العثماني يكتب: الدرس الديمقراطي التونسي

سعد الدين العثماني*
يتفق اليوم مختلف المراقبين والمحللين على أن الانتخابات التونسية الأخيرة كانت إنجازا ديمقراطيا رائعا للشعب التونسي.
هذا الشعب الذي أبدع ثورته ضد نظام بنعلي الديكتاتوري، وأعطى بذلك انطلاقة التخلص من الأنظمة الشمولية في المنطقة، وتوالي ما سمي بربيع الثورات إلى دول لم يكن أحد يتصور أن رؤساءها سيتهاوون بمثل هذه السرعة. 
ولم يكن كثيرون يتوقعون هذا المرور السلس والسريع لتونس إلى الاستقرار والبناء الديمقراطي، ولاهذا التنظيم الشفاف والنزيه لأول انتخابات حرة في تاريخ تونس، إلى حد أن الأمين العام للمنظمة العربية لحقوق الإنسان وصفها بأنها تعد “أنزه انتخابات” جرت في المنطقة العربية خلال الثلاثة عقود الأخيرة، ووصفها بأنها كانت “عرسا للديمقراطية”.
 ولا شك أن الباحثين ستتوالى دراساتهم عن هذه التجربة الديمقراطية بمثل الزخم الذي سيدرسون به التجربة الثورية التونسية وإنجازاتها.
وتنبع أهمية هذه الخطوة الأولى بانتخاب “المجلس الوطني التأسيسي” في كون مهامه حاسمة في المرحلة المقبلة. فهو الذي سيتكلف بصياغة دستور تونس الجديد، وإقامة سلطات تنفيذية جديدة، والقيام بمهام التشريع خلال الفترة الانتقالية التي ستمتد حتى تنظيم الانتخابات العامة وفق الدستور الجديد.
وإذا كان المغرب سباقا في المنطقة إلى القيام بالإصلاحات الديمقراطية، فإن الدرس التونسي قد تجاوز اليوم على أكثر من مستوى المدى الذي وصلت إليه تجربته. ونكتفي بالوقوف عند ثلاثة دروس لهذه “الثورة الديمقراطية التونسية”، قد لا تكون الوحيدة، لكنها ذات دلالة.
وتعتبر المشاركة المكثفة أولها. فقد فاقت نسبتها كل التوقعات فقاربت التسعين بالمئة، وكشفت عن تعبئة واسعة داخل الشعب التونسي لتحقيق أهداف الثورة والمنع من انتكاستها. وربما يكون من أسباب ذلك أنها المرة الأولى التي ينتخب فيها الشعب التونسي وهو لا يعرف ما ستفرزه صناديق الاقتراع، ومن الفائز ومن الخاسر. ولأول مرة في تاريخه يشارك في انتخابات لا يشعر بأن أطرافا تتحكم فيها من وراء ستار،  وتتحكم في نتائجها. وهكذا يثبت مرة أخرى بأن الثقة في العملية الانتخابية والثقة في نزاهتها ومصداقيتها شرط أساس لإقبال المواطنين عليها.
أما الدرس الثاني فهو اعتماد “هيئة عليا مستقلة للانتخابات” على غرار ما يتم في أكثر من نصف دول العالم. وهي تضم منتخبين من قبل مجلس حماية الثورة في تونس إضافة إلى ممثلين عن المحامين وهيئات حقوقية ونقابة الصحافيين  ومحاسبين. وتتكلف الهيئة بإعداد الانتخابات والإشراف عليها  ومراقبتها، وبإعداد وضبط لوائح الناخبين بتونس والخارج والنظر في الطعون  المتعلقة بها.
كما تتكلف ثانيا باقتراح تقسيم  الدوائر الانتخابية وقبول الترشيحات، وتتكلف ثالثا بالسهر على الحملة الانتخابية  تنظيما ومتابعة ومراقبة  احترام قواعد الحملة الانتخابية. وتتكلف رابعا بتنظيم عمليات التصويت والفرز وتلقي الطعون والبت فيها واعتماد  الملاحظين والمراقبين التونسيين والملاحظين الدوليين في مكاتب  الاقتراع. ثم تتكلف أخيرا بالإعلان عن النتائج وتقديم التقرير النهائي. وبهذا توارت وزارة الداخلية لتسهر على أمن العملية الانتخابية، وتركت لخبراء ومختصين وقانونيين عملية الإشراف عليها وإدارتها. وهذا لا شك من العوامل التي أسهمت في الثقة فيها وبالتالي الإقبال عليها.   
ومن الإضافات ذات الدلالة أن رؤساء وأعضاء مكاتب الاقتراع لا يعينون من قبل الإدارة، ولكنهم يترشحون من مواطني الدائرة الانتخابية. ولذلك لم تجر الانتخابات للتونسيين في بعض الدول مثل الأرجنتين والبرازيل وبلغاريا وغيرها لأنه “لم ترد أي ترشيحات تخص رؤساء وأعضاء مكاتب الاقتراع”. ولم تعتمد اقتراحات البعثات الدبلوماسية، على اعتبار أنها تمس بحياد الإدارة.
أما الدرس الثالث الذي تقدمه التجربة التونسية لأختها المغربية فيرتبط بمشاركة الجالية التونسية من خلال تخصيص  18 مقعدا من أصل 217 هم مجموع أعضاء الهيئة التأسيسية. وقد وقع توزيعها على ست دوائر انتخابية. ومرت الانتخابات بها في سلاسة وبنسبة مشاركة فاقت الخمسين بالمئة. وبهذا يظهر مرة أخرى بأن التذرع المستمر للحكومة المغربية بالأسباب التقنية واللوجستيكية لمنع مغاربة العالم من المشاركة في بلدان الإقامة في الانتخابات الوطنية لا تستند إلى أي أساس.
إن هذه الدروس وغيرها تطرح تحديا حقيقيا للديمقراطية المغربية، وتفرض علينا المضي إلى الأمام بجرأة لتجاوز النقص الحاصل في طريقة تدبير الشأن السياسي، والعمليات الانتخابية منه بالخصوص، والقطع مع عقلية التحكم في النتائج وإخراج الخرائط على المقاس ومع ترك المجال للنفوذ المالي وشراء الذمم ليؤثرا على سير العملية الانتخابية. فهل سننجح في الامتحان؟

*رئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.