عبد الله بن عمارة يكتب: كيف تعامل المسلمون والعرب مع الأوبئة؟

عبد الله بن عمارة

عانى العرب والمسلمون من الأوبئة والجوائح في مراحل مختلفة من تاريخهم، كان أهمها الطاعون الذي شملت تداعياته كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية. فلا غرابة أن نجده حاضراً، بطبيعة الحال، في مصنّفات التاريخ، كما في نوازِل الفقهاء وقصائد الشعراء وكُتُب الحكماء.

ولا شك أن طريقة التعاطي مع عارضٍ خطير كالطاعون، يعكس لنا أنماط التفكير المختلفة لدى “نخبنا” في سياقات تاريخية مُتباينة، فكيف نظر أسلافنا إلى الوباء؟

طاعون عمواس…بداية التحدّي

فرض انتشار الطاعون في بلاد الشام والذي بدأ في بلدة عمواس في سنة 18ه -640م (في فلسطين الحالية)، تحدياً هائلاً على قدرة إدارة الدولة الإسلامية الفتية بقيادة عمر بن الخطاب على التعامل مع جائحة أودت بحياة الآلاف من المسلمين (اختلفت أعداد ضحايا الوباء في روايات المؤرّخين الواقدي، الطبري، إبن كثير وغيرهم وتراوحت بين خمسة عشر وعشرين ألفاً) بينهم قادة كبار.

قرارات الخليفة بإخلاء الناس للمناطق الموبوءة والتوجّه إلى الجبال، ومغادرة الشام إلى عاصمة الدولة مكّنته من احتواء الأزمة، لكنها في نفس الوقت أطلقت جدلاً بين كبار قادة الدولة الفتية (الصَحابة). يُمكن النظر إلى هذا الجدل على أنه إرهاصات للحظة تأسيسية للتعاطي الفقهي، الذي سوف يتطوّر في القرون اللاحقة ليصل إلى ما يُسمَّى في علوم الفقه بمقاصِد الشريعة، مع مواقف وعوارِض من هذا النوع، بين رأي الخليفة الذي قدّر أنّ المصلحة العامة تقتضي حفظ نفوس المسلمين، وبين رأي بعض الصحابة كأبي عبيدة بن الجرّاح الذي رأى في التوجّه إلى المدينة فراراً من قضاء الله، بل ربما للتعاطي الكلامي مع مسألة القضاء والقدر مثلاً، التي شكّلت واحدة من أهم المسائل الجدلية لدى الفِرَق الكلامية الإسلامية المختلفة.

ينقل لنا المؤرّخون أخبار طواعين مبكرة أخرى في تاريخ المسلمين في القرن الأول الهجري. ومنها “الطاعون الجارف” في البصرة في سنة 69 هجرية، وما عُرِف بــ “طاعون الأشراف” في الشام والعراق في نهايته، ثم استمرت أوبئة أخرى في فتراتٍ مختلفة. من بينها الطاعون الذي أعقب سقوط بغداد بيد جيوش المغول سنة 1258م، والذي انتشر في بلاد المغرب والأندلس لاسيما في عهد الإمبراطورية المُوحِّدية وصولاً إلى ما عُرِف في الأدبيات اللاتينية بـــ”الطاعون الأسود”، أو “الوباء الأعظم” كما ورد في مصادرنا العربية، الذي اجتاح العالم القديم في منتصف القرن 14م.

غضب إلهي، اجتماع للكواكب، وخز للجن أم فساد للهواء؟

الحديث عن تعاطي “نخبنا”من حكّام وفقهاء وأطباء ومؤرّخين، مع الوباء يشمل محاولة رَصْد أهم ما كُتِب عن الأسباب المؤدّية إلى ظهوره وانتشاره، والآثار الناجمة عنه في مختلف المجالات، وهي تعكس الزاوية التي من خلالها نظروا إلى الأوبئة وبالأخصّ الطاعون.

لم يتوان بعض الفقهاء، أمام الانتشار الكبير للطاعون وعجزهم عن تفسير أسباب حدوثه، إلى إرجاعه إلى غضب الله وسخطه، فيما ذهب البعض لتفسيراتٍ فلكية فجعلوا من حركة النجوم واجتماع الكواكب كالمريخ وزحل في البروج النارية سبباً رئيساً لحدوث الطاعون.

هذا ما كتبه المؤرّخ والحكيم الأندلسي إبن الخطيب (ت 1374) في رسالته “مقنعة السائل عن المرض الهائل” خلال تفشي طاعون 1347م المعروف بـــ “الطاعون الأسود”، الذي قضى على ثلث سكان أوروبا  قائلاً:” لما كان الحكم على الشيء فرعاً من تصوّره، وجب أن نبيّن حقيقة هذا المرض، فنقول: هو مرض حاد، حار السبب، سمّي المادة، يتصل بالروح بدءاً بوساطة الهواء، ويسري في العروق، فيفسد الدم، ويحيل رطوبات إلى السمية فتتبعه الحمى ونفث الدم … له سبب أقصى: وهو الأمور الفلكية من القرانات التي تؤثّر في العالم، حسبما يزعمه أرباب صناعة النجوم ويأخذه الطبيب مسلّماً عنهم. وسبب أدنى: وهو فساد الهواء الخاص بمحل ظهوره ابتداء أو انتقالاً….”.

وذهب في نفس المنحى حكيم أندلسي آخر هو  إبن خاتمة (ت1369م) . الحكيمان الأندلسيان اتفقا على أن الطاعون الذي اجتاح أوروبا وشمال إفريقيا سببه الرئيس هو حركة الكواكب واتصالها، التي أفسدت الهواء فأدّى ذلك إلى انتشار الطاعون.

أما الفقيه الشهير إبن حجر العسقلاني (ت1449) فقد ألّف كتاباً عن الطاعون بعنوان :”بذل الماعون في فضل الطاعون”، خصّص منه فصولاً للحديث عن هذا الوباء باعتباره وخزاً من الجن، وأورد فيها نصوصاً لفقهاء مسلمين كإبن قيّم الجوزية  وإبن إسحاق الكلاباذي حاججوا في الحكمة في تسليط الجن على الإنس بالطاعون.

وقدّم إبن حجر في الكتاب خاتمة هي شهادة لترسيخ هذا الاعتقاد بالقول:” لقد وردت آثار وحكايات لا تحصى في تثبت كونِ الطاعون من وخز الجن، من أقربها ما حدّث به الشريف شهاب الدين بن عدنان، وهو يومئذٍ كاتب السر في القاهرة، وأظنني سمعته منه، وقرأت بخطِ من أثق به قال: وقع الطاعون مرة، فتوجّهت لعيادة مريض فسمعت قائلاً يقول لآخر، اطْعَنْه فقال: لا. فأعاد، فقال، دعه لعلّه ينفع الناس فقال: لا بد. قال: ففي عين فرسه. قال: وفي كل ذلك ألتفت فلا أرى أحداً، فعدت المريض ورجعت، فرأيت الفرس انفلتت من الرِّكاب، فتبعوها، إلى أن ردُّوها وقد ذهبت عينها من غير أثر ضربة ظاهرة. قال فَتَحَقَّقْتُ صدق المنقول أن الطاعون من وخز الجن، وكان عندي في ذلك وِقْفَةٌ”.

وفي نفس الكتاب استحضر كل عُدّتِه الكلامية الأشعرية لدعم موقفه الرافض لمبدأ العدوى الوارد في نصين للرسول؛”لا عدوى ولا طيرة” و”لا يُورد مُمْرِض على مُصِح”، الذي يمكن اختصاره في أن القول بأن المرض يعدي فيه مخالفة للعقيدة لأنه نوع من الطيرة ولأنه ينفي القدرة عن الله، والأصح، في رأيه، أن المرض لا يعدي لنفسه وإنما بحكم العادة.

وبعد أن سرد آراءً لفقهاء دعموا هذا القول ختم بقوله: “ثم وجدت سلف الجميع في ذلك، وهو أبو عبيد القاسم بن سلام، فذكر ما معناه أن النهي في أن لا يورد المُمْرِض على المُصِح ليس لإثبات العدوى، بل لأن الصحاح لو مرضت بتقدير الله، فربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوى، فيفتتن ويتشكك في ذلك، فأمر باجتنابه. قال أبو عبيدة: وكان بعض الناس يحمله على أنه مخافة على الصحيحة من ذات العاهة. قال: وهذا شر ما حمل عليه الحديث لأنه رخصة في التطير المنهيّ عنه، ولكن وجهه عندي ما قدّمته”. 

أما من أرجع الطاعون إلى فساد الهواء فهم معظم الحكماء من أهل الطب، لأن الناس يشتركون جميعهم في استنشاقه فيعني فساده هلاكهم جميعاً، كما يرى الطبيب الأندلسي إبن زهر.

لكن إبن خلدون، الذي عانى هو نفسه من الطاعون الذي فتك بوالديه وبشيوخه، فصّل في الرأي القائل بفساد الهواء كسبب رئيس لحدوث الطاعون، فضمّنه عناصر جديدة ومثيرة مرتبطة بنظرياته حول الدورة الطبيعية لنشأة الدول والعلاقة بين أنماط العيش الحضرية والبدوية، فكتب في مقدّمته: “..وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرُّطُوبَات الفاسدة، وإذا فسد الهواء وهو غذاء الروح الحيواني ومُلاَبِسُهُ دائماً فَيَسْرِى الفساد إلى مزاجه، فإن كان الفساد قوياً وقع المرض في الرئة وهذه الطواعين وأمراضها مخصوصة بالرئة، وإن كان الفساد دون القوي والكثير فيكثر العفن ويتضاعف فتكثر الحُمِّيات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك وسبب كثرة العفن والرُّطُوبات الفاسدة في هذا كله كثرة العمران وَوُفُورُهُ آخر الدولة…”.

واعتبر إبن خلدون في هذا النص انتشار وباء الطاعون نتيجة طبيعية لضعف الدولة الذي من مميزاته الأساسية كثرة المجاعات الناجمة عن هجرة الناس (أهل الأرياف والبوادي) للزراعة أو “الفَلْح” بتعبيره، والتي يكثر معها الوباء الذي يصيب أساساً الرئة نتيجة استنشاق الهواء الفاسد بل ويصيب مزاج الناس.

وفي هذا إشارة ذكية إلى ما تتسبّب فيه الطبيعة العمرانية للمدن التي تغيب فيها الشمس والتهوية من تأثير سلبي على شخصية الفرد وصحته النفسية.

لم يكتف العلامة الفذّ من شرح الأسباب، بل قدَّم حلاًّ يتمثل في ترك مجالات أو مساحات بين العمران تسمح بمرور الهواء الصحيح وخروج الهواء الفاسد فقال، “..ولهذا تَبَيَّن في موضعه من الحكمة أنَّ تَخلُّل الخلاء والقفر بين العمران ضروري ليكون تموج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد.. ويأتي بالهواء الصحيح”.

الطاعون كان حاضراً بقوّة في كُتُب الفقه، في شكل آراء ومواقف كبار الفقهاء كما رأينا سابقاً، كما في النوازل المرتبطة به التي لا تكاد تخلو منها المصنّفات الفقهية (إبن مرزوق الحفيد التلمساني1438م، يحيى بن عيسى المغيلي 1478م، محمد الرصاع ت1481م، بن يحيى الونشريسي ت1508م ….الخ).

وقد شكَّل التعامل مع الجوائح والأوبئة مُؤشراً مهماً لمعرفة مدى قوّة الدولة وحُسن تدبير قادتها، ينقل لنا المؤرّخون مثلاً أن الخليفة يعقوب المنصور المُوحِّدي، وأمام وباء الجذام الذي ضرب أقاليم دولته، استحدث حارات خارج الحواضر جمع فيها المصابين عرفت بـــ”حارات الجذمى” بغية الحد من انتشاره .  

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.