الغماز يكتب: الاستشراق الرقمي

سعيد الغماز*

قد يبدو للبعض هذا العنوان يحمل من الغرابة ما يجعله يربط بين عصر قديم وعصر حديث مفتوح على المستقبل بكل أبعاده الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

لكن عندما نتمعن في الأهداف التي كانت وراء ظهور الاستشراق منذ القرن الثاني عشر، وما أصبحت تمثله التكنولوجيا الرقمية الجديدة من تجميع للمعطيات بمختلف أصنافها، ندرك أن للعنوان ما يبرره.

وحين ننظر بتمعن لطرائق ممارسة الاستشراق التي تلتقي مع الاستخدامات التي تتيحها التقنية الرقمية الحديثة، نجد أكثر من تفسير لهذا العنوان. القوة التي كان يتمتع بها الشرق الإسلامي والغرب المسيحي فتح صراعا عسكريا خاضه الغرب ضد الشرق تحت ما يُعرف بالحروب الصليبية وبهدف استعماري لدول الشرق الاسلامي.

لكن هذا الصراع لم يكن له وجه عسكري فحسب لأن فاعليته لم تكن كما أرادها الغرب المسيحي، وإنما أخذ بُعدا فكريا بدراسة الثقافة الإسلامية ونمط تفكير الشرق الإسلامي عموما بهدف تيسير استعمار هذه الأقطار وإخضاعها.

هذا البعد الأخير تجلى في حملة استشراقية لتجميع المعطيات الفكرية والثقافية حول الشرق الإسلامي استُعمِلت فيها جميع الوسائل. فلبلوغ هذه المعطيات كانت الدول الغربية تَعْمَد إلى إرسال مستشرقين في صفة أطباء أو معلمين أو باحثين في الأركيولوجيا والدراسات الإنسانية وغيرها من الصفات. خلُصت الحملة الاستشراقية إلى تجميع العديد من المعطيات حول الشرق الإسلامي مكنت الدول الغربية من السيطرة الاستعمارية على هذه الدول الشرقية.

ولا غرابة إذا لاحظنا أن الدول الغربية التي استعمرت العدد الأكبر من المستعمرات هي التي قامت بأكبر حملة استشراقية، ونخص بالذكر فرنسا وبريطانيا وهولندا.

 إذا كان الهدف من الاستشراق هو دراسة حضارة الشرق الإسلامي وتجميع المعطيات التي ستساعد القوة العسكرية الغربية في بسط هيمنتها على هذه الدول، فإن التكنولوجيا الحديثة جعلت العالم الغربي يعتمد على تفوقه التكنولوجي ويستعمل التطبيقات التي تتيحها شبكة الأنترنيت لتجميع المعطيات التي ستمكنه من الحفاظ على سيطرته وهيمنته. هذه المعاني المصاحبة سواء للحملة الاستشراقية الأولى أو الحملة الاستشراقية الرقمية الراهنة، هي التي تضمنها عنوان كتاب إدوارد سعيد “الاستشراق: المعرفة، السلطة والانشاء”، وهي مفاهيم تلخص أدوار الاستشراق في الماضي والتي نجدها كذلك في الحاضر، وهي متمثلة في المعرفة أي تجميع المعطيات، والسلطة بمعنى توظيف المعطيات لتحديد مداخل المد الاستعماري والهيمنة الثقافية والاقتصادية، والانشاء بمعنى تدوين المعطيات وتخزينها في وسائل حديثة مرتبطة بتكنولوجيا الإعلاميات والأنترنيت. والتفوق التكنولوجي الذي يتمتع به الغرب جعله يستحوذ على هذه المعطيات ويوظفها في مصلحته الخاصة.

في عصر الاستشراق الأول، إن جاز لنا التعبير عنه كذلك، كان الغرب مطالبا بالقيام بحملات استشراقية لتجميع المعطيات في شكل دراسات وأبحاث، لكن في عصر الاستشراق الثاني والذي يمكن تسميته “بالاستشراق الرقمي” يكتفي الغرب المتقدم بتحليل ودراسة البيانات التي يتم تجميعها من خلال التطبيقات المتوفرة في شبكة الانترنيت حسب أهدافه.

معطيات يمكن مثلا أن يستلهم منها طريقة تفكير دول الشرق، وطبيعة اهتماماتهم، وأولوياتهم في الحياة وعلاقتهم بالقضايا المجتمعية وغيرها من التخصصات التي تسمح له باتخاذ القرارات لضمان استمرارية هيمنته وسلطته على الشرق الإسلامي. لكن عصر الاستشراق الثاني عرف دخول لاعب جديد كان في العصر الأول هدفا للحملة الاستشراقية، وأصبح في عصر الاستشراق الرقمي يتوفر على المعطيات والبيانات المتعلقة بالعالم الغربي ستجعله قادرا على معرفة الطرق التي تمكنه من فرض سيطرة بالاتجاه المعاكس أي قوة من دول الشرق تخوض حملة استشراق ضد دول الغرب.

ونقصد باللاعب الجديد دولة الصين التي تمكنت من التكنولوجيا الرقمية وأبدعت فيها وأصبحت تقنيتها حاضرة في معظم الدول الغربية.

الأمر الذي جعل الرئيس الأمريكي يتهمها بالتجسس وحقيقة الاتهام تتجلى في قدرة الصين على الحصول على البيانات الضخمة كما تفعل الدول الغربية المتقدمة وعلى رأسها أمريكا، وهي بيانات أصبحت أساسية لكل قوة عظمى تريد الاستمرار في الهيمنة على العالم، تفعيلا لمبدأ العلوم السياسية “من يمتلك المعلومة يمتلك السلطة”.    إذا كان عصر الاستشراق الأول، إنتهى بتجميع المعطيات في كتب ودراسات وأبحاث، فإن عصر الاستشراق الرقمي يستعمل تقنية حديثة تمكنه من افتحاص ملايين البيانات المخزنة في خوادم رقمية (serveurs Numériques) باستعمال منظومة البيانات الضخمة (Big Data) واستخراج جميع التصورات والنظريات حسب رغبته.    هذا الربط بين الرقمنة والاستشراق ليس المقصود منه الابتعاد عن تكنولوجيا الرقمنة التي تشكل فرصة كبيرة لتحقيق الطفرة التنموية في كثير من البلدان وتُشكل العمود الفقري لكل طموح تنموي، وإنما المقصود به الدخول التام لعالم الرقمنة والابداع فيه لأنه هو المستقبل، مع الحرص على تدعيم السيادة الرقمية للدول التي أصبحت في عالم التكنولوجيا الحديثة تستأثر اهتماما أكبر من السيادة السياسية وحتى السيادة الترابية. وهذا الهدف لن يتأتى إلا بامتلاك التكنولوجيا الرقمية والابداع فيها من قبل الدول الطامحة لتحقيق التنمية الشاملة.                
*باحث في التنمية وتكنولوجيا المعلومات والاتصال

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.