سعيد بنيس يكتب: الهجرة الرقمية للشباب

سعيد بنيس

يبدو أن التحديات التي تطرحها الهجرة الجماعية للشباب إلى العالم الرقمي، في أفق التحول من مجتمع التواصل إلى مجتمع الاتصال والمكاشفة، قد أثرت على دور محاضن التنشئة (الأسرة والمدرسة والحزب والجمعية والنقابة…)، بالنظر إلى توغل بنيات وسلوكات موازية من قبيل التجمعات الافتراضية والهويات التعويضية والغرائبية الثقافية والانهزامية الهوياتية و”الحريك العلني” والانتحار والتشرميل والعنف الجنسي والانعزالية (“العميقين”)… في خضم تراجع مقولة مجتمع المعرفة كمنظومة تؤطر القيم والسلوكات وتحتضن المشاريع العامة للشباب. لهذا يشهد المغرب حاليا، هجرة من العالم الواقعي إلى العالم الرقمي، مع التزايد المطرد لرواد الشبكات الاجتماعية، وهو ما ساهم في أن تتحول كثير من الأفعال، التي كانت فردية ومنعزلة في السابق، إلى جماعية اليوم. كما أن سبب الهجرة الرقمية في علاقتها بشريحة الشباب مردها تآكل المرجعيات، وإعادة النظر في المنظومة القيمية. كيف يمكن إذن، التداول في الهجرة الرقمية للشباب المغربي والمنظومة القيمية (المادية وغير المادية)، لا سيما مع الطفرة الرمزية التي تتيحها وسائل الاتصال الجديدة؟ وكيف يمكن مقاربة تمفصلات السلوك السياسي والاجتماعي للشباب في علاقته بالبيئة القيمية الرقمية؟

للإجابة عن هذه التساؤلات يمكن اعتماد فرضية عامة، مفادها أن مقولة الهجرة الرقمية للشباب، في علاقتها بالاحتباس القيمي، تتم عبر انتقال من قيم واقعية مرفوضة إلى قيم رقمية مفوضة. من هذا المنطلق، يمكن رصد تضارب إشكالات وقضايا العالم الرقمي مع العالم الواقعي وبعض المرجعيات المجتمعية المغربية، لا سيما أن العلاقة بين الشباب والقيم سواء في العالم الرقمي أو الواقعي علاقة متفاوض عليها، بالنظر إلى تراجع القيم غير المادية، وعودة القيم المادية، وراهنية قيم الحياة التي تجسدها مسيرات العطش، وغلاء المعيشة، وعودة بعض الأوبئة …

ومن النتائج المباشرة لهذا الواقع، الذي يتقاطع فيه الوطني والجهوي، بروز مواقع إلكترونية محلية وترابية على شاكلة منابر “إعلامية” شجعت على سلوكات جديدة وإعادة تسييس الشباب، وبروز جيل متصل عبر تنشئة تفاعلية، ساهمت في تفاقم بؤر التوتر وانتشار قيم العدوانية بين شرائح هذا الجيل، من قبيل التراشق الهوياتي والإثني والإيديولوجي و”النوعي”… ما يمكن تفسيره بأن معظم الشباب الرقميين المتدخلين في هذه الحقول لا يثقون في المبادرات السياسية التي ترمي إلى تقصير المسافات بين الهويات والثقافات وترسيخ دولة التنوع. مما نتج عنه تناسل أشكال الانهزامية الهوياتية وثقافة الكراهية عبر هوامش رمادية تؤطرها تجمعات افتراضية (جنسية أو عقدية أو مجتمعية…) تنهج تنشئة متوحشة ترمي إلى خلق احتباس مجتمعي، أساسه التشجيع على العنف المادي والرمزي، تجاه بعض شرائح المجتمع (المرأة – الأقليات…) أو بعض مسلمات المشترك المغربي، من قبيل الدعوة إلى إسقاط الهوية المغربية والتخوين والمس برابط التمغربيت.

في المقابل، يمكن الإقرار بأن من القيم الجديدة التي أتاحتها الهجرة الجماعية للشباب إلى العالم الرقمي يمكن سرد، لا للحصر، قيم الفردانية الجماعية التي من نتائجها تماهي الفرد مع الجماعة، وتماهي الجماعة مع الفرد وخروجه من الانعزالية عبر فعل رقمي جماعي منظم («مقاطعون» – «مستمرون» – «كلنا إكرام»…)، حيث يعبر عن الفردانية بصيغة الجمع، وعن الجماعية بصيغة الفرد. كما انتشرت، أيضا، قيم «التضامن المتحرك» بحسب الوقائع والأحداث الراهنة والمتواترة في شكل ملصقات وصور وشعارات متضامنة، مع حدث أو شخص أو شعور ما. وبرزت، كذلك، قيمة «الرقابة المواطنة»، حيث يصبح الشاب والشابة في تربص مستمر للوقائع والحقائق التي تمس الحياة العامة للمغاربة عبر ثقافة المجاهرة والفضح، من خلال فعل النشر والمشاركة لكشف وعرض بعض تمظهرات الواقع المعيش. كما طفت على السطح بالموازاة، «القيم المادية» (الصحة والشغل والتعليم والسكن)، وتراجعت «القيم غير المادية»، من قبيل الحريات الفردية وحرية المعتقد والحقوق اللغوية والثقافية وإلغاء عقوبة الإعدام…. وللإلمام بهذه المصفوفة القيمية يمكن الاستعانة بمفهوم الفاعلية (Agency ) ، الذي يصف ويفسر قدرة الفرد في الفعل والاختيار، متجنبا ومتحديا العوامل والبنيات المؤثرة (الطبقة الاجتماعية – الدين- النوع – الإثنية – الرابط الاجتماعي- الحزب السياسي…)، التي يمكن أن تحدد وتقنن قراراته وقيمه.

كما تجدر الإشارة إلى أن هذه الهجرة الجماعية للشباب إلى العالم الرقمي، خلقت فرصا جديدة لتعزيز قيم المواطنة والحرية والديمقراطية، لا سيما أن الفضاء الرقمي أضحى فضاء للممارسة السياسية من خلال النشاط السياسي الرقمي، وقناة موازية للوساطة الكلاسيكية، نظرا إلى تراجع دور المجتمع المدني والأحزاب السياسية وتحييد أثر الشعور بالمواطنة الواقعية وبزوغ نجم المواطنة الرقمية. هذه الوضعية الجديدة تأسست على نمط مغاير من الفعل المواطناتي ألا وهو «الاحتجاج الرقمي»، في مقابل عدم جدوى وتأثير الاحتجاج الواقعي. مما نتج عنه تراجع الانخراط في البنيات المنظمة (الأحزاب والجمعيات والنقابات…) وتعويضها بمواقع جديدة للترافع على القيم والمطالب الاجتماعية (ملاعب كرة القدم والمنتديات الرقمية والمجموعات الافتراضية…) تتم التعبئة لها ومركزتها من خلال ممارسة ورباط رقمي يرتكز على ثقافة مضادة، مؤسسة على خطاب الممانعة والمظلومية.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.