يتيم يكتب: ظاهرة البلوكاج السياسي..قراءة تطبيقية في نهج الشراكة والمشاركة

محمد يتيم

الحلقة الأولى

مقدمات ضرورية

يسعى هذا المقال إلى تناول ” ظاهرة الانسداد السياسي” تناولا معرفيا وليس تناولا سياسيا  أي باعتبارها  ظاهرة ملازمة  لتشكيل التحالفات الحكومية  ليس فقط في الأنظمة الناقصة الديمقراطية  أو التي هي في طور الانتقال الديمقراطي بل أيضا في الدول العريقة الديمقراطية ، ومن جهة ثانية باعتبارها  تختبر قدرتنا على تمثل قيمتي الشراكة والمشاركة والمكابدة والصبر على مقتضياتهما في الممارسة.

وهي وإن كانت تستحضر لحظة من لحظات تاريخنا السياسي القريب وما أثارته من نقاش داخلي واختلاف في تقييم ما سمي بـ”البلوكاج” وتداعياته ،  لكنها لا تسعى للعودة  إلى ذلك النقاش ولا إعادة النبش فيه خاصة وأن الحزب قد خلص إلى أن المسؤولية عن تدبير تلك المرحلة أيا كان تقييمنا لها هو مسؤولية جماعية.

 إنها  تسعى فقط إإلى التنبيه إلى أن ظاهرة الانحباس السياسي هي جزء لا يتجزأ من العمل السياسي في الدولة الحديثة الذي يعطي مشروعية دستورية وقانونية وسياسية  للتنافس بل للمناورة أو المساومة السياسية  من أجل  الظفر بتدبير الشأن العام مع ما يقتضيه ذلك من تحالفات  قد تبدو في كثير من الأحيان  من الناحية النظرية المجردة مستبعدة بل مستهجنة، وهو ما يقتضي الوعي به كمعطى مرتبط  ارتباطا عضويا بالحياة السياسية  وما يلزم عن ذلك من حاجة للتهيئة  الفكرية والنفسية لدى الفاعلين السياسيين ولدى قواعدهم لإدخاله باعتباره معطى في تشكيل شبكتهم في التحليل .

 ذلك أنه  من الناحية العملية  لا مفر في العمل السياسي من تحالفات استراتيجية أو ظرفية، ثابتة نسبيا أو متحركة .

ومن السذاجة أن نتصور أن يتورع الفرقاء السياسيون بعد ما قبلوا مبدأ المشاركة  عن اللجوء إلى المناورة والمساومة من أجل تحسين موقعهم السياسي خلال عملية بناء التحالفات.

ومن اللازم من جهة ثانية في الثقافة السياسية للعاملين في المنظمات الحزبية أن تكون ثقافة المشاركة وأسسها ومتعلقاتها والتدريب على الصبر على تبعاتها والمفاسد الناشئة عنها والقدرة على الترجيح بين مصالحها ومفاسدها المحتملتين من الأركان الأساسية في ذلك التدريب .

إننا إذا أمعنا النظر وجدنا أن تلك المناورات والمساومات ملازمة لطبيعة العمل السياسي عموما وفي النظام الديمقراطي على وجه الخصوص ترتبط بتقدير كل طرف لما يعتبر مصلحة.

   يصدق هذا في الدول العريقة في الممارسة الديمقراطية فما بالك في الدول الناقصة في مجال التطور الديمقراطي أو التي هي في طور الانتقال الديمقراطي كما سأبين في الحلقة الأولى من هذه المقالات.

وأخيرا فإن ضعف الوعي بهذا المعطى وعدم إدماجه في الثقافة السياسية للفاعلين السياسيين والحزبيين يمكن أن تنتج عنها ارتجاجات ذات آثار سلبية على التنظيمات السياسية (نمودج تجربة التناوب).

وقد اخترت أن أبدأ هذا المقال بالوقوف عند واقعة من السيرة النبوية التي ظهرفيها اعتراض شديد على توقيع الرسول صلى الله عليه وسلم صلحا مع مشركي قريش كان كل شيء يوحي فيه يميل لمصلحة هؤلاء، حتى إن رجلا من طينة عمر بن الخطاب اعتبر أن صلح الحديبية فيه إعطاء “للدنية في ديننا”.

وفي هذه الحادثة دلالة على أن التنظيمات البشرية معرضة إلى حالات من الارتجاج الناتج عن اختلاف في التقدير لواقعة سياسية من قبيل إيقاع صلح مع أطراف طالت الخصومة معهم أو الدخول في تحالف مع مختلفين في الانتماء الإيديولوجي أو السياسي، وهي فقط للاعتبار وليس لإسقاطها على وقائع معينة.

ولولا هيبة النبوة وقدسيتها لكان المسلمون قد هلكوا لكونهم تمنعوا في تطبيق الأمر النبوي بأن يحلقوا شعورهم ليتحللوا من إحرامهم ووقعوا في كرب عظيم من ذلك.

فـ”حين أرسلت قريش سهيل بن عمرو إلى الرسول كمفاوض، دعا النبي صلى الله عليه وسلم  علي بن أبي طالب ليكتب الصلح فقال: “اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ” فقال سهيل:”لا أعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللهم” فكتبها علي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو”، فقال سهيل: “لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيلا بن عمرو”.
ويروي عمر رضي الله  ما دار بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:  فأتيت النبي صلى الله عليه وآله ، فقلت له: ألست نبي الله حقا؟!. قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟. قال: بلى.
قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا، إذ  قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري.. قلت: أو ليس كنت تحدثنا  أنا سنأتي البيت فنطوف به  قال عمر: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر! أليس هذا نبي الله حقا؟. قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟!. قال: بلى. قلت: فلم نعطي هذه الدنية في ديننا إذا.
قال: أيها الرجل! إنه رسول الله، ولا يعصي لربه وهو ناصره، فاستمسك بعذره  فوالله إنه على الحق.”

ولقد بقي عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – برهة من الزمن متخوفًا أن ينزل الله به عقابًا للذي صنع يوم الحديبية. فكان – رضي الله عنه – يتحدث عن قصته تلك ويقول: فما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرا”.

هذه الواقعة تبين أنه حتى في عصر النبوة وقعت اختلافات في تقدير لـ” صلح الحديبية ” مع فارق أن الوحي جاء مؤيدا ومقرا للصلح أو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتصرف في النازلة تصرفا بالنبوة.

لكن هيبة النبوة ومكانة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكونا كافيتين كي يمتثل رجل مثل عمر ويسلم للنبي صلى الله عليه وسلم ، ونفس الشيء بالنسبة للصحابة رضي الله عنهم الذين صعب عليهم الاستجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحلق حتى إنه دخل على بعص أزواجه وقال لها : هلك المسلمون ، فأشارت عليه أن يخرج ويحلق أمامهم فحلق وحلق المسلمون وكاد بعضهم أن يؤذي البعض الآخر من شدة كراهية الرجوع إلى المدينة وتأجيل العمرة للعام القادم.

وفي طريق العودة إلى المدينة نزل قوله تعالى: “إنَّا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ” وفي نفس السورة :” لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله أمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا وجعل من دون ذلك فتحا قريبا”.

قال القرطبي : وجواب النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر بما جاوباه به، يدل على أن عندهما من علم باطنة ذلك، وعاقبة أمره ما ليس عند عمر؛ ولذلك لم يسكن عمر حتى بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح، فسكن جأشه، وطابت نفسه.

وحيث أنه  لم يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يفيد لدى الصحابة بوضوح  أن الأمر فيه وحي ، ولو فهموا ذلك منه لما جادلوا وتمنعوا بعض الوقت في الحلق ، فإن الأمر في التصرفات السياسية عموما مبني على الرأي والاجتهاد والمرجع فيه هو الشورى والتداول وهو ما برز بوضوح خلال التحضير لغزوة بدر حين خاطب  الحباب بن المنذر بن الجموح رسول الله قائلا كما ورد في سيرة ابن هشام قائلا : يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ، ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال : يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل.

وحيث أن النبوة اليوم  قد انقطعت فإنه لم يبق إلا التداول المسؤول داخل المؤسسات لبلورة المواقف السياسية التقديرية في القضايا التي تختلط فيها المصالح مع المفاسد ، والواقع أن أمر السياسة كله مبني على الموازنة بين المصالح والمفاسد من أجل تغليب كفة الأول. على الثانية وهذا كما قال ابن القيم الجوزية “موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك في معترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق، وجرؤا أهل الفجور والفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، وسدوا على أنفسهم طرقاً صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل وعطلوها، مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق، ظنًّا منهم منافاتها لقواعد الشرع”.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.