محمد الشرقاوي يكتب: التحولات الجيوسياسية لفيروس كورونا وتآكل النيوليبرالية – (الجزء 1)

محمد الشرقاوي

ينبغي على المرء أن يستحضر المسافة بين الخيال والواقع. ومع ذلك، يقول عدد من مراقبي السياسة الصينية والمسؤولين العسكريين الغربيين: إن هناك صلة قوية بين انتشار فيروس كورونا والأبحاث الأخيرة التي أجريت في معهد ووهان لعلم الفيروسات في الصين.

في مبادرة رمزية تنمُّ عن مغزى مثير، هبطت طائرة صينية في روما، عاصمة إيطاليا، التي أصحبت عين العاصفة أو مركز أوروبا لانتشار فيروس كورونا، في الثاني عشر من مارس/آذار 2020، وعلى متنها تسعة خبراء في مجال الصحة العامة و31 طنًا من الإمدادات الطبية بما فيها وحدة العناية المركزة، ومعدات الحماية الطبية، والأدوية المضادة للفيروسات. في الوقت ذاته، عرض رجل الأعمال الصيني جاك ما، مؤسِّس مجموعة علي بابا، التبرع بتقديم 500 ألف وحدة لاختبار الإصابة بفيروس كورونا ومليون كمامة طبية للولايات المتحدة التي أعلنت حالة طوارئ عامة بسبب تفشي الوباء في الأسبوع الثاني من شهر مارس/آذار. كانت الصين بمثابة “ورشة العالم” خلال العقود الثلاثة الماضية لكونها وفَّرت ربع المصنوعات في العالم، كما يقول أستاذ الاقتصاد والحائز على جائزة نوبل بول كروجمان (Paul Krugman). واليوم تنصِّب الصين نفسها الطبيب ومختبر الصحة العامة بالنسبة للغرب. لأكثر من شهرين الآن، تشير الجهود المتعثرة لاحتواء وباء كورونا في أوروبا ومناطق أخرى إلى الحاجة لتحوُّل نَسَقِي في إدارة الصحة العامة والاستراتيجيات الاقتصادية والأمن البيولوجي ومراجعة محتملة لليبرالية الجديدة التي تعني ببساطة الرأسمالية المشحونة بالمنشطات.

في وقت سابق من فبراير/شباط، طلب ممثل إيطاليا الدائم لدى الاتحاد الأوروبي، ماوريتسيو ماساري، المساعدة من الأوروبيين عبر مركز تنسيق الاستجابة للطوارئ. وقال: “لقد طلبنا إمدادات المعدات الطبية، وأحالت المفوضية الأوروبية الاستئناف إلى الدول الأعضاء، لكن ذلك لم يلق أي استجابة”. يعمل مركز التنسيق كوحدة للأزمات في الاتحاد الأوروبي، ويرصد الكوارث الطبيعية والكوارث التي من صنع الإنسان على مدار الساعة، ويدير حاجة أي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي التي لا يمكنها التعامل مع الأزمة بمفردها، ويوجه النداء إلى الدول الأعضاء الأخرى التي يمكنها بعد ذلك التطوع بتقديم المساعدة.

أثار التجاهل الأوروبي لكارثة إيطاليا، وهي في قلب القارة، مشاعر الاستياء بين الإيطاليين الذين شعروا أنهم خُذِلوا من قِبَل الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي عدة مرات، وذلك في أوج هجمة فيروس كورونا وفي ذروة أزمة اللاجئين عام 2015، عندما وصل حوالي 1.7 مليون فرد إلى المناطق الجنوبية للاتحاد الأوروبي. وينطوي تصريح المندوب الإيطالي على مذاق المرارة لغياب التضامن في أوروبا. فهو يقول: “إن أزمة فيروس كورونا شبيهة بأزمة اللاجئين، فالبلدان التي لم تتأثر على الفور ليست في الغالب على استعداد لتقديم المساعدة. ومن الواضح أن لدى هذه الدول تصورات مختلفة بشأن التهديد القائم. نحن نشعر أن فيروس كورونا يمثل تهديدًا عالميًّا وأوروبيًّا يحتاج إلى استجابة أوروبية، لكن الدول الأخرى لا ترى ذلك بهذه الطريقة”.

أثار هذا الموقف السلبي في بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، حيرة المراقبين السياسيين. وأثار أسئلة جديدة حول الغاية من الاتحاد الذي كان يُنظر إليه في وقت من الأوقات على أنه أكثر تحالف موحَّد وأكثر استراتيجية ما فوق بنية الدولة في العالم. وتلاحظ إليزابيث براو (Elizabeth Brow)، مديرة مشروع الردع الحديث في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، أن دول الاتحاد الأوروبي “بتنازلها المخزي عن المسؤولية، فشلت في تقديم المساعدة الطبية والإمدادات لإيطاليا أثناء تفشي المرض. والآن الصين تملأ ذلك الفراغ”.

ويخشى مؤرخو الاقتصاد الأوروبيون من شبح أن تتكرَّر مأساة الموت الأسود (Black Death)، التي اجتاحت القارة في منتصف القرن الرابع عشر وأدت إلى وفاة نسبة الثلث من مجموع السكان. وتسبب هذا الانخفاض في التركيبة السكانية في ندرة العمالة، وزيادة الأجور، والطعن في النظام الإقطاعي في أوروبا آنذاك. كما مهَّد الطريق للثورة الصناعية التي تعرضت في ظلها بريطانيا لاحقًا لوباء “الملك كوليرا” (King Cholera) في 1831-1832 و1848-1849 و1854 و1867. وكان داء السل مسؤولًا أيضًا عن وفاة ثلث الضحايا في بريطانيا بين 1800 و1850. والآن، يعود هذا الكابوس في أذهان الأوروبيين أقوى، لأن الأوبئة تشمل “معادلات عظيمة”، وقد تؤدي إلى تداعيات طويلة الأمد ليس على النمو الاقتصادي الأوروبي فحسب، بل وأيضًا على الاقتصاد العالمي. وفي الولايات المتحدة، قرَّر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي خفض سعر الفائدة القياسي إلى ما بين صفر و0.25 في المائة (بعد أن تراوح بين 1 و1.25 في المائة في السابق) وشراء 700 مليار دولار من سندات الخزانة والأوراق المالية المدعومة بالرهن في اجتماع طارئ يوم الأحد، وتراجع مؤشر داوجونز الصناعي بمجموع 2250 نقطة عند افتتاح البورصة الاثنين الموالي (16 مارس/آذار) وكاد مسؤولو السوق تعليق التداول.

أدى انتشار فيروس كورونا، أو فيروس كوفيد 19، إلى خمود الحركة وتوقَّف العالم تقريبًا. وأبقى على طائرات الشركات العالمية في الأرض مما يمثل تهديدًا وجوديًا للعديد منها. على سبيل المثال، سيؤدي الحظر الذي فرضه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مدة 30 يومًا على معظم الرحلات الجوية من أوروبا إلى أميركا، والذي بدأ سريانه في 14 مارس/آذار، إلى محو 20 مليار دولار، وهي مجموع المكاسب التي حققتها شركات الطيران التي تنقل الركاب عبر المحيط الأطلسي خلال عام 2019. وتتسع الدراما الحقيقية من تصوير مدن الأشباح في أفلام هوليوود إلى حقيقة دول أشباح حقيقية كما هو الحال في إيطاليا وإسبانيا وألمانيا. كما اختارت دول أخرى فرض الحجر الصحي على سكانها. وفي المحصلة النهائية، أصبحنا نعيش في عصر التمييز الفيروسي الافتراضي والمفروض ذاتيًا بين الذات والآخر في سائر البيئات الاجتماعية التي كانت حميمية، ومنها أماكن العمل والتجمعات العامة وحتى الكنائس والمساجد والمعابد.

علَّق الرئيس ترامب على بدايات انتشار الوباء بعبارات معادية للأجانب وقدم ادعاءً غير مسؤول على نطاق واسع للأميركيين بأن فيروس كورونا “سيختفي من ذاته. فقط كونوا هادئين. سوف تختفي…”. ومع ذلك، كشف الوباء الجديد اللثام عن أكثر مظاهر الليبرالية الجديدة تشاؤمًا. في نقاش إذاعي حول “الرأسمالية مقابل فيروس كورونا”، كان التركيز على ما إذا كان النموذج الأميركي الليبرالي الجديد للرأسمالية يجعل الولايات المتحدة واقتصادها غير مناسبين بشكل خاص وغير مؤهلين للتعامل مع أزمة صحية بحجم جائحة كورونا. ويؤكد جيفري ساكس (Jeffery Sachs)، مدير مركز التنمية المستدامة في جامعة كولومبيا، أنه “ليس لدينا نظام صحي عام. لدينا نظام خاص للربح. لدينا عشرات الملايين من المواطنين الذين ليس لديهم تغطية صحية. ليس لدينا اختبار منهجي. نحن نتدافع، وقد مرت أسابيع مع تكاثر هذا الفيروس وانتشار الوباء في الولايات المتحدة”. ولا غرابة أن عام 2020 سيدخل كتب التاريخ كعام لم يكشف عن فشل منظومة الصحة العامة على الصعيد العالمي فحسب، بل يشير أيضًا إلى حقبة ركود جيوسياسي ولحظة سقوط من عل للنظام النيوليبرالي في القرن الجديد. ولا يمكن الآن تقليل مخاطر الصحة العامة غير المتوقعة أو أن تُعزى “لا إلى الفضائل الأخلاقية ولا إلى الحاجة إلى الاستثمارات”، بل “تسلط الأزمة أضواء كاشفة على عيوب هذه الحقبة التي تتسم بقصر النظر ومنحى الاستغلال وأنانية بعض الأفراد”.

تتناول هذه الورقة، وهي في جزأين، ما اعتبره تداخل ثلاثية تحولات رئيسية فيما بينها: 1) تحديد سياق انتشار الوباء بين نهاية ديسمبر/كانون الاول 2019 والعشرين من مارس/آذار 2020، 2) ارتباط أو تزامن انتشاره عالميًّا مع عدم استقرار أسواق المال العالمية والانخفاض المفاجئ في أسعار النفط في منتصف مارس/آذار، حيث انخفض خام برنت بنسبة 12.2 في المائة، أو 4.15 دولار وتم تداوله بسعر 29.68 دولار، وهو أدنى مستوى له منذ يناير/كانون الثاني 2016، 3) القلق بشأن مستقبل الرأسمالية النيوليبرالية. ويبحث الجزء الأول في عدد من الثنائيات التي يتم تداولها الآن في المجال العام في جميع أنحاء العالم: هل فيروس كورونا وباء “من صنع الطبيعة” أو “من صنع الإنسان”؟ كيف يمكن للبحث العلمي فرز الحقيقة من الافتراضات المختلفة القائمة على “نظرية المؤامرة” حول السببية “المتعمدة” أو “التلاعب” المحتمل بالفيروس في السياسة الدولية؟ ثمة سؤال أساسي آخر يظل مفتوحًا حول ما إذا كان المجتمع الدولي ونظام الأمم المتحدة والقانون الدولي الإنساني بأكملهم قد فكَّروا في أي توازن ممكن بين الردع النووي والتسلح، اللذين يتم السعي إليهما بشدة، والردع الوبائي أو الحد الأدنى من استراتيجية الأمن البيولوجي. تتناول الورقة أيضًا اتجاهًا جديدًا للتوظيف الانتخابي من قبل الرئيس ترامب للوباء أو (Trumpian electioneering)، وسعيه لشراء واحتكار لقاح مضاد لفيروس كورونا تنكب على تطويره حاليًّا شركة أدوية في ألمانيا.  

يبحث الجزء الثاني من الورقة كيف تفرض جائحة كورونا منحى اقتصاديًّا جديدًا يمكن تسميته اقتصاديات الانتشار بالعرض (trickle-across economics)، وليس من أعلى إلى أسفل التي لوَّحت بها أدبيات (trickle-down economics) أو اقتصاد التأثير التنازلي الذي نادى به الرئيس الأميركي الأسبق، رونالد ريغن، في الثمانينات من القرن الماضي. ويتبين الآن مدى التشابك الاقتصادي السلبي من جراء الجائحة الراهنة. مثلًا في مدينة نيويورك التي تعدُّ المركز السياحي الأكثر رواجًا في العالم، أمر رئيس بلدية المدينة، بيل دي بلاسيو، أصحاب الحانات والمطاعم المحلية بإغلاق أبوابها في مسعى أخير لوقف انتشار فيروس كورونا. وكتب في رسالة وجَّهها إلى مواطنيه في نيويورك في 16 مارس/آذار “يجب أن نرد بعقلية الحرب”. وفي باريس، قال الرئيس إيمانويل ماكرون، في خطاب كئيب النبرة إلى الأمة الفرنسية: “نحن في حالة حرب. نحن لسنا في حالة مواجهة مع جيش آخر أو دولة أخرى. لكن العدو موجود هناك: هو غير مرئي، وصعب الاقتناص، لكنه يحرز تقدمًا”. وقرَّر ماكرون تجنيد الجيش للمساعدة في نقل المرضى إلى المستشفيات.

في البلدان النامية مثل المغرب والفلبين حيث تمثل الزراعة، والسياحة، والتحويلات المالية للعمال في الخارج العمود الفقري للاقتصاد الوطني، هناك مؤشرات قاتمة لبقية عام لن يكون مريحًا، حيث تبدأ العواقب الوخيمة لفيروس كورونا في يونيو/حزيران أو يوليو/تموز. بشكل عام، تتوقع وكالة التجارة والتنمية التابعة للأمم المتحدة (UNCTAD) أن عدم اليقين الاقتصادي وعدم القدرة على الحركة حاليًّا سيكبِّدان الاقتصاد العالمي تريليون دولار على الأرجح عام 2020.

ويتناول الجزء الثاني من الورقة النظام النيوليبرالي السائد الذي يصحو على ما يبدو على اختبار واقعي في مواجهة فيروس صغير. وتناقش بقية الدراسة مدى الحاجة للعودة إلى البعد الإنساني والأسبقية للمجتمع قبل الاقتصاد والربح في إعادة بناء نظام ديمقراطي اجتماعي منقَّح يكون بمثابة تصحيح حان وقته في حقبة أفول النيوليبرالية على ما يبدو في وجه لعنة فيروس كورونا.

يمثِّل وباء كورونا، الذي تصعب السيطرة على حركته عبر الحدود وبين القارات، تذكيرًا مروِّعًا جديدًا بمدى هشاشة الحياة البشرية في القرن الجديد. ولكن، يمكن اعتباره الوباء الأكثر ديمقراطية في عصرنا لعدم التمييز ضد أي عرق أو جغرافيا أو أيديولوجية سياسية أو ثروة أو مستوى من التنمية أو التخلف. وكما قال أحد المعلقين البريطانيين: “إنه لا يرحم ولا يستثني أحدًا، لا إمامًا ولا طبيبًا صينيًّا، ولا يراعي أي حدود وطنية. لذا، وحتى مع تراجع القادة الوطنيين عن ضمان طرق وطنية ذات إرادة في التعامل مع انتشاره، ينبغي أن تظهر إملاءات العلم والعقل. ومن دونهما، ليس هناك طريق آخر بديل للمضي قدمًا”.

يبدو أن نصف نطاق العدوى في مستواه الراهن في القارات الخمس يردِّد الحكمة التي صاغها سايروس إدسون (Cyrus Edson)، مفوض الصحة العامة في مدينة نيويورك، في مقالة بعنوان “الجرثوم كرافعة اجتماعية” (The Microbe as a Social Leveler) عام 1895. وكان معجبًا بأفكار الكاتب الاشتراكي البريطاني جيرارد وينستانلي (Gerrard Winstanley)، الذي عاش في القرن السابع عشر، والذي كتب يقول إن: “جرثوم المرض لا يحترم الأشخاص”. وأوضح أن الفقراء سيكونون الأكثر تعرضًا لخطر الإصابة بالمرض، وإنْ كان الأغنياء غير آمنين تمامًا من العدوى. ومن هذا المنظور، يقول إدسون: “إن اشتراكية الجرثوم هي سلسلة الوباء التي تربط بين جميع أفراد المجتمع. وخلال شهر مارس/آذار، لم تتمكن الدول الغنية في أوروبا وأميركا الشمالية والخليج من منع انتشار حالات الإصابة الجديدة في حين ظلت الدول الفقيرة تكافح من أجل توفير الموارد الأساسية من الماء والمطهرات والأدوية لمواطنيها. وبين يناير/كانون الثاني ومارس/آذار، انتشر الفيروس بسرعات تفوق حد التصور.

أرقام زاحفة

بحلول الثامن عشر من مارس/آذار، أعلنت منمة الصحة العالمية مجموع 200106 حالة مؤكدة للإصابة و8010 حالة وفاة، فيما تمَّ شفاء 82813 حالة في 167 دولة. وينمُّ انتشار الفيروس عن دلالات مثيرة من حيث تفشيه في مناطق أكثر من غيرها. وتشمل قائمة الدول التي لديها أكثر من 200 حالة مؤكدة الصين 81048، إيطاليا 21157، إيران 12729، كوريا الجنوبية 8086، إسبانيا 5753، فرنسا 4469، ألمانيا 3795، الولايات المتحدة 1678، سويسرا 1359، المملكة المتحدة 1144، هولندا 959، السويد 924، النرويج 907، الدنمارك 827، اليابان 780، بلجيكا 689، النمسا 655، قطر 337، اليونان 227، سنغافورة 212، والبحرين 211. وقد خضع من يقرب من 60 مليون شخص في الصين لإجراءات الحجر الصحي. وأصبحت إيطاليا المركز الأوروبي للوباء بإجمالي 21157 حالة إصابة و1441 حالة وفاة.

ترددت منظمة الصحة العالمية في تصنيف فيروس كورونا “جائحة رسميًّا”. ولم تقرِّر نشر هذا الخبر السيئ حتى 11 مارس/آذار. وتحدُّد المنظمة مفهوم الجائحة بأنه “الانتشار العالمي لوباء جديد”، وتقتصر الجائحة على “مجتمع أو منطقة”. وصرح المدير العام لمنظمة الصحة العامة، الدكتور تيدروس غيبريسوس (Tedros A. Ghebreyesus)، بالقول “يسترعي لفظ “جائحة” الكثير من الاهتمام. بيد أن هناك ألفاظًا أخرى أكثر أهمية: الوقاية والاستعداد والقيادة السياسية والأفراد. نحن معًا في هذه المعركة”.

تقول لورا سبيني (Laura Spinney)، مؤلفة كتاب “الراكب الشاحب: الإنفلونزا الإسبانية عام 1918 وكيف غيَّرت العالم” Pale Rider: The Spanish Flu of 1918 and How it Changed the World “، إن تفشي الإنفلونزا أودى بحياة 50 مليون شخص عام 1918، وأنشأت الدول منظمات جديدة لمكافحة العدوى. لكن في عصر الأوبئة وتجدد التنافس بين القوى العظمى، لم تعد تلك المنظمات كافية”.

على الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي، قفزت حالات الإصابة بفيروس كورونا في الولايات المتحدة من حالة واحدة في 22 يناير/كانون الثاني إلى 2179 في 13 مارس/آذار. وهذا يمثِّل ما يسمى المنحى المتسارع؛ إذ يتضاعف عدد الحالات كل يومين أو ثلاثة أيام مما قد يصل إلى مائة مليون حالة بحلول مايو/أيار وفقًا لتقديرات صحيفة واشنطن بوست. تلاحظ أنثيا روبرتس (Anthea Roberts) ونيكولاس لامب (Nicolas Lamp)، مؤلِّفا كتاب سيصدر قريبًا بعنوان “الفائزون والخاسرون: سرديات عن العولمة الاقتصادية”Winners and Losers: Narratives about Economic Globalization أنه بدلًا من اعتماد إطار مشترك لفهم هذا التهديد، “يضاعف الفاعلون انتقاداتهم الحالية للعولمة والنيوليبرالية… وينظر المراقبون السياسيون إلى الفيروس الحالي على أنه توضيح مثالي لمزايا أو عيوب الاستبداد أو الديمقراطية، ويمكن للمرء أن يختار ما ينتقد”.

منذ عام 2009، تم الإعلان عن حالات طوارئ الصحة العامة خمس مرات على نطاق عالمي: جائحة إنفلونزا الخنازير عام 2009، وشلل الأطفال عام 2014، وإيبولا في غرب إفريقيا عام 2014، واندلاع فيروس زيكا عام 2015، واندلاع آخر لإيبولا في جمهورية الكونغو الديمقراطية الكونغو في 2019. ورصد خبراء منظمة الصحة العالمية حدوث 1483 انتشار وبائي في 172 دولة بين 2011 و2018. واعتبرت المنظمة تلك الحوادث بمثابة مؤشرات على حقبة جديدة من الأوبئة شديدة التأثير والانتشار السريع. وحذرت من التهديد الموثوق تمامًا لمسببات الجهاز التنفسي التي تؤدي في نهاية المطاف إلى كارثة بيولوجية عالمية يمكن أن “تتسبَّب في وفاة حوالي 50 إلى 80 مليون شخص وتدمير ما يصل إلى 5 في المائة من الاقتصاد العالمي، فضلًا عن التسبُّب في عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي”.

تعقُّب المعطيات العلمية

في عصر الإنترنت السريع ووسائل التواصل الاجتماعي، استهلك الرأي العام فيضًا متدفِّقًا من المعلومات الخاطئة أو المضلِّلة بشأن حقيقة انتشار فيروس كورونا وتشبَّع بمشاعر الخوف والقلق العميق. كانت هناك مزاعم حول وجود “مختبرات سرية” و “مؤامرات حكومية” و”تلاعب” ضمني بالفيروس ضمن المنافسة الجيوستراتيجة والاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، وربما حتى مؤامرة معادية لإيران. وبحلول 16 مارس/آذار، تجاوز عدد القتلى في إيران 850 شخصًا، بمن فيهم آية الله هاشم بهتاي غولبايغني، عضو مجلس الخبراء المكلف بتعيين المرشد الأعلى للجمهورية، بعدما أظهر اختبار حالته أنه مصاب بالفيروس الجديد وتم إدخاله المستشفى.

ساعدت حالة الذعر العام في الترويج لمعلومات مثيرة للقلق. ويشير صامويل سكاربينو (Samuel Scarpino)، أستاذ إدارة الأعمال وعلوم الشبكات في كلية العلوم بجامعة نورث إيسترن، إلى أن “العلاقة بين العدوى الاجتماعية والعدوى البيولوجية الحقيقية هي سمة من سمات التفشي الحديث بسبب تردُّد المعلومات الخاطئة والأخبار المزيفة”. وحتى الآن، يتم تداول سرديتيْن رائجتيْن في أرجاء العالم: الصين “صنعت” الفيروس، والولايات المتحدة “بدأت” تفشي المرض عمدًا. وقال فيليب ريكر، المسؤول الكبير بوزارة الخارجية في واشنطن: “إن المسؤولين الروس الخبثاء يحاولون بث معلومات مضلِّلة عن أصل فيروس كورونا”.

يمكن تصنيف الفهم العام للفيروس الجديد حاليًّا إلى خطابيْن رئيسييْن: أحدهما علمي والآخر تأويلي يفسِّر بعض الحوادث. نبدأ بالخطاب العلمي؛ إذ وضعت دراسة حديثة لعلم البيئة أجراها فريق خبراء في بورنيو الماليزية وبعض المناطق في الصين سبب تفشي الفيروس تحت أضواء جديدة. فقد خلص علماء يعملون مع منظمة إيكوهيلث ألاينس (EcoHealth Alliance)، وهي مجموعة بحثية غير ربحية، إلى أن الوباء كان نتيجة “آثار غير مباشرة”، لحالات انتقال فيروس حيواني إلى الإنسان. فقد جمع كيفين أوليفال (Kevin Olival)، عالم أمراض البيئة، وزملاؤه عينات من آلاف الخفافيش في الصين. وأوضح قائلاً “وجدنا دليلًا من جميع العينات التي أجريناها في الصين إجمالًا على حوالي 400 سلالة جديدة من فيروسات كورونا”. والمعروف أن الخفافيش تحمل بعض الفيروسات الخطرة خاصة التي لديها القدرة على الانتشار عالميًّا. واكتشف الباحثون أن بعض فيروسات كورونا متقاربة جدًّا جينيًّا من فيروس السارس (SARS).

خبيرة أخرى في فريق الاستطلاع الميداني هونغييغ لي (Hongying Li) تقول إنها تعقبت كيف أصبح بعض الأفراد في وضع جعلهم يلمسون لعاب الخفافيش أو بولهم أو برازهم دون قصد. وتوضح أن الخفافيش يعيشون في بعض المنازل مع البشر في بعض المناطق. وأفاد بعض السكان المحللين بأن “خفاشًا استقر في منزلهم، أو أنهم قتلوه، أو أنه يقتات على الثمار في الفناء الخلفي لمنزلهم”. وقارن الباحثون في معهد ووهان للفيروسات، وأيضًا في مستشفى ووهان جينينتان في الصين الذين تعاونوا مع منظمة إيكوهيلث ألاينس، عينات الخفافيش التي تمَّ جمعها، وتوصلوا إلى تقارب جيني للغاية. كما أصدروا دراسة تفصيلية تُظهر أن التركيب الجيني لفيروس كورونا الجديد يتشابه بنسبة “96 في المئة مع تكوين الفيروس الموجود في الخفافيش”.

على الرغم من تلويح الصين باحتواء الفيروس في مدينة ووهان، لم يتوصل العالم بعد إلى تركيب علاج واضح المعالم لمكافحة الفيروس بينما يتسابق العلماء لتركيب لقاح فعال. ودعت السلطات الصينية المصابين من سكانها إلى استخدام بعض العلاجات التقليدية. ويتم إعطاء المريض كيسًا من الحساء البني، وهو علاج صيني تقليدي يجتمع فيه أكثر من 20 عشبًا، بما فيه الإيفيدرا وأغصان القرفة وجذر عرق السوس، إلى جانب الأدوية المضادة للفيروسات المتداولة، وفقًا لوزارة العلوم والتكنولوجيا الصينية. وإزاء هذه الإجراءات الصينية، نشر فريق خبراء، في كلية إمبريال كوليدج (Imperial College) في لندن، وثيقة جديدة حذروا فيها من أن التهديد الراهن للصحة العامة هو “الأكثر خطورة” مقارنة مع فيروس الإنفلونزا الإسبانية الذي تفشَّى عام 1918. وأوصوا الحكومة البريطانية بتبني استراتيجية “قمع الوباء” لفترة قد تكون 18 شهرًا أو أكثر، بدلًا من استراتيجية “التخفيف” من انتشاره. وتبيَّن من الدراسة أن احتمال انتشار الفيروس قد يتجاوز استراتيجية التخفيف بما لا يقل عن ثمانية أضعاف فوق قدرات الخدمة الصحية الوطنية في بريطانيا، ويمكن أن يودي بحياة حوالى 250.000 شخص”.

في الولايات المتحدة، يؤكد المركز القومي لمكافحة الأمراض والوقاية منها أن فيروس كورونا “مجموعة كبيرة من الفيروسات الشائعة في البشر وعدة أصناف مختلفة من الحيوانات بما فيها الجمال والأبقار والقطط والخفافيش. ونادرًا ما يمكن لفيروسات كورونا الحيوانية أن تصيب البشر ثم تنتشر بين الأشخاص مثل فيروس MERS-CoV وSARS-CoV والآن مع هذا الفيروس الجديد المسمى “SARS-CoV-2″. ويمثل السارس وCoV-2 فيروسًا مستنبطًا من أربعة فيروسات في الأصل على غرارMERS-CoV وSARS-CoV. يعود منبت جميع هذه الفيروسات الثلاثة إلى الخفافيش”. وخلص المركز أيضًا إلى أن “هذا هو أول جائحة معروف أنها ناجمة عن ظهور فيروس كورونا جديد. في القرن الماضي، انتشرت أربعة أوبئة نتجت عن ظهور فيروسات جديدة للإنفلونزا”.

ويفسِّر الدكتور ويليام شافنر (William Schaffner)،  الأستاذ في كلية الطب بجامعة فاندربيلت ومستشار مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها، كيف تمَّ ترسيخ انتشار فيروس كورونا بسبب عاملين رئيسيين: “الانتقال دون أعراض وانتقال الأعراض الخفيفة”، ويعتبرها “محركات الانتشار في المجتمع”. وصنف علماء آخرون فتك الفيروس الجديد بنسبة 2 في المائة مقارنة مع 10 في المائة بالنسبة لوباء السارس. غير أن المؤرخ العسكري ومحلِّل الشؤون العالمية جوزيف مياكليف (Joseph V. Micallef) يقول إنه “مثل فيروسات كورونا الأخرى وباء حيواني: مرض مُعْدٍ تسببه الجراثيم والطفيليات التي تنتشر من الحيوانات غير البشرية (الفقاريات عادة) إلى البشر. ويكون العديد من المصابين في البداية إما يعملون أو يتردَّدون على سوق ووهان لبيع المأكولات البحرية بالجملة”.

تفسيرات التآمر لسبب فيروس كورونا

عادت بعض الأعمال الأدبية إلى دائرة الضوء مجدَّدًا في ذروة انتشار الفيروس الجديد. من هذه الأعمال رواية “عيون الظلام” (The Eyes of Darkness) التي تم نشرها عام 1981 للأديب دين كونتز (Dean Koontz) الذي تحدث عن فيروس مميت يسمى “ووهان 400″، ووصفه بأنه “مرض شبيه بالالتهاب الرئوي” ينتشر لمهاجمة “الرئتين والأنابيب القصبية” ويشكل “مقاومة أمام جميع العلاجات المعروفة.” يروي دومبي (Dombey)، إحدى الشخصيات الرئيسية في الرواية، قصة عالم صيني أحضر سلاحًا بيولوجيًّا يسمى “ووهان -400” إلى الولايات المتحدة. يقول دومبي “لفهم ذلك، عليك العودة إلى عشرين عامًا إلى الوراء عندما انتقل عالم صيني منشق يدعى (Li Chen) إلى الولايات المتحدة، حاملًا قرص إلكترونيًّا وفيه معلومات عن أهم وأخطر سلاح بيولوجي صيني جديد خلال عقد من الزمن. ويُطلق على هذه المادة اسم “Wuhan-400” لأنه تم تطويره في مختبرات “أر دي إن إي” (RDNA) خارج مدينة ووهان، وكانت سلالة قابلة للحياة من أربعمائة من الكائنات الحية الدقيقة من صنع الإنسان التي تم تركيبها في مركز البحوث هذا”.

ينبغي أن يستحضر المرء المسافة بين الخيال والواقع. ومع ذلك، يعتدُّ عدد من مراقبي السياسية الصينيية والمسؤولين العسكريين الغربيين بوجود صلة قوية بين فيروس كورونا والأبحاث الأخيرة التي أجريت في معهد ووهان لعلم الفيروسات. وقد جادل البعض بأن الفيروس الجديد قد يكون علامة استفهام إزاء “الأسرار المظلمة” التي يتم تطويرها في مختبرات الحرب البيولوجية حول العالم. علاوة على ذلك، هناك منحى متزايد نحو إضفاء هوية إثنية أو عرقية للفيروس الجديد باسم “الفيروس الصيني” في وسائل الإعلام والمنشورات الغربية. فقد سمع موظفو مكتب منظمة الصحة العالمية في الصين ما تردَّد كتقارير أولى عن فيروس غير معروف سابقًا بإصابة عدد من الحالات بالالتهاب الرئوي في ووهان في 31 ديسمبر/كانون الأول 2019. بعد ذلك اتجهت الرواية الرئيسية نحو احتمال أن يكون الفيروس الجديد قد نشأ في سوق المأكولات البحرية في ووهان، حيث يتم تداول الحيوانات بما فيها الطيور والأرانب والخفافيش والثعابين بشكل غير قانوني. بعد الاجتماع مع تيدروس أ. غيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية في قاعة الشعب الكبرى في ميدان تيانانمن في بكين، وهي رمز القوة السياسية للحزب الشيوعي الصيني في 28 يناير/كانون الثاني 2020، صرح الرئيس الصيني شي جين بينغ بأن “الوباء شيطان. ولا يمكننا ترك الشيطان يختبئ”. وبحلول 15 فبراير/شباط، أصدرت وزارة العلوم والتكنولوجيا الصينية توجيهًا جديدًا بعنوان: “تعليمات حول تعزيز إدارة الأمن البيولوجي في مختبرات علم الأحياء الدقيقة التي تتعامل مع الفيروسات المتقدمة مثل فيروس كورونا الجديد”. وفي 11 مارس/آذار، أقرَّت السلطات الصحية الصينية بوجود أكثر من 81032 حالة إصابة و3204 حالة وفاة.

وتساور الشكوكُ ذهنَ ستيفن موشر (Steven Mosher)، رئيس معهد البحوث السكانية ومؤلف كتاب “بلطجي آسيا: لماذا يكون حلم الصين هو التهديد الجديد للنظام العالمي”، بشأن السبب وراء النداء الاستعجالي للرئيس الصيني لإنشاء نظام وطني للتحكم في الأمن البيولوجي الذي يهدد “حماية صحة المواطنين”، ما دام أن سلامة المختبر هي قضية “الأمن القومي”، بعد أسبوع واحد من تصريحه بشأن “الحاجة لاحتواء فيروس كورونا” في 15 فبراير/شباط. ويعتقد موشر أيضًا أن لدى الصين مشكلة “الاحتفاظ بمسببات الأمراض الخطيرة في أنابيب الاختبار حيث ينبغي أن تكون محفوظة، أليس كذلك؟ وما هو عدد “مختبرات علم الأحياء الدقيقة” الموجودة في الصين التي تتعامل مع “الفيروسات المتقدمة مثل فيروس كورونا الجديد؟”، ويدعو رئيس معهد أبحاث السكان إلى بعض الاستدلال الاستنتاجي لكون ووهان مكان ولادة فيروس كورونا. ويجادل بالقول: “اتضح في كل ربوع الصين، أن هناك مركزًا واحد فقط، ويقع في مدينة ووهان التي تصادف أنها عين انتشار الوباء. صحيح. إن مختبر الأحياء الدقيقة الوحيد والمجهز للتعامل مع فيروسات كورونا المميتة في الصين، والمسمى المختبر الوطني للسلامة البيولوجية، هو فرع من فروع معهد ووهان لعلم الفيروسات”.

وأشارت التقارير إلى أنه تمَّ إرسال كبيرة خبراء جيش التحرير الشعبي في الحرب البيولوجية، المايجور جنرال تشين وي (Chen Wei)، إلى ووهان في نهاية يناير/كانون الثاني الماضي للمساعدة في الجهود المبذولة لاحتواء تفشي المرض. وفقًا لصحيفة “بي إلى إي ديلي” (PLA Daily)، كانت تشين تبحث في فيروسات كورونا منذ تفشي وباء السارس عام 2003، وكذلك إيبولا والجمرة الخبيثة. لم تكن هذه رحلتها الأولى إلى معهد ووهان لعلم الفيروسات، لكونه واحدًا من مختبريْ أبحاث الأسلحة البيولوجية فقط في الصين كلها. ويقول موشر إن فيروس السارس القاتل تسرب مرتين إلى خارج مختبر في بكين. وسرعان ما تم احتواء وباء كورونا والسارس بسرعة، وهما وباءان من صنع الإنسان. ولكن لم يكن أي من انتشارهما سيحدث على الإطلاق لو تم اتخاذ احتياطات السلامة المناسبة.

وينتقد إيفو دالدر (Ivo Daalder)، رئيس مجلس شيكاغو للشؤون العالمية وسفير الولايات المتحدة السابق لدى حلف شمال الأطلسي، الصين “لسرِّيتها وتقاعسها عن التعاون”، الأمر الذي سهَّل إمكانية تحوُّل الوباء إلى حقيقة. ويتذكر كيف تذكَّر الأطباء في ووهان، المدينة الصناعية التي يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة بحلول نهاية ديسمبر/كانون الأول 2019، زيادة عدد المرضى الذين يعانون أعراضًا مشابهة لمرض السارس الذي أودى بحياة ما يقركانون الثاني ب من 800 شخص في عامي 2002 و2003. فتمَّ حجر المرضى، وأصدرت لجنة الصحة في ووهان إشعارًا عامًا يؤكد عدم وجود سبب للقلق، وتمَّ تعقب العدوى إلى سوق الحيوانات الحية، والذي تم إغلاقه في 1 يناير/كانون الأول، وتحديد التسلسل الجيني لفيروس جديد بعد يومين.

نتيجة لذلك، أثارت المقالة الافتتاحية التي كتبها دالدر بعض الرجة مع المسؤولين الصينيين. وأرسل تشاو جيان، القنصل العام الصيني في شيكاغو، رسالة إلى رئيس تحرير صحيفة شيكاغو تريبيون يتهم فيها دالدر بـ”عدم الدقة والتحيز”. وتمت تعبئة الدبلوماسية الصينية في الغرب للسيطرة على مثل هذه السردية، ولتعزيز فكرة أن استجابة الحزب الشيوعي للفيروس كانت في الواقع شفافة وفعالة. واتهمت السفارة الصينية في لندن مجلة الإيكونوميست بـ”موقف التحيز ضد النظام السياسي الصيني”. وفي باريس، قالت السفارة الصينية: إن تغطية بعض وسائل الإعلام تركز على “الانتقاد الانعكاسي لكل شيء صيني بما يقترب من حد جنون الشك”. واتهم دبلوماسيون صينيون في برلين وسائل الإعلام الألمانية بـ”مواصلة إثارة الذعر ونشره”. ومن المفارقات أن سفارة الصين في كوبنهاجن طالبت من “جوتلاند بوست” (Jutland Post)، وهي الصحيفة الأكثر مبيعًا في الدنمارك، بتقديم “الاعتذار علنًا للشعب الصيني” لنشرها رسمًا كاريكاتوريًّا يظهر العلم الصيني مع رسوم توضيحية لفيروس بدلًا من النجوم”.

ويشكِّك عدد من المراقبين الغربيين في ما يعتبرونه إفراط الصين في توخي السرية بشأن دينامييات انتشار فيروس كورونا وتعبئة المدافعين عنها بأعداد هائلة بغية فرض رواية رسمية، لكنها أقل مصداقية. وتشير لوكريسيا بوغيتي (Lucrezia Poggetti)، محللة العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين في معهد ميركاتور لدراسات الصين (Mercator Institute for China Studies)، إلى أن “الحزب الشيوعي قام بتضييق الخناق على المعلومات التي تم تبادلها حول الوباء، وأرسل أكثر من 300 شخص لإنتاج وترويج قصص إخبارية إيجابية حول الصين وتعاملها مع تفشي المرض”. ويحذر مراقبون آخرون من فقدان معلومات لم تقدمها الصين. وعلى سبيل المثال، يشير أنتوني فوسي (Anthony Fauci)، مدير المعهد الوطني الأميركي لأمراض الحساسية والأمراض المعدية، إلى الفجوة بين الواقع والمعلومات المتوفرة، ويتساءل عن الفرق بين “الأرقام التي يتم تقديمها في مؤتمر صحفي مقابل الأرقام التي يمكنك في الواقع البحث عنها من خلال  تحليل البيانات”.

مناورة انتخابية ترمبية بانتظار لقاح مضاد لفيروس كورونا

في تطور مثير للاهتمام في الحملة العالمية ضد الوباء الجديد، تحوَّل علم فيروس كورونا إلى معركة جديدة حول المعرفة واستنزاف العقول، واتجاه جديد في منحى الاستغلال على طريقة الرئيس ترامب. فقد أعرب أعضاء الحكومة الألمانية عن استيائهم من الأخبار التي أفادت بأن الرئيس الأميركي عرض مبلغ مليار دولار لشركة كيورفاك (CureVac) لصنع الأدوية الحيوية ومقرها مدينة توبنغن، لتأمين اللقاح “للولايات المتحدة فقط”. وقد تأسست الشركة عام 2000، وهي متخصصة في “تطوير العلاجات ضد السرطان والعلاجات المستخلصة من الأجسام المضادة وعلاج الأمراض النادرة واللقاحات الوقائية”.

اتهم كريستيان ليندنر، زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي الألماني، الرئيس ترامب بمحاولة استغلال اللقاح المطلوب لاعتبارات حملته الانتخابية، قائلًا: “من الواضح أن ترامب سيستخدم أي وسيلة متاحة في الحملة الانتخابية”. وشدد وزير الاقتصاد الألماني، بيتر ألتماير، بوضوح أن “ألمانيا ليست للبيع”. وقال زميله وزير الخارجية، هايكو ماس، في حديثه مع إحدى الشبكات التلفزيونية: “إن الباحثين الألمان يقومون بدور رائد في تطوير الأدوية واللقاحات كجزء من شبكات التعاون العالمية. ولا يمكننا أن نسمح بوضع يريد فيه الآخرون الحصول على نتائج أبحاثهم لمصلحتهم حصريا”.

مقابل الموقف الألماني، سعت واشنطن لتهدئة الضجة. وصرح مسؤول أميركي قائلًا: “تحدثت الحكومة الأميركية مع العديد من الشركات، أكثر من 25 شركة تدِّعي أنها تستطيع المساعدة في تركيب اللقاح. وقد تلقت معظم هذه الشركات بالفعل تمويلًا أوليًّا من مستثمرين أميركيين”. بيد أن المستثمرين في شركة كيروفاك قرروا عدم بيع اللقاح لأي دولة بعينها. وذكرت الشركة المستثمرة الرئيسة فيها ديفيني هوب بيوتيك (dievini Hopp BioTech Holding ) “أنه إذا نجحنا في تطوير لقاح فعال، فيجب أن يساعد ويحمي البشر في جميع أنحاء العالم”. وقد أدت محاولة المناورة الانتخابية لترامب إلى ترسيخ الشائعات التي تدور حول الإنتاج المتعمد المحتمل للفيروس في مختبر لأهداف استراتيجية.

حتى الآن، راجت بعض الأنباء الواعدة حول تحقيق اختراق محتمل في تصميم دواء لمحاربة الوباء. وأعلنت وزارة العلوم والتكنولوجيا الصينية عن دواء جديد يعرف باسم “فافيبيرافير” (Favipiravir)، طورته إحدى الشركات التابعة لشركة فوجي فيلم توياما كيميكال اليابانية (Fujifilm Toyama Chemical)، وقد أسفر عن نتائج مشجعة في التجارب الأولية التي شملت 340 مريضًا في ووهان وشنتشن. وفي أستراليا، يشعر خبراء الأمراض في جامعة كوينزلاند في بريسبان بالحماس تجاه اثنين من الأدوية الموجودة التي من شأنها القضاء على عدوى الفيروس: الكلوروكوين (Chloroquine)، وهو دواء مضاد للملاريا، ومركب قمع فيروس نقص المناعة البشرية (lopinavir ritonavir).

لا يوجد يقين حتى الآن حول صحة هذه التجارب الطبية بينما تتسابق 35 شركة ومعهد أكاديمي لابتكار لقاح محتمل. والحكمة الشائعة بين معظم خبراء الصحة هي أن مجرد أمل في تطوير لقاح فيروس كورونا يحتاج بين 12 إلى 18 شهرًا. ويضغط الرئيس ترامب على أن يكون اللقاح جاهزًا في نوفمبر/تشرين الثاني، وهو الموعد المقرر للانتخابات الرئاسية الأميركية. ومع ذلك، فإنها تبدو مهلة مستحيلة. وتشرح أنيليس ويلدر سميث (Annelies Wilder-Smith)، أستاذة الأمراض المعدية الناشئة في كلية لندن للصحة والطب الاستوائي “مثل معظم أخصائيي اللقاحات، لا أعتقد أن هذا اللقاح سيكون جاهزًا قبل 18 شهرًا”.

سيتناول الجزء الثاني من الورقة أربعة محاور، وهي تسييس فيروس كورونا في السياسة الدولية، وحرج النيوليبرالية في ساعة الحقيقة، وفيروس كورونا والبشر والنظام، والعودة إلى البعد الإنساني والديمقراطية الأخلاقية ونسق الاحتياجات البشرية البسيطة.

عن مركز الجزية للدراسات

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.