رحموني يكتب : الصراع السياسي حول الإصلاح

خالد رحموني*
1- الإصلاح موضوعا، والإصلاح أداة
  أصبح الإصلاح مطلبا ملحا للجميع لا ينتظر التأجيل أو الإرجاء، وهو بذلك يعكس خللاً داخل هندسة الكيان السياسي والمؤسساتي للدولة، وفقرا بينا في صميم البنيان الاجتماعي العام الذي يتوجه إليه الجهد الإصلاحي، لقوى التغيير وزعماء الإصلاح وقادة الرأي من مثقفين ومفكرين وحركات اجتماعية ودعوات تغييرية ، يسعون من خلال ذلك الجهد والمسعى إلى تجاوز أعطاب الدولة وعلل المجتمع، بغية الوصول إلى حالة أعلى وأفضل من الأداء السياسي للنسق المؤسساتي للدولة والانجاز الحضاري لأهداف التقدم وتطلعات الترقي للمجتمع .
ولعل أصعب عمليات الإصلاح تلك التي تتوجه نحو المجتمع السياسي برمته، وتسعى من خلاله إلى إحداث تغييرات بنيوية وقيمية تمس البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية برمتها، وهذا ما هو مأمول في حركية الإصلاح في السياق الراهن.
لا تتعلق صعوبات الإصلاح في المجتمع السياسي—وأقصد بذلك المجتمع الذي يمتلك استقلالية في رسم القوانين وتحديد السياسات العمومية الحاكمة للمؤسسات الاجتماعية— بتعدد القوى الاجتماعية والمؤسسات المدنية المؤثرة في حركة المجتمع والمحددة لوجهته والحاملة لمشاريعه النهضوية، بل تكمن تلك العقبات في التداخل العضوي لدوائر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، واعتماد إصلاح كل منها على إصلاح بقية الدوائر الأخرى بالإشتراط والارتباط.
وبالتالي فإن عملية الإصلاح عملية مركبة، تحتاج من ناحية، إلى رؤية واضحة وأهداف محددة، كما تحتاج من ناحية أخرى، إلى تعاون وثيق ومستمر بين مجمل القوى الاجتماعية والفعاليات الاقتصادية ومؤسسات المجتمع المدني ومراكز صنع القرار السياسي.
ومن هنا فإن الحديث عن معضلة الإصلاح في مغرب اليوم يتطلب منا، بدءاً تحديد طبيعة الخلل في المجتمع السياسي المغربي، كما يتطلب تحديد القوى الاجتماعية المستفيدة منه، وتحليل أولوياتها والمصالح التي تسعى إلى تحقيقها والمعبرة عنها، ومن ثم البحث في الآليات أو المقاربات اللازمة لتحقيق المشروع الإصلاحي الحاملة له.
-2في الحاجة الى امتلاك المشروع الإصلاحي الشامل
الإصلاح مفهوم ديناميكي، يشير إلى رغبة في استبدال حال اجتماعي و سياسي قائم وسائد، بوضع أفضل منه، وبالتالي تحقيق أوضاع اجتماعية توفر لأبناء المجتمع حياة تتلاءم واحتياجاتهم النفسية والمادية وتطلعاتهم الحضارية. وتنبع الحاجة إلى الإصلاح من شعور أبناء المجتمع بعجز المؤسسات المجتمعية القائمة عن تحقيق العيش الكريم.
فالإصلاح إذن، حركة ارتقاء تدرجي من حال أسوأ إلى حال أحسن منه، من حال يشوبه فساد أو سوء إدارة لمؤسسات الدولة، أو إجحاف في توزيع الثروة العامة، أو غياب عدالة في التوزيع وفي المساواة في الفرص المناسبة المنبنية على كفاءة الأفراد، إلى حال يقل فيه الفساد وسوء الإدارة ويتحقق معه قدر أكبر من العدالة في التوزيع والتكافؤ في الفرص .
وقد تجلى ذلك السعي الإصلاحي بوضوح، وبشكل دوري في تفجر انتفاضات حضرية مكرورة، وانفجارات ذات طابع اجتماعي تحت قيادة إطارات نقابية ورافعات سياسية معارضة للحكم أو من خلال حركات اجتماعية عفوية.
كما يمكن تلمسه في فورات احتجاجية قطاعية أو انتفاضات مناطقية، ضد احتكار طبقة أو فئة محدودة للثروة، وحرمان القوى الاجتماعية المحرومة من الاندراج في دورة الإنتاج، وحرمانها من الخدمات الأساسية، ومن مشاريع البناء وتوفير الماء والكهرباء والتعليم والصحة والتشغيل، والحق في حيازة أنصبتهم في الثروة الوطنية .
ولقد امتدت مطالب الإصلاح لترتبط بجملة من الأوضاع التي تميز المرحلة الراهنة من تطور المجتمع المغربي، لعل أكثرها وضوحاً تلك التي تتعلق بتقييد العمل السياسي خارج دائرة قواعد نمط التدبير العمومي المبني على التحكم. كما ارتبطت دعوات الإصلاح بتقييد حرية الصحافة، واحتكار النشاط الإعلامي العمومي وعمله على تدجين الجمهور، من خلال تقييد حرية الصحافة من الجرائد والمجلات التي تؤطر نشاطها الدولة بشكل توهيمي وتشويشي، والإعلام المرئي والمسموع الذي يخضع مباشرة لسلطة الدولة العميقة المخزنية.
وعلى الرغم من أن هذه المطالب تعود إلى لحظات الانفتاح السياسي لتسعينيات القرن الماضي، فإنها أدت إلى زيادة حدة الأصوات الداعية إلى إصلاح النظام السياسي، والتي بلغت أوجها في هذا العقد المنقضي مما سمي بالعهد الجديد بعد الانتقال السلس والهادئ للملك مطلع هذا القرن .
بيد أن مطالب الإصلاح بلغت أشدها، في سياق ربيع الثورات العربية المتفجرة، بالإضافة إلى الآثار السلبية المترتبة عن انخفاض معدلات النمو الاقتصادي إلى أدنى حدوده من جراء الأزمة الاقتصادية العالمية، منذرة بكارثة اقتصادية كادت تهز أركان النظام السياسي برمته، إذا ما استمر الوضع على حاله.
ولقد اتسعت دائرة النقد السياسي العلني، والاحتجاجات الشعبية لنمط الحكم وللتدبير السياسي للتوجهات الاقتصادية الليبرالية التي انتهجها الحكم وقواه الاجتماعية والتي خلفت أثارا اجتماعية واقتصادية كرست المزيد من الفوارق وأنتجت التفقير والاستبعاد الاجتماعي والهشاشة.
3 – نقد الخطاب الرسمي حول الإصلاح ونهاية المفهوم الجديد للسلطة 
بعد الانتقال الهادئ للملك، على إثر وفاة الملك الراحل الحسن الثاني، حدد الملك محمد السادس معالم خطته الإصلاحية ومشروعه الموسوم بالديمقراطي الحداثي، مؤكدا عدداً من التصورات والمبادئ التي داعبت مخيال الشارع المغربي لحظة انبثاق ما سمي في حينه بالعهد الجديد، وأعطته أملاً جديدا بصناعة واقع أفضل.
فقد انتقد العديد من الممارسات التي سادت خلال السنوات الأخيرة من التدبير العمومي في المملكة في عهد الملك الراحل، وشدد على أهمية تغيير أساليب عمل أجهزة الدولة، وأكد على التزام الدولة  بمبدأ جديد لعلاقة الدولة بالمجتمع تحت مسمى العهد الجديد، وأكد على الحوار منهجا واحترام الحقوق أفقا، وسيادة القانون كأسلوب حكامة، وحرية الرأي والتعبير، وإصلاح الجهاز الإداري للدولة.
ولقد لاقى خطاب الملك الإصلاحي هذا تأييداً واسعاً في الأوساط الشعبية وكذا النخب السياسية في لحظة انفتاح سياسي محدودة، وتنفس الناشطون السياسيون الصعداء، وتطلعوا إلى عهد جديد يقوم على الديمقراطية والتعددية السياسية الحقيقية وحرية الصحافة والتعبير والقطع مع انتهاكات الماضي الحقوقي المؤلم .
 وسارعت القوى السياسية إلى تأسيس المنتديات العامة والمؤسسات المدنية، وشرعت بعض القوى السياسية في الدعوة إلى إصلاحات دستورية عميقة وشاملة، وعملت على محاربة الفساد المالي والإداري، وإنهاء امتيازات نخبة الحكم القديمة التي كانت مبنية على القرب والولاء لا الكفاءة والنجاعة .
من الواضح أن هذا الخطاب لعب دوراً أساسياً في تحريك قوى المعارضة السياسية آنذاك في المغرب وإعطائها فسحة من الأمل وزخماً جديداً لمباشرة العمل السياسي العام، ولقد انتهت هذه النبرة مع انقضاء السنوات الأولى للعهد الجديد بعد تأمين الإنتقال السلس للملك، بخيبة أمل كبرى عقب القطع مع المنهجية الديمقراطية سنة 2002، وتأكد هذا النكوص الديمقراطي التراجعي مع تفجيرات 16 ماي 2003 الإجرامية وما خلفته من آثار دراماتيكية، وعملت بعض الأطراف داخل الدولة لاستثمار تلك الأحداث للضغط على المعارضة ذات المرجعية الإسلامية، والتضييق على الحريات العامة وفتح سجل جديد للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
فهل كان الأمل الذي ولده هذا الخطاب الإصلاحي الرسمي أملاً كاذباً، أم أن المعارضة أخطأت قراءة مضمرات الخطاب فأساءت التقدير والتقرير ؟
ومن الإنصاف القول بأن ذات الخطاب الإصلاحي للحكم، وعلى الرغم مما سلف ذكره، لم يحدد بالتفصيل طبيعة الممارسة الديمقراطية التي يرنو إليها في أول الأمر، ولم يبين حدود الحريات العامة والسياسية الجديدة التي يأمل في تحقيقها، ولم يناقش بإسهاب طبيعة الطرح الإصلاحي الذي يسعى إليه ولا النموذج السياسي والدستوري للمملكة في العهد الجديد، وبالتالي فإن ذلك الخطاب ترك الكثير من البياضات والمساحات الرمادية التي تحتمل التأويل والتخمين.
والراجح أن إبقاء قضايا الديمقراطية والحرية والإصلاح والدستور معلقة، تعود جزئياً إلى أن المبادئ التي طرحها النظام السياسي تحتاج إلى إنضاجها على أرض الواقع، وأن صيرورة التغيير أساسية في إعطاء المفاهيم المطروحة أبعاداً محددة، مما جعل الحكم آنذاك يطور نظرية تنبني على إقرار نهج التنمية من أعلى بعيدا عن مسلسل الدمقرطة وإقرار الحريات، الشيء الذي بخس السياسة وأنهك الوسائط السياسية، من قوى المجتمع المدني والسياسي، وبنى منظورا قائما على نظرية المستبد المستنير العادل .
بيد أن الحكم أبدى العديد من التحفظات وقدم عدداً كافِ من القرائن التي تشير إلى أولوية الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، على إصلاح بنية النظام السياسي ، ومبدئية التدرج في إنفاذ الإصلاح الدستوري والسياسي بدعوى كفاية وكفاءة الصيغة السياسية السائدة لنظام الحكم وهندسته.
وأكد الحكم في خطابه الفكري والسياسي العام على ارتباط الحل الديمقراطي بالإطار الثقافي والتاريخي للمجتمع، وشدد على أولوية إصلاح النسق الحزبي الفرعي لأنه أصل الداء والعطب في السياسة -حسب منظوره – و ملحاحية إجراء الإصلاح الإداري وبوضوح تطوير نظام الحكامة وتجويده، مؤكداً أن قصور الإدارة هو من أهم العوائق التي تعترض مسيرة التنمية والبناء والتي تؤثر بشكل سلبي في كل القطاعات دون استثناء، ولابد من البدء بتغيير هذا الواقع للأفضل، من خلال تطوير الأنظمة الإدارية وهيكلياتها ورفع كفاءة الأطر الإدارية والمهنية وإنهاء حالة التسيب واللامبالاة والتهرب من أداء الواجب ولابد من محاربة المقصرين والمسيئين والمهملين والمفسدين.
مع التأكيد على ضرورة البناء على إنجازات الماضي، وحذر من الجهود الرامية إلى نسف الواقع برمته بدلا من العمل على تطويره وتحسينه، منطلقا من أن الحياة الإنسانية لا مطلق فيها : فمهما كان الواقع سيئا لابد وان يكون فيه العديد من الفوائد، ومهما كان جيدا أو ممتازا فلن يخلو من المساوئ والعثرات .
 واضح إذن أن الهم الاقتصادي والإصلاح الإداري الضروري من أجل مكافحة الفساد لمنع الإتكالية والفوضى وهدر الوقت، والالتزام بالصدق والإخلاص والتفاني في العمل ومضاعفة الجهد لتلافي التقصير الذي حدث، هو الهم الأساسي الذي حكم متن هذا الخطاب الرسمي .
وبالمثل فإنه أظهر، على درجة أقل وضوحاً، الرغبة في إيجاد هامش أكبر من الحرية يسمح بالتبني المتدرج للممارسة الديمقراطية تتولد من خلالها الممارسة السياسية الحزبية بالارتقاء بها وتطوير عملها، ولا تتأتى من اقتباس النموذج الجاهز للديمقراطية. ويبقى بيت القصيد هو البناء المتدرج على إنجازات الواقع لا نسفه، والبناء من خلال التركيز على إيجابيات واقع سيئ، والانتقال عبر هذا الجهد إلى واقع جيد ومن واقع جيد إلى واقع أفضل.
– 4 مأزق الخطاب المعارض، ومنطق معركة الإصلاح الشامل
لم تكتسب قوى المعارضة المؤسساتية الحزبية خلال تعاملها مع الدولة، التي صلب عودها بعد عقود من الاستقرار السياسي الهش، الخبرة السياسية اللازمة لخوض معركة الإصلاح السياسي الشامل، ولم تصبح الدولة قادرة على كبح جماح تلك المعارضة بقوة وحنكة ومهارة جديدة، ولقد انحصرت قدرات تلك المعارضة على التعامل مع مؤسسات الدولة في أساليب الخطاب  الرافض والمتمرد والتصعيدي  لفظيا، في أحايين كثيرة والفعلي بشكل ناذر.
 ولم تدرك المعارضة أن التغيير السياسي ليس موقفاً عاطفياً، ولا سجالا كلاميا، بل إنه عمل دءوب و مديد، ذي أهداف مرحلية وإستراتيجية، وخطوات محددة يأخذ الواحد منها برقاب الأخرى، أي إن التغيير الديمقراطي هو في المجمل محصلة ميزان قوى ضاغط .
لقد قرأ جزء من المعارضة، هذا الخطاب وفق مبادئ العمل السياسي التي سادت خلال الستينيات والسبعينات، القائمة على منطق “كل شيء أو لا شيء” ومنطق “إذا لم تتفق معي فأنت ضدي” ومنطق “ما أدعيه هو الحق وما يدعيه غيري هو الباطل” وغيرها من المبادئ التي شلت العمل السياسي وأدت إلى بروز الحزب الأغلبي.
 لذلك كانت استجابة هذه المعارضة للخطاب السياسي الرسمي استجابة عاطفية حالمة تنفيسية، تسعى إلى تحقيق حلم الإصلاح عبر تأكيد الذات وإلغاء الخصم، والتنفيس عما امتلأت به الصدور من غضب وإحباط عبر عقود عديدة، وتحميل السلطة وأجهزتها المسؤولية الكاملة عن مثالب الحالة الراهنة وركنت إلى حالة إنتظارية تترقب التحرك العفوي للجماهير في اتجاه التغيير الشامل.
 لقد أخطأت قوى المعارضة المؤسساتية والراديكالية في المجمل في إدارتها للعملية السياسية والاستفادة من التغيرات التي نجمت عن تحولات أساسية في وجهة السلطة السياسية، كما أخطأت في فهم طبيعة التغيير وحدود الممكنات السياسية الناجمة عن هذا التغيير.
فمن ناحية، أساءت المعارضة قراءة أولويات الإصلاح، ورأت في الخطاب الرسمي دعوة إلى إجراء إصلاح شامل، في حين أن الحكم شدد في خطابه على إصلاحات جزئية إدارية وتدبيرية تهدف إلى تنمية الاقتصاد المتدهور، وترتقي جزئيا بالوضع الاجتماعي.
كذلك أخطأت المعارضة في تقدير طبيعة التغيير الحاصل في النظام السياسي، وقدرات مؤسسات الحكم الجديد على إحداث تغيير سياسي جذري، على افتراض أن التغيير الهيكلي هدف الإصلاح المنشود.
الرؤية التي حملتها قوى الحكم الجديد كانت العنصر الأساسي في التغيير الذي طرأ على النظام، بينما بقيت الأطر والبنيات التي أسسها نظام الحكم على عهد الراحل الحسن الثاني على حالها لم تتغير.
صحيح أن الملكية في المغرب ذات نمط رئاسي، تشكل مركز ثقل النظام السياسي نظراً للصلاحيات غير المحدودة التي يملكها مركز النظام. بيد أن الملك بحاجة إلى مؤسسات الدولة المخزنية العميقة الأمنية والبيروقراطية ليتمكن من تحقيق أهدافه في الاستقرار والاستمرار، وهي بالتحديد المؤسسات التي شكلت، على اختلافها قاعدة الممانعة المستمرة لدعوات الإصلاح. ولقد اعتمد الحكم في جهوده لإحداث الإصلاحات وفق منظوره على ثلة من الخبراء التكنوقراطيين، لكن هؤلاء اصطدموا بمراكز القوى السياسة في الدولة ضمن المؤسسة الأمنية والحزبية والإدارية.
ووجد هؤلاء أنفسهم عاجزين عن إحداث التغييرات المطلوبة، أو تطوير الخطط المديدة (الاستراتيجيات) اللازمة لإحداث التغيرات المطلوبة في بنية الوزارات وأداء المؤسسات العمومية التي تسلموا زمامها.
بناءا على كل ذلك فقد عجزت المعارضة في عمومها، والاتحادية على وجه التحديد، أساسا حين تسلمها لمقاليد التدبير السياسي للدولة عن إدارة صيرورة الإصلاح لأسباب عديدة، نجمل أهمها بالنقاط التالية:
*      غياب خطة مديدة متكاملة ذات أولويات محددة ومفاصل واضحة  للقيام بالإصلاح الديمقراطي المطلوب، والاكتفاء برفع الشعارات والتنظير العام وحملات التشكيك والحرب الكلامية ضد بنيات الدولة العميقة ومراكز مقاومة التغيير والمركب المصالحي.
*    قصور التحليل وبالتالي الفهم لطبيعة المرحلة واحتياجاتها، وهوية القوى السياسية الراغبة في الإصلاح من جهة للتحالف معها، وتلك المحافظة الراغبة في الإبقاء على الحالة الراهنة لمقاومتها وتفكيكها.
*    فقدانها لقواعد شعبية قادرة على دعمها والتماهي معها من أجل تحقق الخطة الإصلاحية، وذلك بنهجها أسلوب التسوية وأنصاف الحلول .
*    إنتاج المعارضة الراديكالية، بمحاداة تلك المؤسساتية خطابا  نقديا وحديا للتغيير الشامل، و الذي يضعها في تناقض كامل وتام مع الدولة برمتها، وتركيز ذات الخطاب على سلبيات النظام وإغفاله الإنجازات التي حققها النظام الرسمي، وعلى الرموز الأساسية للدولة، مما دفع بالقوى المتحالفة مع السلطة إلى الاعتقاد بأن نجاح هاته المعارضة قضاء على القوى الداعمة للحكم والمتحالفة معه، مما جعلها لا تعمل على تطوير نظام متين للتحالف السياسي .
لقد أدت عقود شهدت صراعات تناحرية على السلطة، إلى إضعاف قوى المعارضة وعزلها عن قواعدها الشعبية والاجتماعية، وفقدت بنيتها الحزبية، وتحولت إلى منابر خطابية. واقتصر دورها على ترديد شعارات تعبوية، والدعوة إلى الممارسة الديمقراطية والتعددية. ولا تمتلك قياداتها برنامجاً إصلاحيا تقدمه، كما فقدت مصداقيتها السياسية نتيجة اعتمادها الكامل على أمنياتها في التغيير، وفقدت أيضا الكثير من قدراتها التنظيرية وخطابها التحليلي ومصداقيتها النضالية ومواقفها الصلبة والثابتة، كما فقدت القدرة على تقديم بدائل وحلول للتعامل مع المشكلات الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة في البلاد.
فالفكر السياسي المعارض عموما فقد مصداقيته ووهجه، لذلك نجد أن الخطاب المعارض اليوم يتشابه كثيراً مع خطابات القوى السياسية المحافظة الأخرى ويلتقي معها موضوعيا.
-5- مرجعية الإصلاح : تسييد الحقوق، بسط الحريات، و تشييد الفضاء السياسي على أرضية تدبير المصالح كخدمة عمومية
كانت المعارضة في السابق تصر على بدء الإصلاح من قمة الهرم السياسي داعية إلى تعديل الدستور مما أفقدها قوة الانجاز وصلابة المدافعة وأوقعها في الإنتظارية، على الرغم من عدم امتلاكها القواعد الشعبية اللازمة لممارسة الضغوط على السلطة الحاكمة، معولة على الميولات الإصلاحية للملك وعلى التوجهات العالمية الداعية إلى الانفتاح الاقتصادي والسياسي،  في حين يصر الحكم على إعطاء إصلاح نظام الحكامة الإداري الأولوية في برنامجه الإصلاحي العام، باعتبار أن التنمية الاقتصادية شرط أساسي للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي ، وأن الانفتاح السياسي في أجواء الصراعات السياسية قمين بإضعاف الدولة وإشاعة الفوضى.
تظهر النظرة الأولية أن مشروع الإصلاح السياسي الذي تقوده المعارضة ومشروع الإصلاح الإداري الذي تقوده دوائر الحكم يواجهان مصاعب جمة، ويسيران في طريق ملئ بالمزالق والعثرات.
فقد استطاع حراس النظام ومراكز القوى فيه من سحب البساط من تحت أرجل المعارضة، واستعادة المساحة المحدودة من حرية التحرك السياسي والإعلامي التي استلتها المعارضة خلال سنوات التناوب التوافقي. في حين لم تؤد مبادرات قوى الحكم إلى إحداث تقدم معتبر في طريق الإصلاح السياسي والإداري والتنمية الاقتصادية، على الرغم من عشرات المراسيم والقوانين الذي استحدثت، والتعديلات الوزارية التي أجريت، والتي وضعت في مراكز القرار الوزاري عدداً كبيراً من الوزارء الذي اختيروا على أساس الخبرة والدراية، لا النفوذ والاعتبارات السياسية.
فالإصلاح عملية معقدة تحتاج إلى مدى يتجاوز السنوات القليلة لتقويمها، وقد يكون من المبكر إصدار أحكام قطعية أو نهائية حولها. لذا فإن التقويم السليم لما يجري على الساحة السياسية ليس من باب إطلاق أحكام النجاح أو الفشل، بل من باب النظر إلى الشروط الاجتماعية لتحقيق الإصلاح، وتحديد مدى استفادة كل من الحكومة والمعارضة من العناصر الاجتماعية اللازمة لإحداث النقلة المطلوبة باتجاه الإصلاح والتغيير.
تظهر التصريحات الرسمية إدراك القوى الاجتماعية للحكم للعوائق البيروقراطية التي تقف في طريق الإصلاح، والحاجة في المستوى الاقتصادي والاجتماعي إلى سن قوانين لتحرير القطاع الخاص من تلك القيود، وتشجيع الاستثمارات الداخلية والخارجية عبر طمأنة المستثمر بوقوف القانون إلى جانبه وحماية استثماراته وضمان حقوقه.
ذلك أن ثقة المستثمر في المؤسسات ومصداقية البنيات القانونية وقدرتها على حماية الأموال والممتلكات شرط أساسي لتحفيز الاستثمار. لذلك نجد الملك يؤكد في خطاباته على ضرورة السير بخطى ثابتة وان كانت متدرجة نحو إجراء تغييرات اقتصادية من خلال تحديث القوانين وإزالة العقبات البيروقراطية أمام تدفق الاستثمارات الداخلية والخارجية وتعبئة رأس المال العام والخاص معا وتنشيط القطاع الخاص ومنحه فرصا أفضل للعمل، وأن العمل المؤسساتي عمل جماعي لا فردي، عمل مبني على الصدق والإخلاص في التعامل وعلى استغلال الوقت بحده الأقصى، وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، وعقلية الدولة على عقلية الزعامة.‏
بيد أن المفاهيم المحورية التي تشكل مفاتيح الإصلاح الإداري، مفاهيم “القانون” و “العمل الجماعي” و “المصلحة العامة” مفاهيم لا تشغل حيزاً مهماً في البناء الثقافي أو التجربة الاجتماعية المغربية الحديثة، وهي غالباً ما تكون مدعاة للتهكم بعد أن أصبحت جزءاً من خطاب التعبئة النظري الذي يتناقض تناقضاً صارخاً مع التجربة العملية للمواطن المغربي.
إن تحليلاً سريعاً للمفاهيم المفتاحية في المناهج التربوية ، وفي الخطاب السياسي والشعبي، تظهر أن مفاهيم “البطل” و “السلطة” و “المجد”، سواء كان مجد الحي أو القبيلة أو القوم هي المفاهيم التي تحتل المكانة العليا في مخيال الفرد.
ففي حين يجد المراقب في القصص المدرسية والأشعار والروايات الأدبية والخطب السياسية تأكيداً مستمراً على البطولة الخارقة، والقائد الملهم، والفارس الصنديد المطالب بحقه الضائع، لا يكاد الفرد يجد اهتماماً واضحاً في ربط البطولة بالتعاون والعمل الجماعي، أو القيادة بالخدمة العامة، ولا الحق باحترام القانون والخضوع للمبادئ، ولا المجد بتحقيق المصلحة العامة. بل نجد الثقافة الشعبية تقدس الأبطال، وتبحث عن المجد في التفرد بالثروة أو السلطة أو الشهرة، وتجد في القانون قيود يلتزم بها الضعيف ويتعالى عليها القوي المهيب.
وتكرست الثقافة الفردية التي تبحث عن السلطة أو الثروة أو الشهرة، وتجعلها قيماً عليا تتعالى على قيم القانون والمصلحة العامة في ممارسات النخب الحاكمة عبر تاريخ المغرب الحديث. فقد بدأ هذا التاريخ بهيمنة أبناء المدن، واعتماد المحسوبيات والولاءات الأسرية والمحلية والحزبية أساساً للتعاون والتناصف، وتميزت تلك الفترة باستعلاء أبناء المدن وتفاخرهم بالحسب والنسب، واعتبار السلطة مكسباً أو مغنماً فردياً، وتنافس أبناء العائلات الإقطاعية وأصحاب المراكز الحساسة في الدولة، وتحولت المؤسسة الأمنية والعسكرية إلى لعبة للطامحين في بناء مجد شخصي.
واستمرت العملية بعد محاولة زمرة من الأصدقاء الاستيلاء على الثروة والسلطة، إذ أصبحت الأخيرة مطية لإعادة توزيع الثروة، وأصبح المنصب السياسي والأمني والعسكري مدخلاً للإثراء السريع وبناء الجاه السياسي، وبرزت تحالفات بين كبار التجار وأصحاب الثروة من جهة، وأصحاب النفوذ ومراكز القوى من جهة أخرى.
لقد ساهمت العقود الثلاثة الماضية في رأب الفجوة الاقتصادية نسبيا بين أبناء المدينة وأبناء القرية، وإعادة توزيع الثروات الوطنية بين المدن والقرى، لكنها في الوقت نفسه أدت إلى تكريس النزعات المحلية وتشكل طبقة سميكة من الأعيان وعباد السلطة والثروة والاستهتار بالقانون وتكريس نظام الولاء والريع.
كما أدت إلى تدني مستويات التعليم المدرسي والجامعي وتضخم الجهاز البيروقراطي، وإلى انتشار الفساد في الجهاز القضائي والدوائر الحكومية.
كذلك أدت العقود الماضية إلى بروز التحالف التجاري الأمني، أو التحالف بين  التجار في المال العام من جهة والأجهزة الأمنية من جهة أخرى.
ويشكل هذا التحالف القوة الرئيسية التي تقف حجر عثرة أمام دعوات الإصلاح السياسي العميق لبنية الدولة الذي تنافح عنه القوى الديمقراطية والوطنية.
6- الإصلاح السياسي قاعدة للإصلاح الشامل، ولكن . .
واضح أن الإصلاح عملية متعددة المسارات، يتداخل فيها المسار التربوي بالمسار القانوني، والمسار القانوني بالمسارين الإداري والاقتصادي، المسارين الأخيرين بالمسار السياسي.
وبالتالي تبرز الحاجة إلى السير قدماً في خطوط متوازية والتحرك في آن على مسارات مختلفة. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف يمكن البدء بعملية الإصلاح؟ وهل يعني تداخل المسارات أن الإصلاح السياسي الشمولي هو الطريق الوحيد للقيام بالإصلاح؟
من المهم أن ندرك أولاً أن الإصلاح في أي من المسارات التربوية والثقافية والقانونية والإدارية يتطلب قيام قوة إجتماعية تتبنى أطروحات الإصلاح، وتسعى جاهدة إلى تحقيقه، كما يتطلب توفير مساحة كافية للحركة ضمن كل من المسارات الإصلاحية المشار إليها آنفاً.
وبعبارة أخرى، ثمة حاجة إلى تمكين مريدي الإصلاح من إحداث تغييرات في مجالات التربية والتعليم والإدارة والاقتصاد. ويعني التمكين هنا نقل النفوذ السياسي إلى القوى الاجتماعية التي تملك إرادة الإصلاح وقدرة الإصلاح كما تملك المصلحة في تحقيقه.
التمكين السياسي لقوى الإصلاح لا يعنى بالضرورة نقل الثقل السياسي كاملا من قوة سياسية إلى قوة سياسية أخرى، بل توزيع النفوذ السياسي بين القوى الاجتماعية المختلفة، وخلق توازنات في القدرات السياسية بالشكل الذي يتيح المجال لتنافس البرامج الإصلاحية والأفكار، ويسمح لمن يريد خدمة المصلحة العامة من عرض برامجه على الرأي العام، وإيجاد مصداقية سياسية من خلال تحقيق برامجه ووعوده.
ولعل الطريقة المتاحة اليوم لخلق توازنات سياسية، تعديل الأنظمة الانتخابية وإصلاح قانون الأحزاب، وتعميق التعددية الحزبية والسياسية. وبالمثل تحتاج الخطوات الإصلاحية إلى تأكيد الحريات الصحفية، من خلال السماح بنقد ومراقبة جادة للسياسات العمومية، والخطط الملكية، والممارسات العامة لرموز الحكم.
ومن ناحية أخرى، يتطلب الجهد الإصلاحي أن تستشعر قوى الإصلاح الديمقراطي مسؤولية الكلمة، وأن تتبع نهجاً تدريجياً في الإصلاح، وأن تعيد ترتيب أولوياتها بحيث تتبنى برامج إصلاحية تركز على مسارات الإصلاح السياسي والإداري والقانوني قبل الحديث عن إصلاح شامل لا تمتلك شروطه، ولا القدرات العملية اللازمة لتحقيقه.
كذلك يجب على قياداتها أن تفرق بين العمل الإصلاحي والعمل التشويشي المعرقل للمسار في المرحلة، ففي حين يمكن للقوى المنتصرة عبر ثورة شعبية أو انقلاب عسكري فرض رؤيتها، يتم العمل الإصلاحي من خلال سجال بين السلطة والمعارضة، وبالتالي فإنه يتطلب مهارة سياسية تقوم على أساس المناصفة (التحرك باتجاه المنتصف) والتسوية والتوافق مع السلطة. هذا يعنى أن تكون المعارضة مستعدة للتحرك باتجاه السلطة خطوة في الوقت التي تطالب السلطة بالتحرك خطوة استجابة لمطالبها.
إن الإصلاح السياسي يجب أن يعمق نهج التوافق السياسي العام وهو بذلك ليس تأكيداً للذات ولا إنكاراً للآخر، أو تشديداً على إرادة المعارضة وتنديداً بإرادة السلطة، كما أن الإصلاح السياسي ليس مسابقة في حل المعادلات الرياضية، تتطلب اعتراف صاحب الحل الخاطئ بأحقية صاحب الحل الصحيح في نيل الجائزة، بل هو عملية معقدة متشعبة، تتداخل فيها المصالح، وتتراكب حولها التصورات، وتتعالى فوقها الأصوات، وتشد بأطرافها قوى سياسية واجتماعية متعددة. ومن هنا يتطلب الإصلاح نفساً طويلاً، وخطة عمل مديدة، وقبل هذا وذاك القدرة على تقديم حلول للمشاكسات التي تواجه المجتمع، مدعومة بدارسات منهجية.
ومرة أخرى نحتاج إلى التأكيد على أن مشكلة العمل السياسي في المغرب نابعة من مشكلة الثقافة السياسية أساسا، وهي ثقافة تتصف بغياب الحس السياسي في التعامل مع الاتجاهات السياسية المغايرة، أي غياب القدرة على حل المشكلات عبر التحاور والتوافق الوطني العام، وغلبة الحدية في التعامل مع الخصوم السياسيين، بدءاً  من التنديد بهم وتهميشهم، وانتهاء بتخوينهم و إرادة القضاء عليهم.
  7 – شروط الإصلاح: امتلاك الحس السياسي – القانون كمرجع – والمجتمع المدني كشريك:
واضح إذن أن الإصلاح ليس جملة من الشعارات تطلق، أو إرادة فرد أو مجموعة من الأفراد تفرض على المجتمع، بل عملية مديدة متعددة المسارات، تقوم في المقام الأول على تحقيق شروط موضوعية على أرض الواقع، وفي مقدمتها بناء ثقافة سياسية تسمح بتعاون القوى الاجتماعية في عملية بناء المؤسسات التعليمية والقانونية والإدارية والاقتصادية والسياسية التي تشكل دعائم القوة والنهضة لأي مجتمع.
وبتعبير أدق فإن الخطوات الأساسية في عملية الإصلاح يجب أن تتجه نحو الارتقاء بالحس السياسي واحترام القانون وبناء مؤسسات المجتمع السياسي والمدني، فالحس السياسي يقوم على أساس إبقاء الخلافات في دائرة السجال السلمي والاحترام المتبادل بين القوى السياسية المتصارعة، والحيلولة دون انتقال الصراع السياسي إلى مرحلة التشكيك في النوايا أو الاتهام وما شابه ذلك من المواقف التي تجعل الحوار مستحيلاً والقدرة على اتخاذ مواقف توافقية (أي التحرك خطوة أو أكثر نحو الآخر استجابة لاستعداد الآخر التخلي عن موقفه الحالي والاقتراب خطوة) مستحيلة.
وهكذا فالحس السياسي السليم يحول دون خروج النقد السياسي عن قواعد الاختلاف السياسي إلى استخدام لغة تحريضية أو تجريم الخصم انطلاقاً من خلافات حول سياسات الدولة أو اجتهاد سياسي. ذلك أن تصعيد الخطاب السياسي إلى مستوى تجريم الخصم يخفي وراءه رغبة في نزع الحقوق السياسية والمدنية عن الخصم، وتحويله إلى مجرم يستحق أشد العقوبات.
إن نظرة سريعة إلى تجارب الشعوب التي استطاعت أن تسير في طريق حل نزاع المشروعية السياسية عن طريق أساليب الانتقال الديمقراطي تظهر لنا ارتقاء الحس السياسي عند القيادات السياسية لهذه الشعوب، والحرص على إبقاء الخلاف ضمن دائرة الاحترام المتبادل لكرامة الخصم وحقوقه المدنية والسياسية.
إن الدولتين اللتين قطعتا شوطاً بعيداً في التنمية السياسية والاقتصادية، ماليزيا وتركيا، تتميزان بارتقاء الحس السياسي عند قادتها وأفرادها. فالمتابع لخطاب السلطة والمعارضة يلحظ قدراً كبيراً من الشعور بمسؤولية الكلمة، وتجنب الأحزاب المتصارعة الوصول بالسجال السياسي إلى مستوى تبادل التهم والشتائم.
نعم يختلف النظام السياسي للدولتين المذكورتين عن النظام القائم في المغرب، إذ تتمتعان بنظام سياسي تعددي يسمح بتعدد سياسي حقيقي، كما تتمتعان بقدر من حرية الصحافة. بيد أن المعارضة في تلك البلدان استطاعت أن تتعامل بحنكة مع المتغيرات الاجتماعية والسياسية، وممارسة منهج النفس الطويل وضبط النفس واكتساب ثقة الجمهور لإجبار السلطة الحاكمة على توسيع دائرة الحريات السياسية.
 ففي تركيا استطاع حزب الرفاه التركي من إدارة الصراع السياسي مع السلطة من خلال سياسية النفس الطويل، والدخول في سجال حول السياسات العامة للحكومة واعتماد خطاب سياسي تواصلي غير تحريضي أو حدي في  نقده للخطط الحكومية، وبالرغم من تدخل الجيش في مطلع الستينيات والثمانينيات لإخراج الحزب من معترك العمل السياسي، ثم استخدام مؤسسات السلطة لنزع الشرعية عنه ثم حله عام 1988، تمكن الحزب، والتيار الإسلامي الذي يمثله، من التحرك بذكاء وإظهار ضبط كبير للنفس والارتقاء بخطابه السياسي. فقامت المعارضة بإنشاء أحزاب جديدة، حزب الفضيلة وحزب العدالة والتنمية ، بل نجدها قد استفادت من تجاربها السابقة، فحولت شعارتها الإسلامية إلى برنامج إصلاحي تستلهم قيم الإسلام العالمية ومبادئه الكلية، بدلا من ترديد شعارت ذات دلالات خصوصية حصرية وإعطاء خصومها ذرائع لحل أحزابها والقضاء عليها.
وبالمثل نجد الحزب الحاكم في ماليزيا يسعى إلى بناء الجسور والدخول في تحالفات مع خصومه السياسيين للحفاظ على تماسك المجتمع الماليزي، وتعبئة القوى السياسية والاجتماعية على اختلاف مشاربها للمشاركة في عملية البناء والتنمية. 
ولا يتوقف نجاح التنمية السياسية والاقتصادية النسبي في التجربتين الماليزية والتركية على ارتقاء الحس السياسي، بل يرتكز هذا النجاح أيضاً على سيادة القانون وبناء مؤسسات المجتمع المدني. فسيادة القانون واستقلالية مؤسسات المجتمع المدني عن الدولة شرطان أساسيان للنجاح في بناء الدولة الحديثة.
فسيادة القانون تعطي المواطن الثقة في نزاهة محاكمه، وإمكانية صيانة حقوقه المدنية والمالية، فتجعل المواطن شريكاً في بناء الوطن ومحاربة الفساد، وتمكن المستثمر سواء كان وطنياً أو أجنبياً من بناء استثمارات طويلة الأمد، لثقته من قدرته على تحصيل حقوقه، ومنع اعتداءات الطامعين.
واستقلالية مؤسسات المجتمع المدني، من نقابات وشركات استثمار أو إنتاج أو مراكز تعليمية وبحثية، تسمح بقيام مبادرات فردية للمساهمة في عملية البناء، وتولد مزيداً من توازنات القوى التي تحول دون الفساد الإداري والمالي.
  8 – بناء الوطن رهين بقوة الدولة واستقلال المجتمع
ارتفعت أصوات داعية إلى دعم مؤسسات المجتمع المدني على اعتبار أنها المخرج من الاعتماد الكامل على الدولة لتنظيم المجتمع ولبناء مؤسسات المجتمع المدني.
ولقد شاع استعمال مفهوم ” المجتمع المدني” في الأدبيات الغربية مع بدايات عصر الأنوار، وذلك للتميز بين المؤسسات الحكومة والمؤسسات الأهلية. ونجد هذا التعبير بوضوح في كتابات هيغل وماركس، ومن تبعهم من الفلاسفة و المفكرين الغربيين. فهيغل يعتبر في كتابه فلسفة الحق أن المجتمع المدني يمثل مجال الحرية الاجتماعية  والاقتصادية والعلمية، فهو مجال هام لحيوية الحياة الاجتماعية وقدرة المجتمع على توفير الفرص للمهارات الشخصية للبروز إلى حيز الواقع، في حين يرى في الدولة دائرة تحقيق الإرادة العامة للمجتمع. أما ماركس فيرى في المجتمع المدني مجالاً يتيح الحرية لرأس المال الخاص كما يتيح الحق في حرية الحياة الدينية، وبالتالي فإنه يدعو إلى القضاء على المجتمع المدني من خلال إخضاعه إلى “ديكتاتورية الطبقة الكادحة.”
ومع انهيار المنظومة الشرقية في نهاية الثمانينيات، وهي المنظومة التي أحكمت فيها الدولة القبضة على مؤسسات المجتمع المدني من نقابات عمالية ومؤسسات تعليمية وإنتاجية واستثمارية وتجارية، وألغيت خلالها المؤسسات الدينية، باسم ديكتاتورية الطبقة الكادحة، عاد مفهوم المجتمع المدني للبروز في الأدبيات الاجتماعية. وارتبطت فكرة بناء مؤسسات المجتمع المدني بإعادة تأهيل المؤسسات الأهلية بعد أن حولتها الأحزاب الشيوعية إلى مؤسسات سلطوية دولتية، تابعة في قراراتها لقرار اللجنة المركزية للحزب.
بيد أن غياب المفهوم من الأدبيات التراثية وارتباطه بالأدبيات الغربية لا يعني بأي حال غياب الظاهرة عن المجتمعات العربية والإسلامية. بل يمكننا القول بأن المؤسسات التي حكمت المجتمعات العربية والإسلامية تاريخياً كانت في غالبها مؤسسات مجتمع مدني لا مؤسسات دولة. فالمؤسسات التعليمية والنقابات الحرفية والمؤسسات التجارية ارتبطت من حيث التأسيس والتمويل بالمجتمع المدني واعتمدت على مؤسسة الوقف.
 بل إننا نجد أن المؤسسة القانونية في التاريخ العربي والإسلامي ارتبطت بالمجمتع المدني، فالتشريعات العامة بما في ذلك نظام الضرائب أو زكاة المال، ارتبطت بالشريعة الإسلامية، التي قننتها المدارس الفقهية المختلفة. وفشلت كل الجهود بتوحيد التقنين الشرعي وربطه بالدولة. واستمدت المراسيم السلطانية شرعيتها من انسجامها مع أحكام الشريعة. وانحصرت مهام الدولة (أو السلطان) عبر العصور بمسائل العلاقات الخارجية وقضايا الأمن العام و حماية الحدود وتنظيم العلاقات بين الأمصار.
لقد أدى دخول مؤسسات الدولة الحديثة والقانون المركزي إلى المجتمعات الإسلامية عبر محاولات التتريك في نهاية الدولة العثمانية، وخلال فترة الاستعمار الأوربي لباقي الدول العربية، إلى إحداث تغييرات جذرية في دائرة البنية السلطوية، لم تواكبها عملية تأسيس ثقافي للمؤسسات المذكورة.
وقد أدى هذا الأمر إلى تبني نموذج الدولة التسلطية ذات السلطة المركزية في المغرب الأقصى عقب الاستقلال، إلى القضاء على استقلالية مؤسسات المجتمع الأهلي والمدني التاريخية إثر حل مؤسسة الوقف، وإخضاعها إلى سيطرة الدولة الحديثة وتخصيص وزارة الأوقاف لرعاية شؤونها.

ومخاوف عودة الحياة إلى مؤسسات المجتمع في المغرب لا تنحصر بمخاوف المستفيدين من الواقع الراهن ضمن التحالف بين المتنفعين من جاه السلطة وريع الثروة، بل تشمل العاملين في مؤسسات الدولة من إداريين، وعمال وفنيين. بل تشمل المخاوف التجار والمقاولين والصناعيين الذين يخشون أن يؤدي عودة المجتمع المدني بلبوس جديد إلى اختراق رؤوس الأموال الكبيرة، وبروز طبقة من كبار التجار والإقطاعيين .
9-من ديوان الإصلاح المأمول
عجز قوى الدفع الديمقراطي عن إحداث التغيير المنشود، واختفاء الأصوات المطالبة بالإصلاح السياسي الشامل وارتباكها في الآن، لا يعني أن الإصلاح غير مطلوب شعبياً. بل إن الإصلاح ضروري لمستقبل المجتمع المغربي، وهو الطريق الوحيد لتفادي تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، وتفسح المجال لتحرك الطامحين والطامعين. والشعب المغربي يتوق إلى الإصلاح لكنه لم يكن يجد القيادة السياسية التي يلتف وراءها، ويثق بقدرتها على تحقيق أهدافه، بعد أن أتخم بشعارات يملأ صداها الآذان، ولا يكاد يجد لها أثراً .
المطلوب الآن من قوى الإصلاح الديمقراطي الشامل العمل على تقديم تصور لإعادة بناء مؤسسات المجتمع السياسي والمدني، بما يتناسب والتطورات الداخلية والخارجية الراهنة، وبما يسمح ببناء مؤسسات تحقق المصلحة العامة وتحفظ حقوق الأفراد.
وهذا يعني أن تقوم تلك القوى مجتمعة  بوضع أولويات ضمن تصور لما هو ممكن اليوم، وما يتطلب تحقيقه مزيداً من الجهد العملي لبناء المؤسسات الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية، قبل المطالبة بالتغيير الشامل. ويعني أيضاً أن تعمل قوى الإصلاح الديمقراطي على بناء مصداقيتها لدى الشارع المغربي لا من خلال الخطب والشعارات، بل من خلال المبادرات والإنجازات.
وبالمثل على قوى الحكم إدراك أن قدرة الدولة ومؤسساتها على تطوير الحياة الاقتصادية وتحفيز الإبداع والإنتاج والعمل يتطلب النظر إلى ترابط مسارات الإصلاح وبناء المؤسسة القانونية، وتنشيط مؤسسات المجتمع المدني، وبالتالي تشغيل مبدأ توازن القوى الضروري لإيجاد آليات لمنع الفساد وتحفيز الإنتاج والعمل.
ويبقى مصير العمل الإصلاحي في المغرب مرهوناً بتكون إرادة شعبية داعمة للإصلاح، نابعة من احتياجات أفراد المجتمع موضوع المشروع الإصلاحي الشامل من جهة، ومن تزايد الوعي الشعبي بالحاجة الحاسمة له من جهة ثانية، لا من طموحات فردية أو حزبية ضيقة.
ويبقى السؤال المهم اليوم، عن الخطاب السياسي للإصلاح دون جواب : هل تتشكل مطالب الإصلاح الشعبي وتتبلور ضمن عملية متدرجة ترعاها الحكومة المغربية الحالية بالتعاون مع قوى الحكم والمجتمع معا، أم يتم إنجاز عمليات الاستنهاض الشامل تحت تزايد الضغوط الاقتصادية والسياسية في الداخل والخارج ،وهذا ما يفتح لنا أفقا آخر مغايرا للإجابة بالتحليل؟


*عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.