حامي الدين يكتب : العلماء والموقف من الإصلاحات قبل الحماية3/3

عبد العلي حامي الدين*
قامت النخبة المغربية بمحاولات جدية في محاولة للإجابة عن سؤال التحديث في المغرب، وتجنب الوقوع في يد التدخل الأجنبي المتربص بالحدود المغربية، ويقصد بالنخبة المغربية آنذاك مجموع العلماء الذين كانوا يقومون بأدوار سياسية واجتماعية واضحة.
ونقصد بالعلماء ما ذهب إليه عبد الله العروي في تعريفه “لطبقة” العلماء ب”المتخرجين من المدارس الإسلامية الكبرى كجامع القرويين بفاس ومدرسة ابن يوسف بمراكش والذين يتمتعون بنوع من الاستقلال مهما كانت وسائل عيشهم”، ويركز عبد الله العروي على ظاهرة الاستقلال –النسبي طبعا- ويستثني من هذه الطبقة كتاب المخزن وكبار التجار وهم أيضا من متخرجي المدارس الدينية.
وقد حاول المولى عبد العزيز تنظيم العلماء في طبقات معلومة ليحولهم إلى شبه موظفين، غير أن المحاولة جاءت متأخرة ولم تمس إلا قسما ضئيلا من المجموعة المعنية.
غير أن استقلال العلماء لم يصل أبدا في المغرب إلى ما عرفته بلاد إسلامية أخرى مثل الإيالة العثمانية، ولكنه كان حقيقيا بحيث جعل منهم زعماء طبيعيين لسكان الحواضر كلما لحق بهؤلاء ضرر وكانوا في حاجة إلى من يعبر عن تذمرهم.
وعندما نتأمل في بعض الردود التي كان ينجزها العلماء، مثل الرد الذي كتبه العلماء برئاسة قاضي الجماعة بفاس سنة 1297هـ… على طلب الدول الأوربية بإعطاء رعاياها من النصارى واليهود الحرية الكاملة في المغرب ومساواتهم بالمغاربة المسلمين في جميع الحقوق، نشعر من خلال هذا الرد كأننا أمام جمع موحد من العلماء يشكلون رابطة (حزبية أو عصبية) قائمة على العلم وتدافع عن الإسلام والمسلمين.
والحقيقة هي أنهم كانوا “يدافعون” عن الإسلام وعن مصالح المسلمين بجهد كبير، ولكنهم لم يستطيعوا أبدا أو ربما لم يفكروا قط في نظام يجمعهم كتنظيم محكم وقوة يتمكنون بها من إحداث الضغط والتهديد للدفاع عن الإسلام والمسلمين أو حتى عن مصالحهم الخاصة، بل كانوا مشتتين يعملون بشكل فردي، مثل موقف (كنون) أو (التادلي) من ضريبة المكس، والنكبة التي تعرض لها محمد الزرهوني لما خالف فتوى بقية العلماء حول السماح لليهود بالحمام، وموقف أحمد العراقي الذي رفض تسليم ذعيرة مالية للإسبان إثر حرب تطوان، وموقف محمد بن عبد الكبير الكتاني ضد التنازلات التي قدمها السلطان عبد الحفيظ إلى فرنسا، ومعارضته لسياسة عبد الحفيظ بصفة عامة حتى ذهب ضحية ذلك، كما سنرى لاحقا…
 وهكذا كانت المواقف الفردية، والممارسات الشخصية هي التي تميز وضعية العلماء ومواقفهم وقراراتهم، رغم أن الخطاب الرسمي للسلطة أو غيرها كان يتوجه إلى العلماء كقوة جماعية، فما الذي كان يمنعهم من العمل بنظام التنظيم الجماعي؟
يبدو أن السياسة الرسمية التي كانت تسعى إلى تقسيم العلماء عبر استمالة بعضهم، وتعريض بعضهم الآخر للتنكيل والقمع، ومواجهتهم بسياسة الارتزاق المالية، إلى جانب اختلافاتهم الطرقية والمذهبية والسياسية، وغير ذلك من الأسباب حالت دون تنظيمهم في تكتلات جماعية، وقلَّلت –نسبيا- من تأثيرهم في مجريات السياسة اليومية.
ومع ذلك فقد تمكنوا من القيام ببعض المبادرات لإصلاح جهاز المخزن، فقد كان المسجد بمثابة دار ندوة أو برلمان دائم، فيه تقرأ المراسلات السلطانية التي تتضمن عادة تعيين موظف أو الخبر عن حركة أو استشارة، فيه تعقد البيعة وتحرر ملتمسات الاحتجاج. كما كانت المساجد والجوامع تلعب في المجتمعات الإسلامية -وخاصة عن طريق خطب الجمعة- دور وسائل الإعلام المعاصرة في إبلاغ الأحداث وإخبار المسلمين بالمستجدات، فليس غريبا أن نجد باي تونس–مثلا- عند الإعلان عن الميثاق الدستوري لأول مرة سنة 1850م، يبعث بنسخ منه إلى أئمة الجوامع ليكون موضوع خطبة الجمعة، وذلك ليس بقصد الإعلام فقط، وإنما قصد كسب الشرعية للحدث الجديد من طرف جماهير المسلمين.
فلا غرابة إذن أن يكون العالم المعروف بورعه واستقامته وتجنبه أصحاب المصالح لسان حال الجماعة المتضررة من الإصلاحات المنجزة أو المقترحة من قبل الأجانب…
 فكل إصلاح كان  يهدف إلى تشجيع التجارة الخارجية كان يبدو للسكان وللعلماء كارثة اقتصادية واجتماعية، باستثناء الناصري الذي كان له موقف أكثر انفتاحا على الخارج…
وهكذا فقد عارض العلماء سياسة المخزن التي كانت تحاول تقنين حرية التبادل التجاري، فقد كان القناصل يقولون للمخزن بأن التجارة هي عنوان التمدن وسبيل الرفاه، وبقدر ما يكثر التجار الأجانب والمخالطين لهم من المغاربة بقدر ما تنمو الثروة العامة وترتفع مادة الجباية، مما يمكن المخزن من تحقيق برامجه الإصلاحية، ولا بد من تشجيع التجارة بتطمين التجار على نفوسهم وأموالهم، وأحسن طريقة لبلوغ ذلك الهدف هي القيام ببعض الإصلاحات القانونية وذلك بإقامة محاكم مزدوجة يسيرها العمال والقناصل، وتفصل بسرعة في النزاعات الحاصلة بين التجار الأجانب والمغاربة مسلمين كانوا أو يهود.
من الواضح أن هذا “الإصلاح” القانوني والقضائي كان موجها أساسا ضد سلطة القضاة والعلماء، وهو ما نفهم معه سبب معارضة العلماء لهذه المقترحات آنذاك.
كما كانت للعلماء دوافعهم الخاصة التي تحفزهم على معارضة الإصلاحات: فعندما فشل القناصل ولم تتحقق رغبتهم في إقامة محاكم مختلطة بدؤوا يفرقون بسخاء بطاقات الحماية، فكثر عدد المحميين الذين لا يمكن للقائد أو القاضي أو المحتسب أن يتدخلوا في شؤونهم دون إخبار القناصل، فلاح في الأفق خطر خروج جل الرعية عن سلطة المخزن وتحول السلطان إلى مجرد زعيم ديني لا سيادة له ولا نفوذ فعلي، وكان العلماء ومنهم القضاة والأئمة والمفتون والنظار يعيشون يوميا هذه الحالة البئيسة ويرون نطاق الشرع  يضيق سنة بعد سنة، لهذا السبب شنوا حملة شعواء على المحميين المسلمين وعلى الجناح الإصلاحي داخل المخزن وداخل الطبقة التجارية كما يشرح ذلك ـ بإسهاب ـ عبد الله العروي في كتاب الجذور.


*أستاذ القانون الدستوري بكلية الحقوق جامعة عبد المالك السعدي

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.