من أواخر ما كتب أيوب بوغضن: يخرج الحي من الميت

يفرح الظالمون عادة بالانتصارات الصغيرة، ويتوهمون أن الدنيا كلها طوع بنانهم، ويتوهمون أن حيازة السلط (التنفيذية، التشريعية والقضائية، والإعلامية، والاقتصادية) من شأنه أن يغير الحقائق ويقلب الموازين ويعدل سلم القيم ويتلاعب بالمقاييس.

نعم، قد ينجح الظالمون في توظيف سلطهم بطريقة بشعة، في ممارسة التعذيب النفسي والإيذاء الوجداني، ودفع الناس إلى الإحباط والياس. ومع ذلك، لن يفلحوا في إعدام من يحمل شارة “النصر”، ويؤمن بأن الانتصار على الظلم مسألة وقت.

نعم، قد ينجح الظالمون في إشاعة الخوف وفي تكميم الأفواه وفي كتم الأصوات وفي خنق الأنفاس وفي تزييف النقاش وفي تسييد البهتان وفي تسميم بعض العقول وفي تمييع بعض الحقول (الحزبية، والنقابية، المدنية، والإعلامية). غير أنهم لن ينجحوا مطلقا في تعديل طبائع الأشياء، وتغيير منطق الحياة، وتوجيه مسارات التاريخ.

يراهن الظالمون على جانب “بشري” في الإنسان، موصول بهويته “الطينية”، مجبول على الخوف وعلى الجبن وعلى الحرص على سقط المتاع وعلى الفتات وعلى الأنا وعلى الحسابات الصغيرة. وهو جانب طاغ وقوي، يشد الإنسان بثقله، ويدفعه للإخلاد إلى الأرض.  

لكنهم، ينسون أن في الإنسان جانب “آخر”، يسكنه رغما عنه، وينتظر بشوق لحظة الإعلان عن نفسه، يهمس في داخله بنداء واثق: تَجاوز ذاتك، حلق بعيدا عن مخاوفك، ترَفَع قليلا عن مصالحك، حاول الانسجام مع إنسانيتك، تمسك بمبادئك، كن وفيا لقيمك…

وقصة البشر، دائما وأبدا، هي قصة صراع بين من يستثمرون في جانب الإنسانية “المظلم” المنكفئ على الأنانيات، وبين من يستثمرون في جانبها “المشرق” المعانق لقضايا التحرر الحقيقية.

ولعل إرادة الله جل في علاه، شاءت أن يكون منطق الدنيا نازعا نحو توفير الأجواء والمناخات لغلبة الجانب “المظلم” طوال تاريخ البشرية. غير أن الأفق والوجهة والمسار، مهما طال ليل الانتصارات الصغيرة للظالمين المراهنين على الجانب المظلم، يشق طريقه بثبات نحو تغليب الجانب المشرق.

نعم، منطق الدنيا، الذي جُعل للاختبار ولإنجاز تمرين الاستخلاف، يُسعف كثيرا الظالمين المراهنين على الجانب المظلم في الطبيعة البشرية؛ إذ يُسهل مأمورية المكر والتضليل والخداع ونشر الأكاذيب وتزييف المعارك وتغذية الأهواء والميل إلى الذات وتغليف عملية إدارة الظهر للقيم بالكلمات الجوفاء.

ولكن، القصة لا تكتمل إلا بوجود نداء دفين قابع بأعماق الضمير يُوجع الظالمين والمتواطئين معهم، كما أن القصة لا يمكن موضوعيا أن تنتهي إلا بإبراز بعض الانكسارات الجزئية لمعسكر الظالمين. على أن المعركة طويلة الأمد، والانتصار الرمزي النهائي للمعسكر الثاني من الصعب أن يحُل قريبا وإلا ستنعدم أسباب قصة الاستخلاف على الأرض.

الجميل، في قصتنا، أن التناقضات تشق كل الصفوف وكل المعسكرات لأنها نتاج لتناقض جوهري بين طبيعة نازعة نحو الالتذاذ بالوجود عبر الانقياد للأنانيات الضيقة من دون اكتراث بالآخر (اجتماعيا، أو بيئيا…)، وطبيعة مُحلقة مائلة نحو الامتثال لمقتضيات  كنه الوجود –بعد استفراغ الجهد المناسب في إدراكها- عبر التحرر  والتخفف من أثقال الأنانيات المرهقة.

الأجمل، في قصة الاستخلاف، أن منطق الدنيا وعالم الشهادة ينتصر نسبيا للجناح السلبي في الطبيعة البشرية، إذ يُمكنه من تغليف وإخفاء حقيقة مراميه تحت ثياب جذابة وبكلمات براقة. بيد أن، الله جل في علاه، يُظلل بحضوره القدسي الجناح الإيجابي للطبيعة البشرية ويسندها وفق مشيئته في المعارك الحاسمة.

انظروا كيف (يخرج الحي من الميت) بدلالتها الرمزية: كيف يُخرج مشجعي الكرة، الذين أريد لهم أن يُعتقلوا في عالم بعيد عن معارك الحياة الحقيقية، لكي يثيروا القضايا (العدالة الاجتماعية، توزيع الثروة والسلطة، القضية الفلسطينية وخيار المقاومة وتخاذل الأنظمة) التي باتت الهيئات المدنية والحزبية والنقابية تعجز عن إثارتها في زمن يراد فيه تغليب الجناح السلبي في الطبيعة البشرية بآلة الحديد والنار.
هل كان يتوقع من كان يشتغل على تسميم الحقل الحزبي والنقابي والمدني، بعد أن اطمأن إلى الإمساك بالمجتمع، أن يخرج “الحي” من “الميت” الذي ظُن أنه سادر في ما يلهيه؟ 

المعركة مستمرة، بين الجناحين داخل كل فرد، وبين الصفين اللَذين يتغير ممثلوهما داخل الوطن، وبين المعسكرَين اللَذين يبقى الكيان الصهيوني طوال القرن الأخير عضوا محوريا ثابتا في أحدهما في العالم.               

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.