المساري يكتب : باطل أريد به باطل

محمد العربي المساري*
 انشغلت في الأيام المنصرمة بالمراجعة الأخيرة لكتابين لي سيصدر أحدهما بتطوان والثاني ببيروت. ولما كنت، نتيجة مرض مهني متأصل، أطيع نداء المطبعة بالأولوية، فقد انشغلت تقريبا عن الضجة التي نشبت بشأن دفاتر التحملات للسمعي البصري العمومي. ثم إنني لم أكن قد اطلعت على نص الوثيقة، ولهذا صعُب علي أن أتحمل كِبْر الحديث عن شيء كنت أجهله.
 وقد سبق لي أن أبديت وجهة نظر، بكيفية عابرة، بشأن منع إشهار اليانصيب، وكذلك أتيح لي أن أذكّر برأيي بشأن استعمال الدارجة في وسائل الإعلام، وعبرت أيضا بمناسبة بث شريط سينمائي عن اليهود المنحدرين من أصل مغربي، عن رأيي المعروف في موضوع من هذا القبيل. وحينما كان بعض الزملاء يلحون علي كي أبدي رأيي في دفتر التحملات للسمعي البصري العمومي كنت أكتفي بالقول إن هناك حملة على وزير الاتصال، وأنا أريد ألا أشارك في تلك الحملة خاصة وأنها اتسمت بخلط وأُلبست لبوسا إيديولوجيا، وسقطت في السياسوية. وأظرف ما تردد في الحملة هو أن دفاتر التحملات التي أتى بها وزير الاتصال “تبتعد عن المهنية”.
وانبرى موظفون لينصبوا أنفسهم زورا كمدافعين عن “استقلالية” السمعي البصري العمومي، وهو ادعاء يمكن وصفه على الأقل بأنه مفاجئ، لأنهم هم صانعو أطول نشرة أخبار في العالم، التي ما فتئت تعتبر أكثر النماذج إغراقا في الستالينية الإعلامية، وهم الذين أهدوا 65 بالمائة من المشاهدين المغاربة إلى الفضائيات الأجنبية. إنه غير مقبول من هذا الطاقم أن يتحدث عن انعدام المنهجية التشاركية، ولا عن الغيرة على استقلالية الإعلام العمومي، وهو الذين نقلوا الإعلام العمومي إلى إعلام رسمي، بالذات بعد تحريره. لكن هذا ما أسفرت عنه حصيلة ما يزيد على عشر سنوات تحسب للحزب السري. إن ما جرى تطبيقه طيلة أكثر من عقد من الزمان هو مجرد قرارات عشوائية هي بنت نزوات أفرزت وضعا وصفه “الكتاب الأبيض عن المجتمع والإعلام” بأنه “هش”، حيث لاحظت الوثيقة أن متابعة المرفق العمومي هي “في انخفاض منذ أواسط التسعينيات” من القرن الماضي، وذلك لظروف أجملها الكتاب الأبيض في الخصاص الملحوظ في الجودة “المرتبطة بالاختيارات السياسية والمالية”.
 ومن الكلمات الغليظة التي ترددت وكانت بمثابة كلمة السر في الحملة أن دفتر التحملات يروم “أسلمة” الإعلام، وهي ذريعة أريد بها استعداء أطراف سياسية ضد أخرى، بغرض استباق يقوم على شن هجوم لصالح الفَرْنَسة التي استشرت في العشر سنوات الأخيرة، كشكل وقح لمعاكسة ميولات المجتمع. وحسب ما جاء في دفتر التحملات، كما صادقت عليه الهيئة العليا للسمعي البصري، فأن الدفتر يحدد للقناة الثانية 20 بالمائة من البث للفرنسية، في حين أن ما هو مكرس الآن هو أن حصة الفرنسية في القناة المذكورة تبلغ 25 بالمائة من زمن البث. وأصحاب الحملة لا يقيمون كل هذه الضجة من أجل 5 بالمائة دفاعا عن “التعدية اللغوية” كما قيل، بل من أجل التعبير عن استيائهم من الإنصاف الذي وقع في حق النشرة العربية التي حشروها في الهزيع الأخير من السهرة، وجعلوا النشرة بالفرنسية في وقت الذروة. ولم يحفل أحد في غمرة الحملة بأنه وقع إحلال الأمازيغية في درجة ملائمة. إنهم غير معنيين بالأمازيغية ولا بالدارجة فبالأحرى بالعربية، هم يريدون فقط فرض التفوق للفرنسية، بعد أن تمكنوا من طرد الحرف العربي من الشارع المغربي.
 وهذا السلوك كما لا يخفى هو معاكسة صريحة للجمهور. إن أرقام “ماروك ميتري” تقول إن أكثر البرامج جمهورا في شبكة القناة الثانية هي بالأغلبية البرامج الناطقة باللغة العربية. وهذا هو الحال منذ سنوات، وهو ما يتأكد شهرا بعد شهر. ثم إن الجمهور المغربي الذي يُقبل عموما على القنوات الأجنبية بكيفية ملفتة، لا تزيد نسبة المقبلين منه على القنوات الأجنبية (غالبا الفرنسية) على 2 بالمائة كما جاء في الكتاب الأبيض. وقد أوردتُ في بحث قدمته لأكاديمية المملكة المغربية استنادا إلى الأرقام التي بين أيدينا، أن القنوات الناطقة بالفرنسية تأتي في المرتبة الثانية عشرة في إقبال المغاربة، بنسبة مشاهدة تمثل 0.5 بالمائة فقط. ومن بين أكثر عشرة برامج إقبالا في القناتين معا لا يوجد أي برنامج ناطق بالفرنسية (مجلة الأكاديمية عدد خاص باللغة في الإعلام). ولا يخفى أن التوجيه الذي كان جاريا به العمل من قبل أن ينتبه الوزير الخلفي إلى صلاحياته هو ذلك الذي كان يطبقه الحزب السري الذي كاد يتحول إلى حزب أغلبي في طبعة جديدة لولا “20 فبراير”. وهذا الحزب هو الذي سخر مرافق عمومية لتدبير وقفة احتجاجية مفبركة بمناسبة الرسوم الكاريكاتورية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، كما تلاعب بالنار في نوازل أخرى مشهورة وهو الذي عمل على إبعاد “مليكة مالك” عن الشاشة بد أن ساهمت مع زميلات أخريات وزملاء آخرين في توطيد الانفتاح الديموقراطي بفضل أداء مهني جاد وهادف، بغرض تطوير المشهد السياسي والثقافي في البلاد، ودعم الحوار الوطني المتمدن.
 إن الحيل اللفظية التي أطلقت بمناسبة دفتر التحملات لا يقصد بها إلا خلق أجواء لخلط الأوراق ولتضبيب الرؤية في المشهد السياسي الوطني، في الوقت الذي بدأت تظهر مبادرات لتهيء تنزيل أحكام الدستور بطريقة سليمة. وقد أسند الدور في هذه المرحلة إلى موظفين واجبهم هو تطبيق الضوابط المتخذة عبر المساطر المعمول بها، وطبقا للنصوص التي تحدد لكل دوره في العملية الإعلامية وهم موظفون غير مخولين بأن يعبروا عن مواقف المهنيين، لأنهم غير منتخبين. وواجب الحكومة تجاههم وأن تنبههم إلى ضرورة التقيد بالضوابط. وأن تضعهم عند حدود صلاحياتهم الوظيفية. إن الحملة تبين أن الموضوع ليس هو اللغة ولا الخط التحريري. وكل الذرائع التي استعملت إن هي إلا باطل أريد به باطل. إن المتدخلين في الحملة لا يريدون العربية ولا الدارجة ولا الأمازيغية، بل التشويش على المرحلة الهامة التي دخلها الشعب المغربي بتفعيل الدستور وإعمال المبدأ الذي أعلنه جلالة الملك وهو الاحتكام إلى التأويل الديمقراطي. لقد فُتح مسلسل طويل النفس، وتحفّه رهانات يجب أن يربحها المعنيون بالديمقراطية لمواجهة المستفزين وجيوب المقاومة.


عن  جريدة “أخبار اليوم” عدد 23/04/2012

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.