حامي الدين يكتب : مائة سنة على معاهدة الحماية..قراءة استرجاعية1/3

عبد العلي حامي الدين*
يعرف ليوطي أول مقيم عام في المغرب الحماية بقوله: “إنها بلد يحتفظ بمؤسساته وحكومته وإدارته بنفسه مع أجهزته الخاصة تحت إشراف بسيط لدولة أوربية تحل محله في التمثيل الخارجي وتتولى بصورة عامة إدارة جيشه وماليته وتقوده في تطوره الاقتصادي”.
ويرى البعض الآخر بأن الحماية هي “رابطة تعاقد contractuel تقام بين دولتين وبموجبها فإن إحدى هاتين الدولتين، مع رغبتها في أن تحافظ بنفسها على وجودها بوصفها صاحبة سيادة، تسلم الدولة الأخرى ممارسة عدد من حقوق السيادة الداخلية والاستقلال الخارجي مقابل الدفاع عنها ضد الهجمات الداخلية والخارجية ومساعدتها في تطوير مؤسساتها والمحافظة على مصالحها.
ولكن هذه التعريفات تتناقض مع حقيقة الوقائع والأحداث التاريخية، فلا يوجد هناك مثال في التاريخ لدولة ولو كانت ضعيفة أو متخلفة يشهد بأنها تضع نفسها برضاها تحت رعاية دولة قوية. فالحماية في الواقع التاريخي هي”أسلوب في الإدارة الاستعمارية استعيض به عن الضم نتيجة ظروف دولية أو داخلية أو اقتصادية، إنها إخفاء الإدارة المباشرة وراء ستار الإدارة غير المباشرة”. كما أن الأوضاع الداخلية لفرنسا آنذاك لم تكن تسمح لها بالتورط في موقف الضم المباشر، فقد كان هناك تيار قوي داخل البرلمان الفرنسي وفي الصحافة ضد أي تدخل استعماري جديد، لأن من شأنه أن يثير مشاعر العداء عند المواطنين المغاربة، كما أنه يجبر فرنسا على  توظيف جزء من قوتها العسكرية بعيدا عن الحدود الألمانية التي كان يرابط فها العدو الحقيقي لفرنسا آنذاك، كما أن تجربة المقاومة الجزائرية لم تكن تبعث على التفاؤل من سياسة الضم، بينما ظل النموذج التونسي مفضلا، وهو ما قوى الاتجاه نحو إقامة نظام مماثل في المغرب.
وفي قرار إحدى محاكم الاستئناف الفرنسية في 30 دجنبر 1929، جاء فيه “أنه استنادا على معاهدة الحماية 30 مارس سنة 1912 التي نظمت الحماية في المغرب والشروط التي نفذت من قبل الطرفين المتعاقدين يستنتج بصراحة أن المغرب بقبوله حماية فرنسا قد تنازل لصالحها عن جزء من سيادته الخارجية ولكنه احتفظ بتمامية سيادته الداخيلة وبحرية التصرف بالسلطات الدينية، وبالقسم الأعظم من سلطاته التنفيذية والتشريعية والقضائية”.
ولذلك فإن  معاهدة 30 مارس 1912 التي حمل بنودها المبعوث الفرنسي رينو إلى فاس ليوقعها السلطان عبد الحفيظ بالرغم من أنها تبدو في الظاهر كمعاهدة بين “حكومة الجمهورية الفرنسية والحكومة الشريفية” إلا أنها في الواقع عقد من طرف واحد بموجبها فرضت فرنسا قانونها وشروطها”.
تتألف هذه المعاهدة (نص المعاهدة موجود في :
-Documents diplomatiques français. 3ème série, Tome 2 n° :278(
‎من 9مواد التزمت فيها فرنسا إزاء السلطان بالمحافظة “على الحالة الدينية واحترام هيبة السلطان التقليدية وممارسة الشعائر الدينية، وعلى المؤسسات الدينية وخاصة مؤسسات الأوقاف” المادة 1 الفقرة 2.
وتعهدت فرنسا بمساعدة السلطان وحلفائه “ضد أي خطر يهدد شخصه أو عرشه أو يعرضه للخطر هو وبلاده (المادة 3)، وتركت له حق إعلان التدابير التي يتطلبها نظام الحماية الجديد، وكذلك الشأن بالنسبة للتشريعات الجديدة والتعديلات التي تدخل على المعاهدات القائمة، ولكن”بناء على اقتراح الحكومة الفرنسية” (المادة 4)، وبالموازاة مع ذلك حصلت فرنسا على موافقة السلطان على “إقامة نظام جديد يتضمن الإصلاحات الإدارية والقضائية والاقتصادية والمالية والعسكرية التي تراها فرنسا ضرورية” (المادة 1 الفقرة2)، وأن تقوم”باحتلال أي منطقة مغربية ترى احتلالها لها ضروريا للمحافظة على النظام العام وعلى سلامة المبادلات التجارية وأن تمارس عمل البوليس في البر وفي المياه المغربية (المادة2)،وأن يقوم “ممثلو فرنسا وقناصلها بتمثيل وحماية رعايا ومصالح المغرب في الخارج ويتعهد السلطان بألا يبرم أي اتفاق ذي صبغة دولية بدون موافقة مسبقة من الحكومة الفرنسية (المادة 6).
وتكشف المادتان (7و8) عن أهداف الحماية التي تجعل المغرب موضوعا للاستغلال من الناحية الاقتصادية والمالية فقد ضمت المادة 7 “الحقوق المخولة لحاملي سندات القروض العامة المغربية”، وتعهد السلطان في المادة 8 “بالامتناع عن عقد أي قرض عام أو خاص في المستقبل بصورة مباشرة أو غير مباشرة والامتناع بأي شكل كان عن منح أي امتياز دون إذن الحكومة الفرنسية”.
ولكي تضمن فرنسا موقع الإشراف والهيمنة على الشؤون العامة وعلى كل مؤسسات الدولة، فإنها عملت على إحداث منصب المقيم العام “الذي يمثل فرنسا لدى السلطان ويتمتع بكل سلطات الجمهورية في المغرب، ويسهر على تنفيذ هذه المعاهدة ويكون وسيط السلطان في علاقاته مع ممثلي الدول الأجنبية ويكلف بصورة خاصة بكل المسائل المتعلقة بالأجانب وتكون لديه باسم الحكومة الفرنسية سلطة الموافقة ونشر كل المراسيم الصادرة عن السلطان (المادة 5). وأعطت المادة الأولى لفرنسا الحق في التصرف بمعزل عن السلطان في جزء هام من شمال المغرب وجنوبه بالاتفاق مع إسبانيا، وعلى إعطاء طنجة مركزا خاصا.
وتم إرفاق المعاهدة برسالتين تفسيريتين تنظمان اتفاقا بين رئيس اللجنة الفرنسية رينو والسلطان ليس له طابع دولي ويهدف إلى تسوية وضع السلطان وعائلته وما يتعلق بممتلكاته ومرتبه ومرتب أعضاء أسرته ( أبدى رينو تساهلا كبيرا في هذه النقطة، ولكنه أكد أن الموافقة النهائية على هذه المسائل متعلقة بقبول معاهدة الحماية).
وقد وجد الفرنسيون صعوبات كبيرة في الإقناع بهذه البنود بحيث عبر السلطان عبد الحفيظ قبل بدء المفاوضات بأنه يفضل التنازل على العرش على قبول نظام ينتقص من سيادته، وقد حاولت فرنسا إقناعه بجميع الوسائل معتمدة سياسة الترغيب والترهيب، لأن فكرة التنازل على العرش اعتبرتها خطرا كبيرا على مشروع الحماية.
كما اعترض السلطان على بعض البنود التي تنتقص من سيادة المغرب (كالمادة 2) التي تعطي الحق لفرنسا في احتلال أي جزء من المغرب ترى ضرورة احتلاله عسكريا.. كما رفض التنازل عن مدينة طنجة..إلى غير ذلك من التحفظات المعتبرة، ولكن السلطان عبد الحفيظ لم يكن يملك الحرية اللازمة للتفاوض ونجحت الدبلوماسية الفرنسية في فرض شروطها، معززة في ذلك بتواجد القوات الفرنسية في فاس.
ويشك البعض في صحة النص الذي نشرته وزارة الخارجية الفرنسية باعتباره النص الأصلي للمعاهدة، فقد سبق لوزارة الخارجية الفرنسية أن رفضت طلبا للمؤرخ المغربي عبد الرحمن بن زيدان في أخذ صورة من النص الأصلي للمعاهدة الذي وقع عليه السلطان ليسجلها في تاريخه عن مكناسة الزيتون، وذلك بحجة أن الوثيقة سرية ولا يناسب الظروف آنذاك عرضها.
 وهو ما يعزز الشكوك في صحة النص المعلن عنه في وثائق الخارجية الفرنسية.
في الحلقة القادمة نناقش السياق السياسي للمعاهدة وانعكاساتها على السيادة المغربية.

*أستاذ القانون الدستوري بكلية الحقوق بجامعة عبد المالك السعدي

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.