رحموني يكتب: تدبير زمن الإصلاح.. طموح شعب وتردد نخبة

13.11.19
خالد رحموني*
طرأت على الساحة السياسية المغربية، بشتى مكوناتها وركائزها ومؤسساتها، خلال السنوات الثلاث المنقضية، تغيرات عميقة ومتنوعة وتحولات فارقة إلى حد بعيد دستوريا ومؤسساتيا، وأيضا على مستوى ميزان القوى العام والمزاج الشعبي.
فمن بين التداعيات الإيجابية المتعددة التي تمخض عنها الحراك الشبابي الممتد شعبيا على مستوى مختلف الفئات والطبقات والأعمار والجهات، والذي شهدته ربوع البلاد بطولها وعرضها، منذ مطلع عام 2011، وبالضبط مع انبعاث الدينامية السياسية التي فجرتها حركة اجتماعية وليدة، تجسدت أول الأمر في 20 فبراير.. حيث انبثقت هذه العملية الاجتماعية الفريدة الانتفاضية في دلالتها لبعث الأمل من جديد في السياسة وإنعاش الفضاء العام وتأسيس سلطة الشارع العام، هدفها الأساس والرئيس هو إعادة هندسة السياسة كخدمة عمومية مرتبطة بالنبل في الممارسة، والعمل على تطوير المجال العام بمختلف جوانبه وأركانه وبنياته، من أحزاب ومجتمع مدني وصحافة وفاعلين في الحقل الاجتماعي، مما خلف استنهاضا جديدا لضمير عديد من الفئات الشعبية التي غادرت ساحة الصراع من أجل انتزاع كرامتها وعنفوانها منذ زمن بعيد، وبالتحديد منذ لحظة النضال من أجل التحرر الوطني وكذا النضال الشرس من أجل دمقرطة الدولة والمجتمع في مغرب ما بعد الاستقلال السياسي.
 
قضايا الشعب أمام عجز المؤسسات عن الفعل
باسترجاع نقدي لمجمل المرحلة بكل آلامها وآمالها العراض الذي انبسطت في الساحة العمومية، وبالتحلي المنصف بقدر معقول من الثقة في صلابة شعاراتها المؤسسة، والتي كانت تحيل على الكرامة والحرية والعدالة والإنصاف…، فإنه يجوز القول إن تحولا ملفتا قد ألمَّ بالعملية السياسية في المغرب، وتدرج على مرحلتين:
§        أولاهما الانتقال في دينامية الاحتجاج الاجتماعي المحدود والمؤقت والفعل السياسي العمومي المؤثر من ثنايا الأروقة التقليدية، ممثلة في الغرف المغلقة بالمؤسسات السياسية والدستورية والقوى الفاعلة في المشهد السياسي الرسمي، كالتنظيمات الحزبية والجمعيات المدنية والبرلمانات والوزارات والقصر، إلى بؤر محض تلقائية تنتج العفوية في السياسة وإدارة الشأن العام وتنداح إلى ساحات للفعل العمومي مغايرة لسالفاتها الرسمية من بنيات ومؤسسات، وهي بذلك لا تعرف للمؤسسية والتنظيم سبيلا، حيث الشوارع العامة وميادين النضال السياسي والكفاح الاجتماعي والسياسي، هي نفسها أضحت تصنع الحدث وتؤثر بعمق في عملية صنع القرار السياسي بشقيه الداخلي والخارجي، بل تكون مبادرة لفرزه أو كبحه.
§        وثانيتهما، تحول الفعل من الهامش إلى بؤرة الفعل الناجز والمبادر، في حركة جدلية تنداح من المركز إلى الأطراف، حيث انتقال مراكز الزخم والتفاعل السياسي من العاصمة والمدن الرئيسية والكبرى إلى القرى والمدن الصغرى النائية التي ظلت لعقود طوال في حالة خصومة بينة أو قطيعة شبه مطلقة مع النشاط السياسي التقليدي بمختلف صوره وأشكاله، وقد أضحت تلك البؤر تنتفض في صمت بما يشبه انتفاضات صغرى حضرية وتتجاوز دينامياتها السقوف المرسومة من الدولة والقوى التقليدية التي من المفروض أن تلعب دور الوساطة الاجتماعية والسياسية والروافع المدنية للنضال الاجتماعي ذي الأفق الجماهيري والامتداد الشعبي، وتنجز ذلك باستماتة نضالية وإصرار غير مسبوق وبتأطير مستمر في الزمان والمكان وببرنامج مرتب وترفع شعارات ومطالب ملحة لتلك الساكنة بعناوين استطاعت أن تلفت الانتباه إلى المعيش اليومي للناس بلغتهم وبأسلوب يراهن على الإنجاز السريع والتحقق التام بالمطالب الحيوية للناس في حدها الأدنى.
ولقد طال هذا التحول السياسي العميق والهادئ، والذي يجري على هامش الحياة المؤسساتية الرسمية المراقبة بعناية، عملية المشاركة السياسية بشتى مشاربها ومستوياتها، بدء بانهيار جدار الخوف من السلطة وإشاعة ثقافة مكافحة الظلم والحكرة والاحتكار، وبتعاظم الوعي السياسي وتنامي الاهتمام بالشأن العام، مرورا بالانضواء تحت لواء الأحزاب والحركات السياسية والتنظيمات المجتمعية والحركات المدنية، وصولا إلى ارتفاع نسبة الإقبال النسبي على السياسة من بوابة المشاركة الانتخابية عبر التصويت في الانتخابات الجزئية بالمناطق النائية وغير الحضرية، ثم انخراط أبناء تلك المناطق، بكافة فئاتهم العمرية وخلفياتهم الاجتماعية والفكرية، في تنظيم تظاهرات شعبية حاشدة لدواع وأغراض متنوعة، على غرار ما تجلى في الحراك الشعبي والشبابي المواكب لـ20 فبراير وما لحقها.
وهو التطور الذي أعاد إلى الأذهان أجواء الحراك الشعبي الهادر الذي غمر تلك البقاع قبل عقود طويلة خلت، حينما تظاهر سكان المغرب العميق تضامنا مع القضايا القومية فلسطين والعراق، استنكارا لغزو أو انتهاكا لهوية أو تهديدا لسلم اجتماعي وأمن عام، ثم انتفض بعد ذلك صدا لعدوان وشيك على مقومات اجتماع الأمة المغربية، الخطة، ودعما للحركة السياسية المباركة والجريئة نصرة للأقصى ودفعا لشبح التطبيع.. هذه الحركة الجماهيرية العامة الممتدة تحولت بفعل هذا التأييد الشعبي الجارف إلى واحدة من أهم الاندفاعات التلقائية للناس في الشارع العام عرفها تاريخ المغرب الحديث انتصارا لقضايا الدمقرطة والحرية والهوية والاندماج الوطني والوحدة وحماية للرحم الموصول مع الأمة.
على صعيد مواز، امتدت عملية تسييس الجمهور ومصالحته بالشأن العام ودعم مشاركته، من خلال إعادة هندسة السياسة في البلاد لتشمل طبيعة ونوعية القضايا محل الاهتمام والتداول والتفاعل السياسي. فبعد أن كان جل اهتمام السواد الأعظم من الناس منحصرا بالأساس في القضايا ذات الطابع الاقتصادي والمعيشي البحت والاجتماعي والاحتجاجي، بدأت أولوياتهم تتسع لتفسح المجال أمام أمور سياسية أكثر تعقيدا وإنسانية، كالمطالبة بالعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وإرساء أسس دولة المواطنة والحكم الديمقراطي، فضلا عن إيلاء مزيد من الاهتمام لمسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات بمختلف أنواعها، علاوة على محاربة الفساد وترسيخ مبدأ سيادة القانون.
 
استعادة المبادرة للشارع المنتفض ودينامية بروز فاعلين جدد
ربما كان التغير الذي اعترى الفاعلين السياسيين في مغرب اليوم هو الأبرز والأعمق أثرا فيها منذ عرفت إرهاصات حراكها الاصلاحي، بدء من مخلفات الانتخابات الجماعية لعام 2009، وما تركته من جروح وآلام وانطفاء شعلة الأمل في السياسة بهذا البلد.
فعلى خلاف ما كان سائدا في ما مضى من انحصار أولئك الفاعلين في الأوساط السياسية التقليدية والمتعارف عليها تنظيميا، كالأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، أظلت خارطة العمل السياسي والحراك المجتمعي في المغرب مؤخرا تغيرات جوهرية مهدت السبيل أمام فاعلين سياسيين جدد، كالجماهير بلا قيادة وغير المنتمية إلى أي فصيل سياسي تقليدي، كما بعض الحركات الشعبية الجديدة المحلية التي تحتاج إلى رصد وتتبع علمي.
فمن بين أبرز الثمار الهائلة التي تمخضت عنها انتفاضة 20 فبراير 2011، تجلت ظاهرة “الجماهير بلا قيادة”، أو ما يعرف في علم الاجتماع السياسي بـ”اللا حركات اجتماعية”، أو في أصول النظم السياسية المقارنة بـ”السياسة من أسفل”. وهو ما يعني صعود دور قوى شعبية مؤثرة في مسار العملية السياسية من خارج الأطر التنظيمية والأوساط السياسية والمؤسساتية التقليدية المعروفة، حيث أقدمت قطاعات متعددة من القاعدة الشعبية العريضة على المبادرة بالفعل السياسي وتوجيه مسار التفاعلات السياسية، بمستوياتها كافة، من أسفل.
وبكلمات أخرى، يمكن القول إن مركز الثقل في عملية صنع القرار السياسي قد انتقل بفعل الحراك الإصلاحي الهادر في ذلك الحين والكامن الآن، والمتواصل بأشكال أخرى في المغرب، إلى الشارع والجماهير بعد أن أضحت اتجاهات التأثير في تطورات العملية السياسية من أسفل، حيث القاعدة الجماهيرية العريضة غير المنضوية تحت لواء أي تنظيمات سياسية إلى أعلى، إذ النخبة السياسية الضيقة، خصوصا تلك التي تعاقبت على تدبير الشأن العام الوطني والمحلي، ممثلة في الفاعلين السياسيين التقليديين المحسوبين على الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني، بعد أن كانت في سالف الزمن تمضي باتجاه واحد فقط من أعلى إلى أسفل.
فلسنوات طوال، ظلت الظاهرة السياسية مختزلة في النخبة السياسية الحاكمة منها والموالية أو حتى المعارضة، وأضحت مغلقة ومحتكرة من جانب أشخاص وعائلات وفئات وتكتلات وقوى بعينها دون عامة الناس، ولما كانت تلك النخبة لا تجد أي غضاضة في مواصلة الاستعلاء على الجماهير معتبرة إياها غير مؤهلة لمباشرة حقوقها السياسية، محتكرة للقرار ومحتقرة للشعب. فقد دأبت الأولى على أن تسلب الأخيرة حقها في التصويت والترشح في الانتخابات، ومن ثم في الرقابة على الحكومة ومساءلة أولي الأمر، ومن هنا كانت حكاية التزوير الخشن والناعم للاستحقاقات الانتخابات والتهييىء لولوج وافدين جدد لمسرح الجريمة الانتخابية القاضية بالارتداد على الإرادة العامة للناس، عبر تزييف إرادة الناخبين والتمديد للنخب السلطوية في سدة الحكم وواجهة لآماد غير محددة، وكذا تمرير القوانين والتشريعات دون الرجوع إلى من يعنيهم الأمر أو من تطبق عليهم، وأكثر من ذلك التوريث الجيلي للفقر والفاقة والهشاشة والتمايزات الطبقية والمجالية والمناطقية والجهوية.
وبينما كانت النظريات التقليدية في علم الاجتماع السياسي تتعامل مع الشارع بوصفه مكونا سكونيا مسلوب الإرادة وتابعا للسلطة يأتمر بأمرها ولا يتحرك إلا في اتجاه واحد مثل “القطيع” لا فعالية له ولا أثر يكاد يذكر، جاءت الانتفاضات الشعبية المتلاحقة لتدحض تلك الأحكام القيمية الجامدة والجاهزة وتثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الشارع قد تحرر من الأسر وأمسى محركا رئيسيا لسياسات عديد من الدول، بوجهيها الداخلي والخارجي وفق ديناميكية ذاتية مستقلة، ودشنت مرحلة انهيار جدار الخوف وانطلاق الألسنة من عقالها.
وبقدر ما تنطوي بين ثناياها من إيجابيات شتى، ليس أقلها إيجاد نوع من الرقابة الشعبية الصارمة والمباشرة على السلطة الحاكمة حتى لا تطغى ويتسلط زعماءها ونخبها، وإنهاء حالة الجفاء المزمنة بين الجماهير والسياسة، وإفساح المجال أمام تعزيز حضور الشباب في المشهد السياسي بعد طول تهميش وإقصاء، لم تنأ عملية إعادة هندسة السياسة في المغرب الوليد بنفسها عن بعض المخاوف والهواجس التي تحاصر مجتمعا لا تزال تجربته الديمقراطية تعتريها الهشاشة والفاقعة، وهي لا تزال في أطوارها الجنينية.
وربما استبد ببعض الأوساط والدوائر السياسية والشعبية قلق من أن يقتطع تغول الشارع وتفاقم تأثير الفاعلين السياسيين الجدد من دور الوسائط السياسية التقليدية، حيث ينتابها تخوف من أن يفضي تزايد شعور الجماهير بالتمكين السياسي وبالاستقلال الاحتجاجي في التعبير النضالي المنفلت من قيد المسؤولية السياسية، بمعنى القدرة على التغيير والتأثير في عملية صنع القرار، كما الاستغناء عن تلك الوسائط نفسها، إلى إبقاء وحصر السياسة في الشوارع والميادين العامة واعتمادها كبدائل عن الأركان والآليات المتفق عليها للعملية السياسية وللحياة الديمقراطية التي قوامها المؤسسات السياسية والأطر الدستورية والأقنية الحزبية والنقابية، على نحو يرتد بنا إلى زمن العفوية في مباشرة النضال السياسي، إن لم نقل اقتراف الديمقراطية المباشرة سبيلا للممارسة السياسية تلك، وبديلا يحجب الناس والجمهور عن ترسيخ دعائم النموذج المتعارف عليه عالميا للممارسة السياسية الأفضل حتى الآن على الأقل، والمتجسد في الديمقراطية التمثيلية والتشاركية.
 
أزمة السياسة من أزمة النخبة القادة فيها
لا مراء في أن ما ذكر آنفا ربما يضع القوى السياسية المغربية، بجملها وبمختلف أطيافها وتوجهاتها، أمام تحد تاريخي لا سبيل أمامها للنجاة من تداعياته السلبية المحتملة إلا بأن تغتنم عملية إعادة هندسة السياسة هذه لتعيد هيكلة بنيانها وبرامجها وآليات عملها، بما يتماشى وما سوف تسفر عنه تلك العملية من تنوع وتحول في الخارطة السياسية والاجتماعية الجديدة، وما يضفي على الانتقال الديمقراطي نكهة الجدية والرسوخ.
ومن ذلك، أن تتواصل بلا إبطاء مع المستويات الجديدة من الفضاء العام من ميادين السياسة الجديدة مرحليا على ألا تدخر وسعا في العمل بجد ودأب من أجل العروج الهادئ والمتدرج بالسياسة والمشتغلين بها من فضائها الافتراضي المؤقت المتمثل في الشارع العام والميادين الفسيحة، إلى الفضاء الواقعي الأبقى والأنسب، حيث الهياكل المؤسسية والأطر الدستورية والقانونية والوسائط السياسية، وأن تعزز من حضورها وتموقعها السياسي والحرص على رشاقتها التنظيمية في الأطراف إلى جانب المركز، وتتبنى مبادئ وأفكارا أكثر واقعية حتى تتمكن من التناغم مع اهتمامات الشرائح الجماهيرية صاحبة التأثير المتنامي.
ومن هذه الشرائح الشباب الذي كان بمثابة كلمة السر في الحراك الإصلاحي المنبعث من رحم الشعب، والذي غمر البلاد كلها جراء الشعور المضني والمزمن لعدد من فئاته وطبقاته المختلفة –وفي قلبها الشبيبة المغربية-بالغبن والتهميش والإقصاء، فضلا عن معاناته المتواصلة من فجوة الأجيال، وهو الشعور الذي عجزت لحد الآن مخرجات العملية الإصلاحية الجارية منذ 2011 (والتي صنع بعض ملامحها هذا الشباب الصاعد والمنتفض ضد الظلم الاجتماعي والفساد العمومي والاستبداد السياسي، والمطالب بإقرار ملكية برلمانية يوزع السلطات بتوازن وتقيم العدالة وتبسط الحريات.. الخ.) قلت عجزت مخرجات العملية الإصلاحية عن تبديد مجمل تلك المخاوف والشكوك والاحباطات المتتالية، وجعلت شعلة الأمل المنطلق يخفت وهجها شيئا فشيئا، بحيث تفضي تلك القوى والطاقات المناضلة – وهي مندفعة بوعي بتحديات المرحلة- إلى التفكير من جديد في تدشين طور آخر من الانتفاض الشعبي ومباشرة تأسيس حركات اجتماعية جديدة وموجة بديلة للاحتجاج السياسي والاجتماعي، حتى وإن تسربلت بأردية مختلفة وتشكلت وفق مسميات أخرى.
 إن تلك الفئات المتعددة من قطاعات الشعب المتبلورة في شكل اندفاعات شبابية لا تزال في مرحلة الكمون تراقب الوضع لحد الآن بمزيد من الحذر والتشكك، عساها تستوعب الطموحات الإصلاحية للشعب وتطلعاته القاصدة للبناء والنهوض والانبعاث، ليبادر –من جديد- لمباشرة مهام قيادة حركة الإصلاح الديمقراطي بلا وسائط –من أحزاب ومنظمات مدنية ونخب – وليفجر موجة انتفاضية جديدة تتوخى تصحيح مسار التغيير  المراد إجهاضه، وتفخيخ بذرة الإصلاح المؤجلة وثورة التطلعات ولمحة الأمل الجسورة المنطلقة مع لحظة التناوب الثاني أو حكومة الانتقال الديمقراطي.
 كل ذلك يندرج في أفق الاستئناف المضني لمسيرة النضال ضد الاستبداد ومواجهة الفساد والكفاح من أجل بسط الحريات وإقرار سياسات عادلة تحقق الكرامة الإنسانية والتمكين السياسي للجمهور، وتدفع في اتجاه مزيد من البحث عن إثبات الذات الفردية والجماعية، وذلك باستعادة الدور المسلوب مثلما حدث في نهاية 2010 وهو، الشعب والشباب منه بخاصة، يراقب موجة الانهيارات والإحباطات المرافقة للآمال التي حملتها تباشير القرن الجديد .
وإذا كانت الانتفاضات الديمقراطية والثورات الشعبية على امتداد البلاد العربية قد أماطت اللثام عن محنة النخب السياسية والفكرية عموما، فإن  أبرز ملامحها تجلت بوضوح في افتقادها القدرة على المبادرة الخلاقة وطرح الرؤى الإصلاحية وبلورة التصورات الفكرية والسياسية الناضجة، والتي تمهد السبيل لتحويل انتفاضة الجماهير التائقة للتغيير وفي القلب منها الشباب، والعمل على تحويل أحلامهم إلى برامج متكاملة قابلة للانجاز ومبادرات بناءة قابلة للتطبيق على النحو الذي يعين على صنع مستقبل أفضل للبلاد والعباد.
وحري بتلك النخب الآن، والتي تسلمت المشعل من جديد، ألا تستسلم لتيار الانحطاط والسقوط في براثن تملق الحكام ولا تزلف الجماهير، بذريعة كونها باتت تحتكر منح صكوك الوطنية والعذرية النضالية والتطهرية، وألا ترتكن إلى ممالأة النخب السلطوية الجامدة، لا سيما بعد أن أكد فشل تجربة القوى والتيارات المتحدرة من رحم الحركة الوطنية في ممارسة السلطة ومباشرة التدبير العمومي بالتحالف مع قوى الحكم، والذي تزامن مع غياب بديل سياسي أفضل يمكن الرهان عليه خلال تلك المرحلة الحرجة والعصيبة من تاريخ التطور الديمقراطي في بلادنا.
هذا علما بأن القوى السياسية ذات المرجعية الإسلامية، ممثلة أساسا في العدالة والتنمية، الأكثر شعبية والأقدر على الإبحار بسفينة الوطن الهوجاء وسط بحر متلاطم الأمواج وبمسؤولية وطنية عالية وتجرد نادر، تتدرج لتتملك ناصية التأثير البالغ والمتدرج في تشكيل الرأي العام إلى حين يجود الزمان بنخب سياسية يمكن الاعتماد عليها والاستغناء بها عن انخراط فوري وفوقي لقوى الجمود السلطوي في الساحة السياسة من جديد وتوليها مهام التدبير السياسي للتغيير في المرحلة، أو مشاركتها -كما تشاء- في إدارة دفة السلطة والقرار في ظل فورة سياسية وترقب شعبي غير مسبوق بُحت أصوات المخلصين والأوفياء فيه بالمناداة باستكمال دورة الإصلاح العام للبلد وإدخال المغرب لنادي الدول الديمقراطية الماضية في طريق التقدم.
إن الأجدر بتلك النخب، على اختلاف مرجعياتها الفكرية وانحداراتها السياسية، أن تقدح زناد أفكارها وتجتهد في ابتكار الأطروحات الفكرية وتتوخى من السبل الفكرية والدستورية وتشحذ خطوطها السياسية، بما يكفل لها ضبط وترشيد عملية إعادة هندسة السياسة في المغرب الجديد الذي لم تتشكل ملامحه النهائية بعد، والعمل على كبح جماح الاندفاعة الهوجاء لخطاب الكراهية الذي أصبح يدمنه البعض منها، بل ولمحاولة تغولها في الشارع، وهي ليست لها العدة لذلك ولا اللياقة أو المراس، بما يحول دون إسقاط هيبتها إزاء المجتمع ونضجها أمام الدولة والنيل من مؤسساتها وإرثها السياسي والحضاري، ويمنع استغلال تلك الاندفاعة أو إساءة توظيفها من قبل أي دوائر أو جهات مغرضة في الداخل كما الخارج.
إن المطلوب الآن قبل أي وقت مضى هو العمل بقوة أكبر من أجل استكمال مسار التحول الديمقراطي المنشود، بما يحقق التوازن المطلوب بين تصاعد تأثير الشارع وتنامي دور الجماهير عموما، والدينامية الملفتة للشباب تحديدا، من جانب، واستعادة الدولة لدورها المتوازن والمؤسساتي، وما يعنيه ذلك من استبعاد الركائز والأسس التقليدية للعملية السياسية والممارسة الديمقراطية واستبقاء المؤسسات والوسائط السياسية من جانب آخر على حيويتها.
لعلها إذن تكون فرصة تاريخية مقدرة، قد لا تتكرر أمام كافة الفاعلين السياسيين في مغرب ما بعد 20 فبراير 2011 لممارسة النقد الذاتي والمراجعة الشاملة من أجل المبادرة إلى الإصلاح وتصحيح المسار وتجديد المنطلقات للفعل التغييري الشامل، توطئة للتكاتف سويا، من أجل الحفاظ على وهج الحراك الإصلاحي من محاولات الإجهاز الجارية أو من ملابسات الاختطاف المتوقعة، والتي تتكالب عليه قوى مضادة ليست لها المصلحة في نجاح عملية الانتقال الديمقراطي، أو مساعي الإجهاض والتقويض التي تلاحقه وتتربص به، والعمل بغير كلل لاستكمال مسيرته وأهدافه التي لم تبصر النور حتى يومنا هذا، برغم كلفته الباهظة التي تكبدها شعب طالما تاق إلى أن يرتشف نسيم الحرية والديمقراطية وينعم بالتنمية والاستقرار، غير أن الحظ لم يحالفه ليدرك شيئا من هذا القبيل لحد الساعة.
*عضو الأمانة العامة ورئيس قسم التأطير الخارجي لحزب العدالة والتنمية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.