصل مع مجتمعات وشعوب أخرى، فما المبرر إذا، للدعوة إلى الانغلاق؟  

وما هذا التناقض بين ادعاء الانفتاح اللغوي؟ إن لم يكن فقط، استهداف اللغة العربية، والسعي إلى تأبيد واقع التبعية اللغوية، للغة فقدت كثيرا من قدرتها التنافسية على المستوى الدولي ؟ 

هي دعوة، غير مفهومة، لأنها في الوقت الذي اتجه فيه المشرع الدستوري، إلى الدعوة لحماية اللهجات داخل اللغة الدارجة، نجد الدعوة إلى إحلال دارجة معيارية، محل لغة عربية معيارية، دعوة لنفي واغتيال هذا الغنى الذي تمثله تلك اللهجات، في نفس الوقت، الذي تنتصر فيه للعودة إلى الهيمنة الكاملة للفرنسية في التعليم، أي لسيادة لغة معيارية، أخرى معتمدة في عدد من الدول الفرانكفونية، وعلى رأسها فرنسا حيث لم نسمع عن دعوات لــــ” دارجة فرنسية”، على حساب اللغة الفرنسية المعيارية المعمول بها في التعليم والإدارة والحياة العامة بقوة القانون .!!!

خامسا : الخلاصة أن استهداف اللغة العربية، من خلال الدعوة إلى إحياء اللهجات واللغات الدارجة واصطناع تعارض بين ترسيمها ولغات شعوب أو جهات، ليس قضية جديدة، بل سياسة استعمارية استخدمت خلال مراحل الغزو الاستعماري في البلاد الإسلامية، سياسة قائمة على ضرب كل عوامل التواصل والتلاحم والقوة والروابط الثقافية والحضارية في الأمة العربية والإسلامية ومن بينها الروابط الثقافية. 

اليوم، في ظل واقع الاستبداد، وواقع التجزئة الناشئ عن خطط التقسيم السياسي للبلاد العربية، منذ سايكس بيكو، يعتبر استهداف اللغة العربية من خلال اصطناع تعارض مزعوم بينها، وبين اللغات الأصلية للشعوب العربية والإسلامية، أو من خلال ادعاء عدم صلاحياتها لاحتضان البحث العلمي والتطور التكنولوجي، أو ادعاء أنها الأصل في المشاكل التي تعاني منها المنظومات التعليمية، وهو ما أنتج دعاوى متناقضة تقوم من جهة على التدريس بلغات أجنبية، وترك اللغة العربية ومن جهة ثانية بالدعوة إلى ترك العربية الفصحى واعتماد الدارجة.

هي دعوة / مغالطة لأن بوابة الخروج من حبال التخلف والفشل السياسي والاقتصادي، لا ترجع في الأصل إلى اللغة أو السياسة اللغوية، فأسباب ذلك الفشل ترجع بالأساس إلى معضلة أخرى هي معضلة الديمقراطية، واعتماد الدارجة يخدم في نهاية المطاف استمرار الهيمنة اللغوية للغة المستعمر السابق لن تنتج إلا أحكام التبعية.. التبعية الثقافية والاقتصادية والسياسية أي عدم فك الارتباط كمدخل من مداخل التنمية، كما يقول علماء اجتماع التنمية مثل سمير أمين.

والأخطر، من استدامة التبعية وعدم فك الارتباط العمل على فك ارتباط إيجابي، وعنصر من عناصر القوة أي الارتباط بيننا وبين محيطنا العربي والإسلامي الذي من المفروض أن يكون فضاءنا الحيوي، خاصة، وأنه ليس مطلوبا منا في هذه الحالة أن نمر بلغة ثالثة للتواصل معه، أي أننا بالإضافة إلى الحواجز السياسية والاقتصادية التي صنعها واقع الاستبداد، نضيف حواجز لغوية وثقافية، بحيث لا يصبح المغربي قادرا على فهم التونسي والجزائري، ولا هؤلاء قادرين على فهم أشقائهم في مصر أو في الخليج والعكس صحيح.  سنفعل في هذه الحالة، بأنفسنا ما لا يفعله العدو بنا.

سنسير عكس تجارب التاريخ القريب والبعيد، التي تُثبت أن غالب الأمم التي حققت نهضتها لم تحققها إلا من داخل لغتها علما أن كثيرا من لغاتها كانت لغات ميتة، ولا تقارن بغناها وحيويتها باللغة العربية. فلهذا، ولغيره من الأسباب، التي ذكرنا، وأخرى، يضيق المجال عن التفصيل فيها، وجب التصدي لدعوات مشبوهة، ومعارضة، مع ما نص عليه الدستور، من سياسة لغوية منسجمة.. دعوات إلى اعتماد الدارجة لغة في التعليم والإعلام والإدارة !!!!

  *عضو الامانة العامة لحزب العدالة والتنمية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.