مريمة بوجمعة تكتب: الإثراء غير المشروع.. في الحاجة لنقاش هادئ

تطفو بين الفينة والاخرى قضايا تحتاج إلى نقاش هادئ منتج قانونيا ومعرفيا يبرز مدى قدرة ذاتنا الجماعية على صياغة أجوبة للإشكالات التي قد تعترضها، وبعيدا عن أسلوب التعالي والتعالم والتضليل اللغوي، وبعيدا عن الصراخ الأيديولوجي الذي قد يدفع، من يفترض فيه المبادرة الى هذا النقاش المنتج، الحشد لحرب دونكيشوتية يستنجد فيها بالمعسكر الليبرالي لخوض «معركة الأفكار» ضد «الشعبوية الجنائية» من اجل وضع «بصمة حداثية» وإشاعة «نفس حداثي» في ورش إصلاح العدالة، ومن خلال مواكبتي للمناقشة العامة والتفصيلية لمشروع القانون الجنائي بلجنة العدل والتشريع بدء من تاريخ 7 يونيو 2017 الى غاية 2 يوليوز 2019 يمكن القول بأن مناقشة الفصل المتعلق بتجريم الإثراء الغير مشروع  في مشروع القانون الجنائي رقم 10.16 سواء في المناقشة العامة أو التفصيلية حكمته الهواجس السياسية المتوجسة من استغلاله في تصفية الحسابات السياسية اكثر من الهواجس الحقوقية التي دفعت بعض الدول لتسجيل تحفظها على المادة 20 من الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد وإن كان حاضرا، باعتباره قد يمس بحق من حقوق الانسان و الذي يهم قرينة البراءة، أو ببعض الخيارات الحقوقية المتعلقة باستقلالية الذمة المالية للزوج(ة)، ومناقضة تتبع ذمته(ها) المالية وذمة الأصول والفروع  لمبدأ شخصية العقوبة.

إن المرجعية التي بصمت هذا الفصل وفصولا غيره هي المرجعية الدستورية، حيث نص دستور 2011 في فصله الاول على انه من الأسس التي يقوم عليها النظام الدستوري للمملكة ربط المسؤولية بالمحاسبة، والمرجعية الاتفاقية المتمثلة أساسا في مقتضيات المادة 20 من الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي صادق عليها المغرب، وان كان المشرع المغربي قد اختار تضمين مقتضيات هذه المادة ضمن القانون الجنائي وفِي فصل وحيد مدرجا إياها ضمن جرائم الفساد التي يرتكبها الموظفون ضد النظام العام والمتعلقة بالرشوة واستغلال النفوذ، فإن كثيرا من التشريعات المقارنة سواء التي صدرت قبل الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد او التي صدرت بعدها أفردت هذه الجريمة أي جريمة الإثراء غير المشروع أو الكسب غير المشروع بقوانين خاصة من قبيل القانون المصري والقانون العراقي والقانون اللبناني والقانون الفلسطيني والقانون الأردني ومؤخرا القانون التونسي الذي تضمن كذلك التصريح بالمكاسب والمصالح والكسب الغير مشروع.

لقد اختار المشرع المغربي من خلال الفصل 256-8 من مشروع القانون الجنائي رقم 10.16 ربط الإثراء الغير مشروع بالمنظومة التشريعية والمسطرية لقوانين التصريح بالممتلكات كما هو شأن المشرع الأردني والتونسي مثلا، وجعل معرفة الزيادة الكبيرة وغير المبررة في الذمة المالية للملزمين مرتبطة بما صرحوا به عبر مختلف محطات ولايتهم او مسارهم المهني، ليصبح هذا التصريح حجة عليهم فيما أقروا به مما يجعل أية زيادة كبيرة ملحوظة تستوجب منهم تبرير مصدرها المشروع والمستحق .

إن اختيار التصريح بالممتلكات كمصدر حصري لتأسيس الإثبات على الزيادة الكبيرة وغير المبررة في الذمة المالية للملزمين بالتصريح، وفق ما أقروا به أنفسهم من عقارات وأموال منقولة عند تصريح تسلم المهمة او اكتساب الصفة، وعند ممارستها (تجديدا او كلما طرأ تغيير على ممتلكاتهم ) وعند نهايتها، واعتماد هذا الإقرار الشخصي لإثبات الزيادة في ثروة الملزم وترصد التطور المشبوه الذي قد يطالها، وخلافا للنسخة الاولى للمشروع التي كانت مقتضياتها تفتح إمكانية رصد حالات الإثراء عبر روافد عدة دون اختزالها في منظومة التصريح بالممتلكات، تجعل العكس المتصور لعبء الإثبات في تجريم الإثراء غير المشروع لا يرقى الى درجة افتراض الإدانة عِوَض افتراض البراءة وبالتالي انتهاك قرينة البراءة، مع استحضار ان جريمة الإثراء الغير مشروع تتوفر على الشروط التي أكدت عليها المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان عند اقرارها كون القرائن الواقعية والقانونية في القوانين الجزرية لا تنتهك بالضرورة قرينة البراءة إذا ما تم حصرها في حدود معقولة تراعي جسامة الجريمة والمحافظة على حقوق الدفاع، والقابلية للدحض.

كما أن هذا الربط أي ربط تجريم الإثراء غير المشروع بمنظومة التصريح بالممتلكات يجعل الفئات الخاضعة للنص التجريمي للإثراء غير المشروع محددة فقط في فئة الموظفين العموميين الملزمين بالتصريح بالممتلكات مع التوسع في تعريف الموظف العمومي في مشروع القانون، وهو ما اختلفت حوله التشريعات المقارنة والاتفاقيات الدولية في مكافحة الفساد فمنها من حصرها في الموظف العمومي بمفهومه الجنائي سواء كان ملزما بالتصريح بالممتلكات أم لا، وهو ما ذهبت اليه المسودة السابقة لهذا المشروع، ومنها من أخضع جميع الأشخاص سواء كانوا موظفين أم لا، كما اختار المشرع المغربي الوقوف عند حدود مراقبة ما في حيازة الملزم بالتصريح من عقارات وأموال منقولة وما في حيازة ابنائه القاصرين دون ان تمتد الى رصد تطور ثروة الزوج(ة)، كما هو الشأن بالنسبة للمشرع المصري والفلسطيني والأردني، مع توسع المشرع التونسي ليشمل كل من تربطه به صلة، وحدد المشروع النطاق الزمني لجريمة الإثراء غير المشروع بمجرد اكتساب الصفة أو تولي الوظيفة وأثناء ممارستها وحتى  نهايتها، في حين هناك من الدول من عمدت الى إطالة النطاق الزمني للجريمة الى ما بعد مغادرة الشخص لوظيفته من قبيل الأرجنتين وكولومبيا وباناما والتي وصلت الى غاية خمس سنوات .

وخلافا للتشريع المصري والفلسطيني والأردني واللبناني لم يحدد المشرع المغربي مصادر الزيادة الكبيرة والغير مبررة في ذمة الملزم بالتصريح، والطرق التي تأتت منها والتي يمكن تصورها من خلال صورتين، صورة الاستغلال الوظيفي او استغلال الصفة ،وصورة السلوك المخالف لنص قانوني أو للآداب العامة كما تم تحديدها في التشريع الفلسطيني و المصري ، ولعل تأكيده على كون الزيادة مرتبطة بتولي الموظف العمومي لوظيفته او بداية اكتساب الصفة يحيل على ان مصدر الزيادة الكبيرة و الغير مبررة لما في حيازته ناتج عن استغلال الوظيفة او الصفة.

وإذا كان المشروع الحالي لم يتضمن عقوبة سالبة للحرية لمرتكب جريمة الإثراء غير المشروع  و اكتفى بغرامة تتراوح ما بين مائة الف درهم الى مليون درهم والحكم بمصادرة الأموال غير المبررة و التصريح بعدم الأهلية لمزاولة جميع الوظائف أو المهام  العمومية، فإن اغلب التشريعات المقارنة ذهبت الى عقوبات سالبة للحرية، حيث نجد المشرع التونسي مثلا يعاقب مرتكب جريمة الكسب غير المشروع بالسجن خمس سنوات و غرامة تساوي قيمة المكاسب غير المشروعة، ومصادرة المكاسب الغير المشروعة لفائدة الدولة والحرمان من مباشرة الوظائف العامة ومن حق الانتخاب والترشح لمدة خمس سنوات، كما يعاقب كل شخص معنوي يقوم بإخفاء مكاسب متأتية من جريمة الإثراء غير المشروع او بحفظها من اجل إعانة مرتكبها بغرامة تعادل قيمة المكاسب غير المشروع موضوع الجريمة و بالمصادرة، إضافة الى عقوبات تكميلية منها المنع من المشاركة في الصفقات العمومية لمدة خمس سنوات على الأقل.

إن  مقتضيات تجريم الإثراء غير المشروع كما جاء به الفصل 256 .8  في مشروع القانون الجنائي يشكل الحد الأدنى الذي لا يمكن النزول عن سقفه و إلا أصبحنا امام تجريم  عاجز عن محاصرة  مظاهر الإثراء غير المشروع، لذلك فإن تعديلات من قبيل عدم خضوع الملزمين بالتصريح بالممتلكات لمقتضيات هذا الفصل الا بعد انتهاء مهمتهم الانتدابية أو الإدارية و حصر مهمة إثارة الدعوى  في المجلس الأعلى للحسابات دون باقي الوسائل القانونية لإثارة الدعوى العمومية، وتعديلات مماثلة لا يمكن الا ان تضعف مقتضيات هذا الفصل وتفرغه من مضمونه وتشل هذه الآلية في محاربة الفساد وناهبي المال العام، خاصة امام الكلفة الثقيلة للفساد الذي اصبح يكلف الاقتصاد الوطني حوالي 5% من الناتج الإجمالي المحلي أي ما يعادل 5 مليارات دولار وهو مبلغ يساوي ما تبذله الدولة من اجل التعليم ،إضافة الى مساهمته في الانحراف بقواعد الممارسة الديمقراطية و في تقويض سيادة الحق و القانون و في تردي جودة العيش .

إن التفعيل الأمثل لمقتضيات الفصل المتعلق بتجريم الإثراء غير المشروع يتطلب تطوير المنظومة القانونية المتعلقة بالتصريح بالممتلكات وذلك بجمع شتاته الموزع بين عدة قوانين، مع اعتماد  المعالجة الالكترونية للتصاريح بالممتلكات لتتبع التطور الطارئ عليها إضافة الى نشر التصاريح بالممتلكات أسوة بالتشريعات المقارنة ومنها فرنسا.

 
 
 
 
 
 
 
شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.