التضليل والأخبار الزائفة.. الوباء الإعلامي الجديد

تكاد تكون الأخبار الكاذبة والتضليل والإشاعات مدرسة قائمة الذات، حيث لا يمر يوم بدون إثارة زوابع معلوماتية تسهم في ضبابية المشهد العمومي، وتجعل أي نقاش جاد بناء في مهب الريح، فما تقوم به هذه الإشاعات هو بعثرة الأوراق، إنها تخلق نوعا من التشويش  وإغراق الرأي العام بوابل من المعطيات المزيفة ونشر التزييف والتسطيح والتجييش وإلهاء الرأي العام عن الأولويات، بغرض تحقيق أكبر عدد من المتابعات لفائدة المواقع الإخبارية، و”اللايكات” لفائدة رواد الفضاءات التفاعلية.

محاصرة الرأي العام

وفي هذا السياق، تحدث محمد الراجي، باحث بمركز الجزيرة للدراسات والأبحاث، في دراسة تحت عنوان :”صناعة الأخبار الكاذبة ولولب الحصار المعلوماتي”،  عن استراتيجيات محاصرة الرأي العام بالأخبار الكاذبة من خلال وضع نموذجٍ سماه الباحث بـ “لولب الحصار المعلوماتي”، الذي “يهتم بكيفية اشتغال الأخبار المزيفة لتسييج الرأي العام عبر التشويش والاحتيال على منصات الإعلام الرقمي ووسائل الإعلام بشكل عام لاستغلال بياناتها واختراق المنصات المُنَافِسَة في مرحلة أولى”.

أما المرحلة الثانية، حسب الراجي، فتقوم على “الانغمار في ضخ المعلومات والبيانات المفبركة والتحليلات المزيفة عبر موجات و/أو هجمات لَوْلَبِيَّة عاصفة من قِبَل شبكة المفبركين”، مبينا، في نفس السياق، أن المرحلة الثالثة والأخيرة تقوم على “التسويق السياسي لخطاب شبكة المفبركين وسردياته البديلة عبر جميع وسائل الإعلام التقليدية والجديدة للتأثير في الرأي العام معرفيًّا ونفسيًّا وسلوكيًّا”.

جذور الأخبار المفبركة

وبالرجوع لأصول الظاهرة، تحدث عبد الرزاق الدليمي، أستاذ الدعاية والإعلام بجامعة البترا في الأردن، في دراسة تحت عنوان: “اشكاليات الأخبار المفبركة وتأثيرها على الرأي العام”، على أن ظاهرة الأخبار الكاذبة لها جذورها وتقاليدها الثقافية القديمة، لكن مواقع التواصل الاجتماعي أسهمت في ترسيخها، وسلبت الناس الوقت الكافي للتَّحقُّق من الأخبار بسبب كثافة تدفقها وسرعة سريانها على شبكة الإنترنت.

وأوضح الدليمي، أن ظاهرة صناعة ونقل الأخبار المزيفة والمفبركة رافقت مسيرة الإنسانية لعشرات الآلاف من السنين، فلم تولد المبالغة والتهويل في عصر مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت؛ إذ كانت لعبة الإنسان منذ تعلم الكلام وأتقن حَبْك القصص والروايات.

واستدرك المتحدث ذاته، قائلا: “لكن في الماضي كان الخبر المزور ينتقل ببطء شديد، ويؤثر في مجموعة صغيرة من الناس في مناطق جغرافية صغيرة ومحدودة، أما الآن فيمكن لأي خبر أو قصة أن تنتقل بسرعة فائقة وتنتشر في أرجاء المعمورة وتُحْدِث تأثيرات وتنتج عنها تداعيات لا يستطيع أحد التنبؤ بها”.

اضطراب المعلومات

وفي دليل نشرته منظمة “اليونسكو”، تحت عنوان “الصحافة.. والأخبار الزائفة والتضليل”، الذي أصدرته المنظمة في إطار سلسلة للتدريس والتدريب في مجال الصحافة، تم التمييز  بين ثلاث مستويات مما سماه الدليل بـ “اضطراب المعلومات”، الأول: “التضليل”، والثاني: “المعلومات الخاطئة”، والثالث: “المعلومات الضارة”.

ويؤكد الدليل، أن المعلومات الخاطئة، تعني المعلومات المغلوطة التي يعتقد الشخص الذي ينشرها أنها صحيحة، فيما التضليل، فعكسها تماما، إذ يعتمد على معلومات خاطئة يعلم الشخص الذي يقوم بنشرها أنها خاطئة، فهي كذب متعمد مقصود من قبل جهات فاعلة مؤذية تستهدف عن سبق وإصرار أشخاصا بعينهم بهدف تشويه سمعتهم.

أما المستوى الثالث، حسب الدليل ذاته، فيطلق عليها المعلومات الضارة، وهي معلومات تستند إلى الوقائع والحقيقة ولكنها تستخدم لإلحاق الأذى بشخص أو منظمة أو بلد.

أصناف الاضطراب المعلوماتي

إلى ذلك،  قسم الدليل فئات “الاضطراب المعلوماتي” إلى سبع أصناف، أولها، الهجاء والمحاكاة الساخرة، فرغم أن الصحافة الساخرة نموذج فني وإبداعي، إلا انه مع تزايد وتنامي الأخبار الزائفة وتلقي الناس لها عبر الفضاءات الاجتماعية فقد تولد لدى المتلقي ارتباط بينهما بسبب عدم استطاعته التمييز بين الموقع الساخر والجاد.

أما الصنف الثاني، فهو الربط الكاذب، أي عندما لا تدعم العناوين أو الصور المرئية أو التسميات التوضيحية المحتوى، فيما صنف الدليل “المحتوى المضلل”، ضمن الصنف الثالث لـ “الاضطراب المعلوماتي”، حيث نجد هذا النوع من المحتوى عندما يكون هناك استخدام مضلل للمعلومات لتصوير المشكلات أو الأفراد ضمن إطار مقصود عن طريق قص الصور أو اختيار اقتباسات أو إحصائيات بشكل انتقائي وهذا ما يسمى “نظرية التأطير”.

أما الفئة الرابعة، حسب الدليل، فترتبط بالسياق الخاطئ، الذي يتم من خلاله تحوير المحتوى الحقيقي عن سياقه الأصلي، فيما يتعلق الصنف الخامس بـ “المحتوى الإنتحالي”، أي حين يجد الصحفيون مثلا أسماءهم على مقالات لم يكتبوها أو نرى شعارات لمنظمات مستخدمة في مقاطع فيديو أو صور لم تنشئها، ثم يرتبط الصنف السادس، بـ “التلاعب بالمحتوى”، أي حين يتم التلاعب بالمحتوى الأصلي بهدف الخداع.

وأشار الدليل، الذي أصدرته منظمة “اليونسكو” هذه السنة، إلى الصنف السابع والأخير والمرتبط بـ “المحتوى الملفق”، الذي يمكن أن يكون نصا مكتوبا، وهو ما تنشره مواقع الأخبار الملفقة تماما.

كورونا.. ووباء الإشاعة والفبركة

في هذا السياق، رصد المجلس الوطني للصحافة بالمغرب في تقرير له حول :” كوفيد – 19 رصد أخلاقيات مهنة الصحافة”، مجموعة من الخروقات التي مست أخلاقيات المهنة، من بينها مثلا، تعمد البعض استغلال الهويات البصرية لمنابر إعلامية من أجل فبركة وإذاعة صور تنقل أخبارا زائفة أو مضللة ونسبها لهذه المنابر، في خرق سافر لأخلاقيات المهنة، (المحتوى الإنتحالي حسب دليل اليونسكو).

وأفاد التقرير أن قناة ميدي 1 تيفي نفت في 5 أبريل 2020، بث خبر عاجل مفاده أن “الحجر الصحي بالمغرب سيمتد لشهر يوليوز 2020″، كما تداولت ذلك بعض الصفحات والتطبيقات على مواقع التواصل الاجتماعي.

وأشار التقرير ذاته، أنه، ليست هذه المرة الأولى التي يسجل فيها مثل هذا السلوك الخطير في هذه الظرفية، إذ سبق أن أعلن موقع هسبيرس، في 3 مارس 2020، عن استغلال البعض لهويته البصرية وتداول صورة مفبركة لمقال قيل إنه منشور على الموقع تحت عنوان “غلق جميع المدارس ابتداء من يوم الأربعاء بسبب تسجيل أول إصابة بفيروس كورونا في المغرب”، إذ كانت وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، أكدت أن الخبر غير صحيح.

وفي نموذج ثان، رصده التقرير، فيتعلق بانخراط بعض المواقع الإلكترونية في الترويج لإشاعات اكتشاف علاج كورونا بالأعشاب أو الوقاية منه وتقوية المناعة، بحثا عن البوز وغايات بعيدة عن رسالة الصحافة المهنية والأخلاقية، وعن صحافة التدقيق والتأكد من صحة المعلومات قبل نشرها، مشيرا إلى أن إحدى الفيديوهات “سجل أكثر من 1,5 مليون مشاهدة”، (المحتوى الملفق حسب دليل اليونسكو).

مكافحة التضليل والمعلومات الخاطئة

ولمكافحة التضليل والمعلومات الخاطئة، أكد الدليل الذي أصدرته منظمة اليونسكو تحت عنوان “الصحافة.. والأخبار الزائفة والتضليل”، على أهمية التربية الإعلامية والمعلوماتية من خلال الإلمام بأساسيات الأخبار بما في ذلك المعايير والأخلاقيات الصحفية، والإلمام بأساسيات الإعلان وأساسيات الحاسوب والإلمام بأساسيات التفاهم بين الثقافات وما يتعلق بالخصوصية ويشمل ذلك فهم كيفية تفاعل الاتصالات مع الهوية الفردية والتطورات الاجتماعية.

وأضاف الدليل، أن التربية الإعلامية والمعلوماتية، مهارة حياة أساسية تتنامى أهميتها وهي ضرورة لمعرفة القواسم المشتركة بين الناس في تشكيل هوية الفرد، وكيف يمكن التنقل بين ضباب المعلومات وتجنب الألغام المخبأة داخل هذا الضباب، مشددا على أن التربية الإعلامية والمعلوماتية تعلمنا “استهلاكنا وإنتاجنا واكتشافنا وتقييمنا وتبادلنا للمعلومات وفهمنا لأنفسنا والآخرين في مجتمع المعلومات”.

إعلام الأخلاقيات خلال الأزمات

ولتجاوز مجموعة من الخروقات المهنية التي ظهرت بشكل جلي في ظرفية أزمة كورونا، اقترح المجلس الوطني للصحافة، خارطة طريق لتطوير الممارسات الإعلامية خلال الظروف الاستثنائية، تتضمن، تكثيف اللقاءات مع الجسم الصحفي حول القواعد المهنية والأخلاقية، وتنظيم دورات تكوينية موضوعاتية يساهم في تأطيرها خبراء في تدبير الكوارث الطبيعية وحالات الطوارئ الصحية.

وأشار المجلس، في هذا الصدد، إلى أنه سينظم ورشات تكوينية حول إعلام الأزمات والحق في الخصوصية وفي الصورة مع إعداد دلائل عملية بتعاون مع المنظمات المهنية والمختصة، الوطنية منها والدولية، لفائدة الصحفيين حول بعض المواضيع والقضايا والظواهر الاجتماعية والسياسية والقانونية والبيئية وغيرها يكون الهدف منها تعميم وتبسيط تناولها إعلاميا من طرف المهنيين.

كما سيتم، حسب التقرير ذاته، تعزيز مؤسسة الرصد داخل المجلس الوطني للصحافة، من أجل التتبع اليومي للممارسة الإعلامية وتهيئ تقارير دورية في الموضوع، مع العمل على تفعيل مشروع التربية على الإعلام، باعتبارها دواء لداء “الفيك نيوز” والأخبار الكاذبة والمفبركة والمضللة وغير الأخلاقية.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.