ماءالعينين تكتب: تقييم السياسات العمومية.. الوظيفة المعطلة

13.11.06

أمينة ماء العينين*

يشير الفصل 70 من دستور 2011 بوضوح، إلى كون تقييم السياسات العمومية من اختصاص البرلمان: “يصوت البرلمان على القوانين ويراقب عمل الحكومة ويقيم السياسات العمومية”. وإذا كانت ممارسة الرقابة على الحكومة متيسرة عبر الآليات التقليدية المعروفة من أسئلة شفوية وكتابية ومناقشة لاستراتيجيات الحكومة وخطط عملها داخل اللجان البرلمانية، فإن السؤال العريض يرتكز اليوم حول غياب آليات فعلية تمكن البرلمان من ممارسة اختصاص مهم يكمن في تقييم السياسات العمومية.

وإذا كان مفهوم “السياسات العمومية” قد ورد في الدستور على غرار مفاهيم أخرى متقاربة ومتشابهة دون توضيح دقيق للمعنى المراد منه، فإن اختصاص تقييم السياسات العمومية هو اختصاص معطل في مغرب ما بعد 2011، ما دام البرلمان يفتقد إلى الإجراءات والآليات والضوابط والإمكانيات المادية والبشرية التي يتطلبها عمل مركب ومعقد من قبيل تقييم السياسات العمومية.

لقد ورد المفهوم في سياق آخر في الفصل 13 من الدستور، حيث يشير إلى أن “السلطات العمومية تعمل على إحداث هيئات للتشاور قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها.” صياغة هذا الفصل تحيل على غموض يكتنف عدة زوايا من دستور 2011، حيث يشير إلى السلطات العمومية وليس إلى الدولة كما هو وارد في فصول أخرى، أو الحكومة في مواقع أخرى، علما أن الحدود بين هذه المفاهيم والمقصود منها في النظام المؤسساتي المغربي في حاجة إلى نقاش عميق.

يبدو من خلال هذا الفصل أن “السلطات العمومية” هي من يعد ويفعل وينفذ ويقيم السياسات العمومية، وبذلك فهي مدعوة اليوم إلى إحداث هيئات للتشاور قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين في العمليات السالفة الذكر. وبغض النظر عن المجهود التشريعي الذي يجب أن يبذله البرلمان أو الحكومة لإخراج الإطار القانوني لهذه الهيئات، فإن السؤال المثار يتمحور حول موقع البرلمان من عملية التقييم، وحول الناظم المنهجي المفترض وجوده بين مضموني الفصلين 13 و 70.

تعتبر لحظة مناقشة مشاريع قوانين المالية التي تحيلها الحكومة على البرلمان، لحظة بروز هذه الإشكاليات بامتياز. فالبرلمانيون يجدون أنفسهم أثناء المناقشة العامة لهذه المشاريع أو مناقشة مشاريع الميزانيات القطاعية داخل اللجان، في حاجة إلى تجاوز المنطق الرقمي الإحصائي والموازناتي، لمناقشة وتقييم الاستراتيجيات والمخططات القطاعية العابرة للسنوات والميزانيات والحكومات، قبل تخصيص اعتمادات مالية جديدة لها. غير أن واقع الحال ينبئ عن عدم توفر البرلمانيين على الإمكانيات والخبرات والوسائل اللازمة للقيام بهذا العمل، فضلا عن كون بنية الميزانية وطريقة تقديمها وعرضها من طرف الحكومة لا يسهل دائما هذه المهمة. وفي انتظار صدور قانون تنظيمي جديد لقانون المالية،  الذي سيدخل مرحلة التجريب مع أربع قطاعات وزارية سنة 2014، والذي يؤمل أن يحمل جديدا في هذا الإطار، فإن البرلمانيين يكتفون بإمكاناتهم الخاصة، حيث تبقى مداخلاتهم انطباعات عامة، لا يمكن أن ترقى في ظل ظروف الممارسة الحالية إلى مستوى التقييم الاحترافي الذي يمكن اعتماده. في الإطار ذاته، تبقى ردود الوزراء وتعقيباتهم على البرلمانيين ردود عامة لا تشكل بدورها مرجعيات للتقييم الجاد.

مسؤولية هذا الواقع، تقع على مجلس النواب ذاته، حيث عجز على تضمين نظامه الداخلي المراجع على ضوء الدستور الجديد، آليات قانونية وتدبيرية وكذا الوسائل المادية الكفيلة بضمان ممارسته لاختصاص هام وحيوي لا يزال محتشما، رغم أن محاولة هامة تمت في هذا السياق، من خلال التوافق على إحداث لجنة جديدة سميت في النظام الداخلي المصادق عليه في غشت الماضي قبل إحالته على المجلس الدستوري بلجنة مراقبة الانفاق العمومي. حيث أشارت المادة 55 من النص المذكور، إلى أن “اللجنة تختص بتدقيق الإنفاق العمومي الذي تقوم به الحكومة من قطاعات وزارية تابعة لها، ومؤسسات، ومقاولات عمومية تعمل تحت مسؤوليتها، من خلال صرف الموارد المالية المسجلة بالميزانية العامة للدولة في الحسابات الخصوصية للخزينة، ومرافق الدولة المسيرة بطريقة مستقلة، وفي ميزانية المؤسسات والمقاولات العمومية، قوانين التصفية، المجلس الأعلى للحسابات.” غير أن الطريقة التي صيغت بها المادة أعلاه، جعلت المجلس الدستوري يعتبرها في رده الصادر بتاريخ 22 غشت 2013 مخالفة للدستور. معتبرا أن مراقبة البرلمان للمالية العامة ينبغي أن يتم من خلال مراقبة عمل الحكومة (باستثناء ما يسمح به للجان النيابية لتقصي الحقائق)، وأن لا تمتد إلى مراقبة القطاعات الوزارية والمؤسسات والمقاولات العمومية مباشرة، لما في ذلك من اخلال بالفصل 89 الذي ينص على أن الإدارة موضوعة تحت تصرف الحكومة التي تمارس أيضا الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية. كما أصر المجلس الدستوري على أن الاختصاصات المقترحة للجنة هي من اختصاص المجلس الأعلى للحسابات الذي يحق للبرلمان الاستعانة به للإجابة عن الأسئلة والاستشارات المرتبطة بوظائف البرلمان في التشريع والمراقبة والتقييم المتعلقة بالمالية العامة وفقا لأحكام الفصل 148.

وفي مراجعته للمواد المرفوضة من لدن المجلس الدستوري، عدل مجلس النواب مقتضيات المادة 55 المتعلقة باللجنة المستحدثة في نظامه الداخلي، ليمنحها اختصاص مراقبة وتتبع الإنفاق العمومي للحكومة ودراسة التقارير الموضوعاتية للمجلس الأعلى للحسابات، وكذا النصوص التشريعية المتعلقة بمراقبة المالية العامة.

كان بإمكان مجلس النواب أن يضمن نظامه الداخلي مقتضيات تسمح له بممارسة اختصاصه في تقييم السياسات العمومية، من خلال تدابير تلزم الحكومة بتقديم كل المعطيات المتضمنة للأرقام والإحصائيات والإعتمادات المالية المرصودة لمختلف الاستراتيجيات والمخططات والاختيارات المشكلة في مجموعها للسياسات العمومية الكبرى، مع توفير كل الإمكانيات البشرية والمالية اللازمة لذلك. وهو الأمر الذي سيتجاوز –إن تم – منطق جلسات المساءلة الشهرية الموجهة لرئيس الحكومة حول السياسات العامة طبقا للفصل 100 من الدستور، والتي لا يمكن الجزم في كونها وحدها يمكن أن تشكل إجراءا برلمانيا لتقييم السياسات العمومية، نظرا للاعتبارات السياسية الضاغطة التي تحكمها من مختلف الأطراف.

لا يمتلك المغرب اليوم مرجعية معتمدة في تقييم السياسات العمومية، لذلك تختلف تقديرات مؤسساته حول مختلف السياسات العمومية بين وصفها بالنجاح أو الفشل أو التعثر. كما تختلف تقديرات الحكومات المتعاقبة حول هذه السياسات استنادا إلى هواجس سياسية أكثر منها مرتكزات موضوعية. وهو أمر لا يخدم منطق الدستور الجديد في ربط المسؤولية بالمحاسبة وتحميل مختلف المؤسسات الدستورية مسؤولياتها تجاه الدولة والمواطن، كل في إطار اختصاصاته وأدواره، بما يمكننا فعليا من الانتقال إلى دولة الحق والقانون.

*نائبة برلمانية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.