الكحلي تكتب: في الحاجة إلى سياسة نقدية مرنة في مغرب ما بعد كورونا

لبنى الكحلي

يعيش العالم على وقع أزمة حادة بسبب انتشار جائحة كورونا، مما يضع الدول امام مسؤولية إنقاذ الاقتصاد من الانهيار والمقاولات من الإفلاس والمجتمع من الفقر والهشاشة، لذلك هناك اليوم حديث كثير وطلب كبير لحث الدول على توفير السيولة اللازمة للحد من الآثار الاقتصادية والمالية والاجتماعية للأزمة لإعادة تحريك الدورة الاقتصادية خاصة في ظل تراجع نسب النمو وارتفاع نسب العجز الميزانياتي والركود الاقتصادي العالمي.
يسجل الاقتصاد الوطني نتيجة الاثار السلبية للجائحة أقوى تراجع للنمو الاقتصادي منذ 1996  وذلك بنسبة 5,2% إضافة إلى تراجع المداخيل بنسبة 17,8% وخسارة 0 ,1 نقطة من الناتج الداخلي الإجمالي عن كل يوم من الحجر الصحي ما يعادل مليار درهم عن كل يوم، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع معدل عجز الميزانية ليصل إلى نسبة 7,5 %  وهذا يطرح إشكال التمويل.
نظريا هناك ثلاث حلول لمعالجة إشكالية التمويل في الاقتصاد :   •    الرفع من الضرائب: وذلك من خلال إقرار إجراءات ضريبية تعزز من حجم الموارد، يمكن  لهذا الحل أن يساهم في معالجة إشكالية السيولة، لكن في ظل الأزمة الحالية صعب أن نتحدث عن إجراءات وتدابير ضريبية استعجالية أو إصلاح ضريبي شامل ينزل مجمل توصيات المناظرة الوطنية الأخيرة حول الجبايات ويفي بالغرض بشكل مستعجل.

    •    المديونية: تشكل المديونية أحد الحلول التي يمكن من خلالها الرفع من التمويل، لكن المستوى الحالي للمديونية بالمغرب لا يسمح بهامش مريح للرفع منها إلى مستويات أعلى خاصة وأن الدستور من خلال الفصل 77 والقانون التنظيمي للمالية يحدد في المادة 20 سقف حصيلة الاقتراضات ومجالات صرفها.   •    أيضا هناك حل اعتماد سياسة نقدية مرنة غير اعتيادية تمكن من ضخ أصول في الاقتصاد وتمويل الخزينة عبر شراء سندات من طرف البنك المركزي بشكل يضمن من ان يكون بنك المغرب فاعل حقيقي في عملية التمويل.
اليوم وفي سياق جائحة كورونا عرفت النظرية النقدية الحديثة اهتمامًا غير مسبوق، فأغلبية واسعة إن لم نقل إجماع كل الفاعلين والمحللين الماليين والاقتصاديين أقروا بضرورة تجديد آليات ووسائل السياسة النقدية بشكل تجيب على الاثار الاقتصادية والمالية التي خلفتها الجائحة، كما أن صانعي القرار العمومي اتبعوا تدابير استثنائية في السياسة النقدية لمكافحة الجائحة.حيث أن الدول المتقدمة التي كانت تقدم دروس عديدة في مجال استقلالية البنوك المركزية وصارمة في اعتماد وسائل تقليدية سارعت من أجل تجاوز الأزمة بتبني سياسات نقدية مرنة وبضخ أموال مهمة في اقتصاداتها: فرنسا: 500 مليار أورو، ألمانيا: 750 مليار أورو، أمريكا 2000 مليار دولار، الاتحاد الأوروبي أزيد من 1000 مليار أورو خاصة وأن الأزمة استثنائية فقد تطلبت تدخلات استثنائية غير مسبوقة.
استبشرنا خيرا بعضوية بنك المغرب بلجنة اليقظة الاقتصادية التي شكلها السيد رئيس الحكومة مع بداية الإعلان عن انتشار فيروس كوفيد 19 ببلادنا، وباتخاذه مجموعة من التدابير لدعم الأسر والمقاولات والاقتصاد في مجملها تمثلت في:   •    إرساء آلية “ضمان أوكسجين” التي تغطي 95% من التمويلات الممنوحة للمقاولات في وضعية صعبة لتمكينها من مواصلة نشاطها خلال فترة الأزمة.   •    إطلاق منتج “إقلاع المقاولات الصغيرة جدا” الذي يضمن 95% من مبلغ القروض الموجهة لإنعاش نشاط للمقاولات الصغيرة جدا، والمتاجر، والحرفيين، التي تحقق رقم معاملات لا يتجاوز 10 ملايين درهم.   •    إطلاق آلية “ضمان إقلاع” التي تضمن ما بين 80% و90%  من القروض الممنوحة لإحياء إقلاع المقاولات التي تحقق رقم معاملات يفوق 10 ملايين درهم.   •    تأجيل استحقاق قروض الأفراد والمقاولات المتضررة من كورونا،   •    خفض سعر الفائدة (من 2,25% إلى 2 %، ثم من 2% إلى 1,5 % ) لتمكين الأسر والمقاولات من تمويل نفسها بأحسن الشروط.   •    تعزيز برنامج إعادة التمويل الخاص لبنك المغرب لفائدة المقاولات الصغيرة جدا والصغرى والمتوسطة، والذي يغطي الآن قروض التشغيل و قروض الاستثمار
إضافة إلى سحب مبلغ ثلاثة ملايير دولار من خط الوقاية والسيولة لدى صندوق النقد الدولي، والتي تم وضعها لدى بنك المغرب من أجل تعزيز احتياطات المملكة من العملة الصعبة.كلها إجراءات مهمة لا يمكن إلا تثمينها، لكنها تظل غير كافية لاستئناف النشاط الاقتصادي في ظل أزمة حادة تشبه في بعض تجلياتها أزمة 1929.بلاغ اجتماع مجلس بنك المغرب الصادر بتاريخ 16 يونيو 2020، أكد من خلاله السيد والي بنك المغرب على السهر على انتقال قرارات البنك إلى الاقتصاد الحقيقي، كما أكد خلال الندوة الصحفية عقب الاجتماع أنه لا يمكن اعتماد سياسة نقدية مرنة بالمغرب على اعتبار أنها ستعيد أزمة سنوات التقويم الهيكلي التي تطلبت ربع قرن لتجاوزها، وسيكون لها أثر سلبي على القدرة الشرائية والتضخم واحتياطي العملة.
صحيح أن التضخم هو لقاء بين العرض والطلب وفي حالة عدم التوازن بين كمية النقود والبضائع ترتفع الأسعار وبالتالي ينتج عنها التضخم، صحيح أن التضخم تنتج عنه آثار سلبية على الاقتصاد لكن النظريات الاقتصادية، خاصة نظرية Keynes تؤكد على أن الاقتصاد يمكن أن يخرج من الركود بزيادة الإنفاق و عبر سياسة نقدية توسعية تمكن من تجنب الاثار السلبية للتضخم من خلال أمرين مهمين:   •    يجب أن توظف السيولة من أجل الرفع من الطلب الداخلي وتحفيز الاستثمار المنتج ذو القيمة المضافة العالية ومن أجل خلق مناصب الشغل ودعم المقاولة وهذا سيؤثر إيجابيا على الاقتصاد ويعيد التوازن بين كمية النقود وكمية السلع؛   •    يجب أن توجه السيولة الإضافية إلى الإنتاج الوطني المحلي و من خلال تقنين الاستيراد للحفاظ على رصيد العملة الصعبة وأن لا توجه إلى التصدير وشراء البضائع من الخارج والصرف في الكماليات وهذا سيساهم في الرفع من الرواج الاقتصادي الوطني والرفع من مستوى النمو.
بالتالي إذا احترمت هذه الشروط لا يمكن الدفع بمعاناة المغرب خلال سنوات التقويم الهيكلي، واليوم يجب الحسم في خيار واضح هل نخاف من التضخم بالتالي لا يمكن المغامرة بتحديث السياسة النقدية ويجب ان تظل وفية للنظريات التقليدية أم يجب انخراط كل المؤسسات من أجل إنقاذ الاقتصاد الوطني.
وهنا لابد من الإجابة على سؤال جوهري ما هي مساهمة السياسة النقدية المعتمدة ببلادنا بعد مرحلة التقويم الهيكلي في تحقيق النمو الاقتصادي وتقليص البطالة وتحسين مستوى احتياطي العملة الصعبة والقضاء على عجز ميزان الأداءات وتطوير الاقتصاد ؟
اليوم في مغرب 2011، لا يمكن الاكتفاء بتتبع الإجراءات التي تقوم بها الحكومة وتشخيص الوضعية الاقتصادية والمالية عبر تقارير وطنية، مطلوب اليوم ان تقدم السياسة النقدية  إجابات كافية وشافية  وبشكل يتماشى بصورة جيدة مع السياسات التي تنتهجها الحكومة من أجل توفير السيولة اللازمة لتمويل الأنشطة الاقتصادية.ولعل المدخل الحقيقي لذلك يتجلى في إعادة النظر السياسة التي يعتمدها بنك المغرب بحيث لا يمكن الارتهان إلى السعر المرجعي Taux directeur  والاحتياطي الاجباري Reserve obligatoire ونسبة تضخم لا تتجاوز 0,9% فهذه سياسة انكماشية تبطئ النمو الاقتصادي ولا تساعد على الإقلاع .
اعتقد أن في ظل الازمات الاقتصادية والمالية التي تعرف تراجع السيولة وارتفاع في عجز الميزانية وانكماش الاقتصاد، صعب الحديث عن إنعاش اقتصادي دون تبني سياسة نقدية حديثة كآلية مؤقتة معتمدة من طرف البنك المركزي في فترة الازمة؛ تتمثل في ضخ أموال بشكل مباشر في الاقتصاد من خلال شراء سندات الدين الحكومي وسندات الشركات من أجل زيادة العرض النقدي وتخفيف الأعباء المالية على الشركات والمقاولات وتمكين الحكومة من الانفاق في القطاعات الاقتصادية وتحفيز الاقتصاد والنمو من أجل خلق مناصب الشغل وتقليص نسب البطالة.وبالتالي دفع عجلة الاقتصاد الحقيقي، وبعد الخروج من فترة الازمة وضمنان توازن المؤشرات المالية والاقتصادية يقوم البنك المركزي ببيع تلك السندات التي تم شراؤها لعودة تحسن اقتصادي والدورة الاقتصادية للانتعاش، لذا مطلوب من البنك المركزي إعادة النظر في آليات ووسائل السياسة النقدية المعتمدة في فترة الأزمة والتوجه بشكل سريع للمساهمة في الاقتصاد الحقيقي لتجاوز الاثار السلبية التي خلفتها أزمة كوفيد 19 على بلادنا.

 

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.