محمد الطويل يكتب: علم سياسة من وجهة نظر عربية/ إسلامية: في الحاجة إلى تأسيس معرفي متحيز

محمد الطويل*
07-05-14    
(1)
بات ازدهار الفكر السياسي في أي مجتمع بمثابة عنوان كبير ودلالة واضحة على مدى تقدمه وحيويته. وهي حقيقة تؤشر عليها العديد من الدراسات المتنوعة لتاريخ المجتمعات والأمم: فكانت بارزة في المجتمع العربي الإسلامي حين ظهر فيها أمثال الماوردي وابن تيمية وابن الأزرق وابن خلدون وابن رشد؛ كما نراها بارزة في الحضارة الغربية الحديثة –والتي تولي عناية خاصة لعلم السياسة– فظهر فيها أمثال ميكيافيلي وطوماس مور وهوبز ومونتسكيو وروسو وآخرون.
هذا، وقد شهدت الأمة العربية الإسلامية في الآونة الأخيرة اهتماما متزايدا بالفكر السياسي، الأمر الذي اعتبره كثير من المفكرين العرب والمسلمين أحد أهم مظاهر طور الانبعاث الحضاري الذي نمر منه. وهو الاهتمام الذي يستدعي منا ضرورة إيلائه عناية خاصة ليأخذ مداه كي يتحقق ازدهار هذا الفكر في سياق المجال التداولي العربي/الإسلامي معبرا عن مرجعية الأمة ومدركاتها الجماعية. وهو الأمر الذي لن يُكتب له التمام إلا من خلال إقامة مدرسة عربية/ إسلامية مخصوصة في علم السياسة. مادام علم السياسة في أبعاده الكبرى علما خاصا بالمسائل الكبرى والعامة لمجتمع ما، هو هنا بالضرورة المجتمع العربي مجتمعيا وتاريخيا، والإسلامي رسالياً وحضاريا.
ولعل هذا الوعي سيجلي مجموعة من الحقائق التي ظلت غائبة على الوعي المعرفي العربي/الإسلامي وهي أن علم السياسة الذي تلقيناه، كما كل العلوم الاجتماعية، إنما هو علم سياسة المجتمعات التي درسنا ذلك العلم فيها، وهي المجتمعات الأوربية الغربية، وليس علماً شمولياً كما يراد لنا أن نؤمن.
وهو السبب الذي يكمن وراء عجز علم السياسة بصبغته الحالية عن النفاذ إلى عمق البناء الفكري والثقافي للمجتمع العربي. حيث ظل هذا العلم –المؤسس شأنه في ذلك شأن باقي العلوم على مقولات وضعية– قاصرا عن التجاوب مع معطيات الواقع العربي والإسلامي. بل إنه في كثير من الأحيان ما انعكس سلبا على بنية المجتمع العربي مُعمقا أزمة هويته ومُكرسا تبعيته (انظر سيرج لاتوش في «تغريب العالم»).
 
(2)
وإلى جانب ما ذُكر، فإن شيوع الاعتقاد بين العديد من العلماء والمفكرين بأن العلم عموما –بما ذلك علم السياسة– متحيز بطبعه، مثله في ذلك مثل أي سلوك إنساني ( انظر في ذلك كل من: توماس كوهن في «بنية الثورات العلمية»، وعبد الوهاب المسيري في «التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد»)، ساهم – أي هذا الاعتقاد– في إتاحة الفرصة مجددا لكي تنخرط المجتمعات العربية الإسلامية في تقديم إضافة نوعية على مسار تشكُل علم السياسة، في أفق بناء وصياغة أطر معرفية ومنهجية ومفاهيمية لعلم سياسة أكثر تفسيرية وإنسانية.
ولقد بادر إلى تأسيس هذا الجهد العديد من الرواد الأوائل من المفكرين العرب، والذين رفضوا منطق الهيمنة العلموية، كما ناهضوا أي مصادرة لحقهم في الاجتهاد والإبداع (عصمت سيف الدولة في مشروعه التأسيسي «نظرية الثورة العربية»، بالإضافة إلى مقاربات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بصدد موضوعه عن «أسلمة المعرفة»). فأقدم العديد من المفكرين المعاصرين على اجتراح مكامن الأزمة التي تُعانيها الحضارة الغربية في مختلف المجالات بما في ذلك المجال العلمي والمعرفي، من خلال تفكيك مضامين هذه الحضارة والعمل على إعادة تركيبها في ضوء نموذج معرفي مفارق للنموذج المعرفي الغربي المادي.

(3)
إن الحديث عن مدرسة عربية/ إسلامية في علم السياسة أمر تسنده عدة مبررات، كما تستدعيه العديد من الحاجيات الحيوية لأمتينا المجتمعية والملية، كما المجتمعات الإنسانية. ولعل أهم هذه المبررات بروز رغبة جامحة في تجاوز الانتقادات العميقة التي بات يوجهها العديد من الإبستمولوجيين والباحثين الغربيين والعرب للأسس والمقولات الوضعية المؤطرة لفلسفة العلم عموما، وعلومه الاجتماعية والإنسانية على وجه الخصوص. فضلا عن الانتقادات التي شككت في قدرة العلوم الاجتماعية على تفسير سلوك الإنسان باعتباره كائنا رساليا ومتفردا متجاوزا بطبعه لحدود الطبيعة وقوانينها (أنظر د.عصمت سيف الدولة حين يتكلم عن «جدل الإنسان»، أو أنظر كتاب «الإنسان ذلك المجهول» لصاحبه ألكسيس كارل»).
ففلسفة العلوم الطبيعة والاجتماعية الراهنة تشكلت تحديدا على قناعة راسخة مفادها أن الإنسان ليس سوى ميكانيزم طبيعي، وأن الحالة العقلية الإنسانية ما هي إلا تعبير عن انفعالات جهازه العصبي. وفي هذا السياق اجتهد العديد من العلماء الغربيين في وضع حساب فيزيائي ومعادلات كيميائية للتعبير عن الحالة الإنسانية. ليُختزل الإنسان بعد ذلك إلى مجرد كومة من الأرقام والمعادلات.
هكذا خلصت حركة العلم المعاصر- كما هي في النسق الفكري والمعرفي الغربي– إلى إفراغ الكون من أي معنى للوجود. كما أضفت على العلم طابعا إمبرياليا، يرفض إثبات الحقيقة من خارج العلم. فاستغنى الناس عن الشعر والدين والفن والقيم، على أساس أن كل هذه الأمور لا تقدم شيئا إضافيا للعلم. لقد صاغت الحضارة الغربية مفهومها للعلم ومنهجه بعيدا عن العقل المجرد أو عن أي مرجعية متجاوزة للطبيعة، فمنهجت الوجود وحركته في إطار علاقة تفاعلية بين الإنسان المادي والطبيعة المادية بمعزل عن أي بُعد قيمي أو مرجعية متجاوزة.
غير أنه، ومع بدايات النصف الثاني من القرن الماضي برزت حركة مضادة للمقاربة الوضعية للعلم، وتمكنت هذه الحركة العلمية –في أهم إنجاز لها– من تجديد الوصل بين العلم والقداسة، وذلك من خلال إعادة النظر في طبيعة العلم، وتقديم صياغة جديدة لأسسه. فبدأ الحديث عن تزايد ترسخ القناعة بأن العلم ليس حقلا خاليا من القيم، مادامت القيم هي التي تؤطر رؤية المجتمع العلمي للعالم.
بل هناك من الدراسات النقدية التي ترى بأن وجه الأزمة المعرفية والمنهجية والوجدانية في الحضارة الغربية ليس مقتصرا على أن فلسفة العلوم صيغت بمعزل عن القيم، وإنما في كون هذه الفلسفة صيغت في ضوء القيم التي أفرزها نمط التطور الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع الصناعي الحديث. لأنه ما كان بإمكان الحضارة الغربية أن تتقدم لولا اعتماد طبقاتها المهيمنة على قوة العلم الوضعي وفائض قيمة العمل الإجبارية وشبه الإجبارية. فنمط التقدم هناك يقوم على التحكم في علاقات الإنتاج ومراكمة فائض القيمة لمصلحة الطبقات القائدة، على حساب كدح الطبقات العاملة وبؤسها. وهو ما يرقى بقضية مراجعة الفلسفة الغربية من مجرد محاولة لنقض النهايات الوضعية لفلسفة العلوم الطبيعية والاجتماعية إلى مستوى نقض المنظومة القيمية والمعيارية والأخلاقية المرتبطة بها، والتي رُكب على أساسها النمط التطوري في الحضارة الغربية.
وعلى أساس من هذا النقد/ النقض، ظهرت العديد من الدراسات العلمية في المجال العربي الداعية إلى ضرورة فك الارتباط بين الانجاز العلمي الحضاري البشري ومجمل الإحالات الفلسفية الوضعية بأشكالها المختلفة. والعمل على توظيف هذه العلوم ضمن ناظم معرفي ومنهجي غير وضعي، وذلك من خلال مُعاودة النظر في فهم التماثل بين قوانين العلوم الطبيعية وقوانين الوجود الكونية المركب على أساسها القيم الدينية والثقافية (أبو القاسم حاج حمد «إبستومولوجيا المعرفة الكونية»).
ولعل النجاح في الاضطلاع بهذا التحدي سينقل الفكر العربي والإسلامي المعاصر إلى مستوى فهم أعمق للمأزق الحضاري والعالمي. وبالتالي سيمنحه الفرصة لطرح الوجه الفلسفي المقابل للناظم المعرفي والمنهجي الذي تستمد منه الحضارة العالمية المعاصرة تركيبتها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية.

(4)
وإن كان ما تعرضت له هذه المقالة سلفا من وجه العموم المرتبط بموضوع علم سياسة عربي ودواعي الحديث عنه، فإن وجه الخصوص يتجلى في كون علم السياسة الغربي يعتمد مفهوما للسياسة يستبطن قيم الصراع والداروينية الاجتماعية، مما يفرز مجتمعا سياسيا تنعدم فيه قيم التراحم والتكافل، كما تختفي فيه كل الفضاءات التي تحتضن مثل هذه القيم وتعتني بها، وعلى رأسها العائلة. لتبرز في المقابل قيم التعاقد والفردانية والداروينية الاجتماعية، وتبرزها معها المؤسسات المستفيدة من ترسخها كالدولة مثلا. فيتغول جهاز الدولة ويهيمن على كل مناحي الحياة في مقابل انعدام أي سلوك مقاوم. فترسخ الدولة هيمنتها بإعادة إنتاجها المعنى للحياة بمنطق سلطوي، يدفع إلى الاعتقاد بأن الدولة مكمن توحد القيم وتكاثفها.
هذا في الوقت الذي تتأسس فيه الابستمولوجية السياسة الإسلامية على ضوء فلسفة «السلم». وهي المقاربة التي تمنهج الرؤية لحركة الوجود في ضوء تفاعل متوازن بين الغيب والإنسان والطبيعة، من دون أن يستلب مستوى معين قوانين حركة المستوى الآخر.
وتأسيسا عليه، فالسياسة ضمن المجال التداولي العربي الإسلامي ليست إلا قياما للأمر بما يُصلحه شرعا، وهو ما ينأى بالسياسة عن أي موطن من مواطن الصراع. لا سيما وأن الخبرة السياسة العربية الإسلامية حافظت على توازن المجتمع في علاقته مع الدولة، بل كان المجتمع العربي في الأصل مكتفيا بذاته قائما على حاجياته، في الوقت الذي كان دور الدولة هامشيا إلى حد ما.
والسياسة وفق هذه الرؤية تتصف بالشمول والعموم، فهي مفهوم يُخاطب كل عضو في الجماعة داعية إياه إلى العناية بشؤونه الحاصة والاهتمام بشؤون الجماعة. فيصبح موضوع علم السياسة العربي موضوعا متجاوزا لدراسة ظاهرة السلطة وطرق تنظيمها، ليُقارب ويجترح مفاهيم وقضايا أكثر رحابة وامتداد.
هنا يبرز التراث العربي الإسلامي كمنظومة متكاملة مؤهلة للمساهمة في منح العالم فرصة مهمة لكي يُعيد تأسيس وإحياء علم السياسة المعاصر، من خلال توظيف المقدرات الاجتهادية للعقل العربي والإسلامي في تعاطيه مع المسألة السياسية من خلال ارتكازه على فكرة «رعاية المصالح» بدل فكرة «تنظيم الصراع حول السلطة».
فمن جهة، فإن التراث العربي الإسلامي بمرجعيته التجاوزية يختزن قدرة مهمة في التعاطي مع قضايا السلطة خلافا للرؤية الغربية لعلم السياسة. ومن جهة أخرى هناك من العوائق ما قد يحول دون تجديد الخبرة العربية الإسلامية في هذا المجال، بسبب استحكام العقلية الإحيائية والانكفائية بتكريسها عقلية نصية ومنهج فقهي تجزيئي وغير واع بقيمة الدراسات الإبستمولوجية والفلسفية. مما يفرز لنا أنماط سياسية تحول دون توظيف الطاقة العربية الإسلامية، والتي هي بالأساس طاقة تتفاعل فيها النخبة مع الجمهور بشكل متوازن ومتفاعل، يرفض الغوغائية كما يرفض النخبوية.
*  باحث دكتوراه بجامعة محمد الخامس السويسي

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.