بالمختصر المفيد: رحيل اليوسفي.. داعية المنهجية الديمقراطية

يتعين في هذه اللحظة التي يدور فيها نقاش حول الاختيار الديمقراطي كأحد الاختيارات الدستورية التي تقررت في دستور 2011 وتعززت من خلال الممارسة الملكية عقب استحقاقين متتاليين، مثلتا تأويلا ديمقراطيا في أسمى مظاهره وصوره، أن نستحضر أحد القامات الوطنية ورجالات الحركة الوطنية وجيش التحرير، والذين جاء دستور 2011 كي يعطي مصداقية لما دعا له بشأن احترام المنهجية الديمقراطية، وذلك عقب  تعيين وزير أول من خارج الحزب الأول الذي تصدر الانتخابات التشريعية سنة 2002.

إنه الرجل الذي ودعناه: الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي أحد الرجالات الكبار الذين أسهموا في معركة التحرير من خلال الانخراط في المقاومة وبناء جيش التحرير، خصوصا بعد عزل الفرنسيين للملك محمد الخامس عام 1953 إلى جانب رجال من قبيل علال الفاسي والدكتور عبد الكريم الخطيب، وبن سعيد أيت إيدر وغيرهم، رحم الله منهم الأموات وبارك في أعمار من هم على قيد الحياة.

الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي هو أحد كبار الزعماء والسياسيين الذين بصموا مسار العمل السياسي والعمل النقابي وناضلوا من أجل بناء الدولة الحديثة سواء من موقع المعارضة أو من موقع التدبير الحكومي إبان تجربة التناوب التوافقي.

 هو الذي استقال من المسؤولية الحزبية، احتجاجا على نتائج الانتخابات التشريعية، التي جرت عام 1993، ليعود صيف ذلك العام إلى فرنسا ثم ليعتزل العمل السياسي بسبب ما اعتبره خروجا عن المنهجية الديمقراطية.

وحين نذكر الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي فلا يمكن إلا أن نتذكر الراحل الملك الحسن الثاني وعبقريته السياسية، ونتذكر من خلاله الخصوصية المغربية كما تجسدت في العلاقة بين الملكية وفصائل الحركة الوطنية بما فيها تلك التي نحت منحى المعارضة ليس لسياسات النظام بل للنظام في حد ذاته.

فالعلاقة بين الملكية وبعض الفصائل السياسية من الحركة الوطنية لم تكن على ما يرام خلال مرحلة الستينات، نتيجة تأثر فصائل منها من جهة بالريح الثورية التي كانت تهب على الوطن العربي سواء في أبعادها القومية أو في مشاربها الاشتراكية التي نهلت من الفكر الثوري الماركسي والتي اتخذت أحيانا أبعادا صدامية انقلابية، ومن جهة أخرى بدور بعض مراكز القوى التي لم تكن  تنظر بعين الرضا لأي تقارب محتمل بين الملكية وبين الفصائل المنبثقة عن الحركة الوطنية.

أن يستقبل الحسن الثاني رحمه الله ذات يوم الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي وأن يقدمه لولي العهد آنذاك مازحا: “أعرفك بأحد مروجي الأسلحة “.

 وأن يستأمنه بعد ذلك ويأخذ منه قسما على المصحف أن يعمل على تأمين التناوب التوافقي في تلك المرحلة، وكأنه كان يستشعر قرب رحيله عن هذه الدنيا، إن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا في المغرب، وهو ما تحقق حين تم الانتقال آنذاك بسلاسة إلى الملك الشاب محمد السادس نصره الله، إنها الخاصية المغربية التي تبقي على خطوط التعاون بين مكونات البيت الوطني حتى في حالة الاختلاف في التقديرات السياسية، والتي جعلت من كان “تاجر سلاح” مستأمنا على تدبير مرحلة حساسة من تاريخ المغرب.

وهو ما تم بسلاسة وسلام، تزامنا مع السماح باندماج مكون من مكونات الساحة الوطنية أي إحدى فصائل الحركة الإسلامية التي اختارت أن تندمج في الحياة السياسية من خلال أبوابها الدستورية ومقتضياتها القانونية.

ومن جديد تبرز الخصوصية المغربية، حيث تنفتح أبواب المشاركة لمكون من مكونات الساحة الوطنية، وليتصدر هذا المكون المشهد السياسي في أول انتخابات تنظم بعد دستور 2011، وهو الدستور الذي تضمن فصلا هو الفصل السابع والأربعون، ينتصر للسيد عبد الرحمن اليوسفي عندما انتقد عدم احترام المنهجية الديمقراطية عقب انتخابات 2002

من آثارهم تعرفهم، والتاريخ ينتصر دوما للرجال الكبار من قبيل اليوسفي الذي ظل مناضلا من أجل بناء دولة ديمقراطية معاصرة، ومن قبيل علال الفاسي  الذي انتصر لمبدأ “سيادة الأمة” ولم ير في ذلك أي تعارض مع “مقاصد الشريعة”، وللاستقلال التشريعي للمغرب عن التشريع الاستعمار في كتابه “دفاع عن الشريعة”، وللدكتور الخطيب الذي رفض إقرار حالة الاستثناء وتعطيل العمل بالدستور والمؤسسات المنتخبة .

  كم نحن في حاجة للتعلم من هؤلاء واستماتتهم في الدفاع عن المنهجية الديمقراطية والإنسية المغربية، وعلى عدد من المتربصين بهذه التجربة  أن يفهموا أن الاستثناء المغربي ليس صدفة وإنما هو نتيجة ثقافة سياسية بناها رجال من أمثال الحسن الثاني واليوسفي والخطيب وعلال الفاسي ومن سار على نهجهم واقتدى بسيرتهم .

كما أنها ثقافة متجذرة في التاريخ وفي الثقافة والحضارة المغربية، التي جعلت المغرب دولة قائمة الذات مستقلة عن الكيانات السياسية المشرقية بما في ذلك دولة الخلافة.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.