الحماية الاجتماعية في المغرب.. مكاسب وانتظارات

ينبغي أن نسجل بكل اعتزاز ما قطعته بلادنا من أشواط مهمة في مجال الحماية الاجتماعية  خاصة خلال الولايتين الحكوميتين التي تولى فيها حزب العدالة والتنمية تدبير الشأن العام دون أن ننكر العمل التأسيسي الذي تم خلال ولاية الحكومات الثلاث السابقة أي حكومات عبد الرحمن اليوسفي وحكومة إدريس جطو وحكومة عباس الفاسي.

وهو ما تشهد عليه عدة مؤشرات وأرقام، بدءا من مشروع  التغطية الصحية الإجبارية، حيث همت المرحلة الأولى من هذا المشروع  أجراء القطاع الخاص والموظفين في القطاع العام، مما مكن من تغطية حوالي 34 في المائة من الساكنة، ومرورا بإرساء نظام المساعدة الطبية الذي بدأ تعميمه بعد تجربة أولية بجهة تادلة أزيلال سنة 2008 ليشرع في تعميمه على مجموع التراب الوطني ابتداء من يوم الثلاثاء 13 مارس 2012 وليشمل إلى غاية أكتوبر 2018: أزيد من 12 مليون مستفيد وأزيد من خمسة ملايين أسرة، من بينها 91 في المائة في وضعية فقر و9 في وضعية هشاشة و53 في المائة نساء.

لكن مسار بناء حماية اجتماعية شاملة عرف وتيرة متسارعة خلال الولايتين الحكومتين السابقة والحالية بتعليمات ملكية سامية، بإطلاق عدد من البرامج الأخرى من قبيل صندوق التكافل العائلي الذي أعلن جلالة الملك عن إحداثه منذ سنة 2003 ، لكن المشروع  لن يشهد النور إلا في عهد الحكومة السابقة سنة 2012 ، وليتم توسيع نطاق الاستفادة منه بناء على تعليمات ملكية سنة 2018 ليشمل الزوجة المعوزة، والأم المهملة، والأولاد المستحقين للنفقة خلال قيام العلاقة الزوجية وكذا بعد انحلال الميثاق الزوجي، وتعزيز ولوج الأطفال إلى العدالة لتمكينهم من حقوقهم من خلال السماح للأولاد القاصرين، الذين لا يتوفرون على نائب شرعي بتقديم طلب الاستفادة من التسبيقات المالية من الصندوق بعد إذن من رئيس الحكومة.

 تمكنت أول حكومة يقودها حزب العدالة والتنمية أيضا منذ سنتها الأولى أي سنة 2012. من إحداث صندوق التماسك الاجتماعي لفائدة الفئات المعوزة والهشة،  بعد ما ظل حبيس الرفوف في الحكومة السابقة.  وهو الصندوق الذي يمول  إضافة إلى برنامج نظام المساعدة الطبية “راميد”، برنامج “تيسير” لدعم التمدرس، والمبادرة الملكية “مليون محفظة”، ودعم الأشخاص في وضعية إعاقة، والدعم المباشر للأرامل في وضعية هشة.

وقد عملت نفس الحكومة على الزيادة في الاعتمادات المالية المرصود لبرنامج “تيسير”، وتوسيعه ليشمل السلك الثانوي الإعدادي، من أجل المساهمة  في تحقيق هدف إجبارية التمدرس إلى غاية سن 15 سنة وتقليص نسبة الهدر المدرسي.

وفي يناير 2016، تم فتح ورش آخر من أوراش التغطية  الاجتماعية ويهم التغطية الصحية للطلبة، وبلغ عدد المستفيدين 180 ألف مستفيد بميزانية تناهز 110 ملايين درهم.

ومن أجل تعميم التغطية الصحية والاجتماعية صادق البرلمان المغربي بهذا الخصوص على القانون رقم 98.15 المتعلق بنظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض والقانون رقم 99.15 بإحداث نظام للمعاشات الخاصين بفئات المهنيين والعمال المستقلين والأشخاص غير الأجراء الذين يزاولون نشاطا خاصا،.، ودخل القانونان حيز التنفيذ بعد صدورهما بالجريدة الرسمية، وإصدار عدد من المراسيم التطبيقية المرتبطة به خلال النسخة الأولى من حكومة الدكتور سعد الدين العثماني ، وينتظر شروع الفئات الأولى ( العدول وبعض المهن الطبية ) في الاستفادة من خدمات النظام ، كما ينتظر أن يشرع في تفعيله بالنسبة لفئات أخرى قريبا .

ويوم 25 أبريل 2019 تمكن الشركاء الاجتماعيون في ظل حكومة الدكتور سعد الدين العثماني من توقيع اتفاق اجتماعي يدخل سجل الاتفاقات الاجتماعية التاريخية التي عرفها المغرب الحديث، اتفاق مكن من تحسين الأوضاع المادية للموظفين وأجراء القطاع سواء من خلال الزيادة في الأجور أو من خلال الرفع من قيمة التعويضات العائلية، كما مكن من حل عدد من الملفات القطاعية العالقة.

جائحة كورونا عرفت إنجازات استثنائية على مستوى الحماية الاجتماعية من خلال دعم استثنائي شمل أجراء القطاع الخاص الذين توقفوا عن العمل بسبب تدابير الحجر الصحي والمشتغلين بالقطاع غير المهيكل والأسر الخاضعة لنظام (الراميد) وهو ما مكن من جهة من الحفاظ على حد معقول من التماسك الاجتماعي ومن القدرة الشرائية للمواطنين.

لكن رغم كل هذا المجهود، فإن بناء منظومة شاملة للحماية الاجتماعية يظل ورشا مفتوحا ومدخلا من مداخل النموذج التنموي المأمول في اتجاه بناء عدالة اجتماعية حقيقية.

لقد سبق لجلالة الملك أن وضع اليد على أحد مكامن الضعف في منظومة الحماية الاجتماعية ويتعلق الأمر بتعدد برامج الدعم والحماية الاجتماعية التي ترصد لها عشرات المليارات من الدراهم، مشتتة بين العديد من القطاعات الوزارية، والمتدخلين العموميين.

ويعتبر القانون رقم 72.18 المتعلق بمنظومة استهداف المستفيدين من برامج الدعم الاجتماعي وبإحداث الوكالة الوطنية للسجلات أحد الأجوبة الفعالة نحو بناء منظومة حماية شاملة. ويهدف البرنامج إلى وضع منظومة وطنية لتسجيل الأسر والأفراد الراغبين في الاستفادة من برامج الدعم الاجتماعي، التي تشرف عليها الإدارات العمومية والجماعات الترابية والهيئات العمومية، من خلال إحداث سجل اجتماعي موحد وسجل وطني للسكان، بهدف تحديد الفئات المستهدفة، من أجل تمكينها من الاستفادة من البرامج المذكورة، وكذا إحداث وكالة وطنية لتدبير السجلات المتعلقة بهذه المنظومة من المشاريع الاجتماعية المهيكلة للحقل الاجتماعي.

غير أن بناء تلك المنظومة يتطلب أيضا فتح ورش الإصلاح الشامل لأنظمة الحماية الاجتماعية عبر إصلاح المنظومة المؤسساتية التي تسير أنظمة التقاعد والتغطية الصحية بالنظر إلى التهديدات التي تواجه ديمومتها، في اتجاه بناء نظام واحد عبر مرحلة وسطى يتم تجميع فيها تلك المؤسسات في قطب واحد عبر مرحلة انتقالية تجمع النظام في قطبين الأول عام والثاني خاص .

لكنه  يمر حتما عبر تعزيز حس المواطنة والمسؤولية الاجتماعية لدى المقاولات من خلال التصريح الشامل والكامل بالمأجورين، ولدى الشركاء الاجتماعيين الآخرين من خلال تحفيز الأجراء على الرفع من المردودية ورفع مستوى تكوينهم، ومن خلال إصلاح مدونة الشغل لتتلاءم مع التحولات التي يعرفها سوق الشغل ومع الأنماط الجديدة للعمل التي تفرضها التطورات التكنولوجية، وتجاوز بعض الحجج المتهاوية التي يرفعها البعض بالقول: نطبق المدونة أولا ثم نفكر في تعديلها، والواقع أن عددا من المقتضيات فيها إما أنها غير قابلة للتطبيق لعدم تلاؤمها مع الواقع المغربي، أو أنها أصبحت متقادمة بسبب التحولات الكبرى التي يعرفها سوق الشغل .

وهو ما يتطلب مراجعة جذرية في الثقافة الاجتماعية ومسلماتها التقليدية الموسومة ببقايا فكرة الصراع والمواجهة نحو ثقافة مبنية على شراكة عادلة بين نقابة مواطنة ومقاولة مواطنة.

 إنها أركان الميثاق الاجتماعي المنشود الذي يتعين أن يتم التوافق حوله عاجلا لمواجهة استحقاقات ما بعد كورونا في إطار النموذج التنموي الجديد الذي ننشده.

افتتاحية العدد 16 من مجلة العدالة والتنمية الصادرة يوم السبت 18 يوليوز 2020

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.