في فهم طبيعة الإصلاح.. مسار لولبي وخط تراكمي

محمد يتيم

الإصلاح لا يسير وفق خط تصاعدي مطرد، وكما يصدق هذا الأمر على المستوى الفردي يصدق على المستوى الجماعي، حيث تتصارع في نفس الإنسان نوازع الخير ونوازع الشر، وعوامل الصلاح وعوامل الفساد. كما أنه تهبّ على الإنسان -في اليوم الواحد وخلال عمره- فترات من التوهج والألق، وأخرى من الكسل والفتور، وهو ما يدل عليه الحديث النبوي الصحيح: “لِكُلِّ عملٍ شِرَّةٌ (= نشاط)، ولِكُلِّ شرَّةٍ فَترةٌ (= فتور)، فمن كانَت فَترتُهُ إلى سُنَّتي فَقد أفلحَ، ومَن كانت إلى غيرِ ذلِكَ فقد هلَكَ”.

ومعنى ذلك أن يكون المسار العام للصلاح والإصلاح في حياة الفرد والمجتمع مسارا تصاعديا، علما بأنه قد تأتي على الفرد والجماعة -وهذا من سنن الله الكونية- فتراتٌ وعثرات وتراجعات، والعِبرة بمسار المنحنى العام هل هو يسير بتقدم مطرد في مواقع الصلاح أو الإصلاح أم العكس.

ومن ثم فإن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح هو: هل منحنى الصلاح والإصلاح في المجتمع في تقدم أم في تراجع؟ وهو ما يمكن من تملك نظرة إستراتيجية لا تقف عند بعض حالات التراجع غير المؤثرة في مسار التدافع بين عوامل الصلاح والإصلاح وعوامل الفساد والإفساد.

ومن الناحية التاريخية؛ يتوقف بعض الإسلاميين مثلا عند ما يسمونه “الانقلاب الأموي”، ويعتبرونه “نهاية التاريخ الإسلامي” باعتباره يسجل نهاية “للنموذج الإسلامي” في الحكم، ويمسحون بذلك كل التجربة التاريخية والحضارية للإسلام والمسلمين من بعدُ، والتي بقيت متوهجة وفي صعود إلى عصر الموحدين، حسب مالك بن نبي الذي يعتبر أن بداية التراجع الحضاري الإسلامي تبدأ بـ”ما بعد عصر الموحدين”.

الزمن معامل أساسي في الإصلاح، وسنن الله في المجتمعات والتجارب القريبة والبعيدة تؤكد أن الإصلاح لا يتم بين عشية وضحاها، وأن البناء -عكس الهدم- يحتاج إلى عمل هادئ متواصل، وأن ما يحل فجأة هو الكوارث والصواعق، أما الكيانات الحية -سواء كانت بيولوجية أو اجتماعية- فإنها تخضع لمنطق النمو وسنة “الأطوار”.

وهذا التدرج والطابع التراكمي في الإصلاح فضلا عن كونه سنة طبيعية واجتماعية، فإنه يفرض نفسه بالنظر للطبيعة المركبة للفساد في الدول والمجتمعات، وقد واجه المجتمع الإسلامي هذا الواقع في وقت مبكّر واستحضره خامس الخلفاء الراشدين فيما تروي كتب السِّيَر.

فقد دخل عمر بن عبد العزيز يوما على أبيه فقال: “يا أبت! ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أُبالي لو أن القدور قد غَلَتْ بي وبك في الحق؛ فأجابه: لا تعجل يا بني، فإن الله قد ذمَّ الخمر في القرآن مرتين، وحَرَّمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحقَّ على الناس جملةً فيدفعوه جملة، ويكون من هذا فتنة”.

ودخل عليه مرة أخرى فقال: “يا أمير المؤمنين! ما أنت قائل لربِّك غداً إذا سألك فقال: رأيتَ بدعةً فلم تُمِتْها، أو سنةً فلم تُحْيِها؟”، فأجابه والده: “رحمك الله وجزاك من ولدٍ خيراً، يا بني! إن قومك قد شدّوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروةً عروةً، ومتى أردتُ مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمَنْ أن يفتقوا عليّ فتقا يكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يراق في سببي محجمة من دم، أوَ ما ترضى ألَّا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت بدعة ويُحيي سنة؟”.

ولابن خلدون كلام نفيس في مراعاة سنن العمران البشري “مستقر العادة” وقوانين التغيير الاجتماعي ومراعاة قاعدة التدرج والتراكم؛ فكان مما قرره -في كتابه العظيم ‘المقدمة‘ في الفصل السادس تحت عنوان: “في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم”- قوله: “ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء، فإن كثيرا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء، داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه والأمر بالمعروف رجاءً في الثواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء، ويعرّضون أنفسهم في ذلك للمهالك.

وأكثرهم يهلكون في هذا السبيل مأزورين غير مأجورين، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم، وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه. قال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه». وأحوال الملوك والدول راسخة قوية، لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر؛ كما قدمناه.

وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب، وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء، لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة والله حكيم عليم”.

على الرغم من أهمية السلطة السياسية وموقعها في الإصلاح، أي السلطة في أبعادها المختلفة تشريعيا وتنفيذيا وقضائيا “إن الله ليزع بالقرآن ما لا يزع بالسلطان”؛ فإن الإصلاح السياسي والمؤسساتي لا يكتمل بدون إصلاح ثقافي وتربوي، بل إن الأعطاب الثقافية قد تكون عرقلة لجهود الإصلاح السياسي والاجتماعي (انظر تفصيل ذلك في كتابنا: “نظرية الإصلاح الثقافي”).

وقد توسع عبد الرحمن الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” في كشف الطبيعة المركبة للاستبداد، وكيف ينتج الاستبداد السياسي منظومة متشابكة من علاقات الاستبداد على المستوى العلمي والثقافي والديني والاقتصادي والأخلاقي، وكيف تمكّن هذه الأنماط للاستبداد في مظهره السياسي.

وكما أن هناك استبدادا نازلا فهناك استبداد صاعد، كما أن هناك استبدادا أفقيا، وفي كثير من الأحيان يتم التركيز على الاستبداد النازل ويتم غض الطرف عن الأنماط الأخرى من الاستبداد (انظر كتابنا “نظرية الإصلاح الثقافي”)؛ دون إدراك لوجود تلازم بين الإصلاح الثقافي والتربوي والاجتماعي وعملية الإصلاح السياسي.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.