الطويل يكتب: تفاعلا مع بعض التعليقات على أحداث سوق المواشي بمدينة الدار البيضاء

محمد الطويل

تمر بلادنا في آونتها الأخيرة، كما معظم دول العالم، من مرحلة حرجة بسبب ظروف جائحة الفيروس التاجي وما خلّفه من تداعيات صحية وأزمات اجتماعية وضوائق اقتصادية. وبلا شك أن جزء من الارتباك الحاصل، عالميا ووطنيا، مرتبط في العجز عن معرفة الطبيعة الجينية لهذا الفيروس وإدراك تحولات سلوكه الوبائي. والظاهر أن حالة الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي ستسمر لشهور، لا قدّر الله، ما قصُر المجتمع العلمي عن إيجاد لقاح كفيل بحماية صحة الإنسان من خطر الإصابة بالعدوى.
وبلا شك، فإن أغلب الدول لا زالت لم تمتلك رؤية واضحة ودقيقة وفق أطر منطقية محينة زمنيا ومترجمة إلى مؤشرات عملية وإجرائية دقيقة، إذ ستبقى سياساتها وبرامجها إلى حدود المدى المنظور، ربما لشهور من الزمن، مرتبط بتطورات وتحولات الحالة الوبائية.. دوليا ووطنيا.
والمغرب ليس بدعاً من البلدان، فهو يحاول رصد معطيات الواقع الوبائي والتعاطي مع مستجداته باليقظة والاستعجالية والحرص اللازم. ومع ما قد يعتري كل هذه المجهودات المبذولة من إشكالات وأخطاء، إلا أن تفاعل بلادنا، دولة ومجتمعا، يبقى تفاعلا محمودا يشهد عليه الحجم الهائل للتدابير الاحترازية والإجراءات المواكبة، والتي جاوزت الثلاثمائة إجراء. ابتداء من حظر التجمعات البشرية الكبيرة، مرروا بإعلان حالة الطوارئ الصحية التي سبق فيها المغرب منظمة الصحة العالمية والعديد من دول العالم بأيام، وانتهاء بإحداث آليات صندوق كوفيد 19 الذي استصدر مجموعة من القرارات للدعم الاقتصادي والاجتماعي.
وبالتأكيد أنه ما كان لكل هذه التدابير والإجراءات أن تؤتي أُكلها لولا المنسوب العالي، وغير المتوقع، لانضباط مجموع المواطنات والمواطنين والتزامهم بالعديد من القرارات التي كان بعضها صعبا بكل تأكيد، لا سيما قرار الحجر الصحي وإلزام الناس بالمكوث في البيوت، حيث توقف حركة الاقتصاد وامتنع العديد من المواطنين والمواطنات، تلقائيا، عن الالتحاق بموارد عيشهم وأماكن أرزاقهم، حفاظا على الصحة العامة، وتقديما لمصلحة المجموع على المصلحة الخاصة.
لقد استطاع المغاربة أن يرسموا صورة متميزة لمغرب قوامه التضامن والتآزر والتعاون زمن الجوائح والكوارث والأزمات. وهي الصورة التي كانت موضوع ثناء من لدن العديد من المنظمات الدولية ووسائل الإعلام الوطنية والدولية. وسيكون من الخطأ الاعتقاد بأن التجربة المغربية في مواجهة الوباء هي محض الصدفة أو لحظة استثنائية، وإنما هي تعبير عن حقيقة الاجتماع المغربي الضاربة جذوره في بطون التاريخ العميق. فالمغاربة لقرون من الزمن استطاعوا أن يصوغوا تقاليد عيش ويشيدوا حضارة عريقة راكمت من الخبرات والقيم والأخلاق ما يمكنها من تجاوز المحن والآفات والتغلب على الأزمات والتحديات، كانت كوارثا طبيعية أو تحديات أجنبية خارجية أو اختلالات ذاتية داخلية.
غير أن هذا لا يمنع من أن تبرز، بين الفينة والأخرى، بعض الممارسات والسلوكيات السلبية، والتي تبقى غريبة عن طبيعة الإنسان المغربي الميال إلى المسالمة والهدوء والبعيدة كل البعد عن العنف والإجرام.
في الحقيقة مناسبة هذا الحديث في ربطه بين موضوعي الوباء وسلوك المغاربة هو التفاعل الذي أبداه بعض الصحفيين والمثقفين إزاء بعض الوقائع التي من شأنها أن تشوّش على عادات وأخلاق الإنسان المغربي، والتي كان آخرها حادثة الهجوم على باعة الأكباش بإحدى أسواق الأغنام بمدينة الدار البيضاء يوم الخميس الماضي، التي شهد فيها الرأي العام حالة من الفوضى التي عمّت السوق والتي تخلّلتها سرقات لرؤوس أغنام في واضحة النهار، بعد أن قام البعض برمي الباعة والمشترين بالحجارة، مما خلق حالة من الهلع والفزع بين عموم المواطنين.
وإن كان المرء لا يتردد في استنكار هذا الفعل المستقبح والجرم المشهود واضحة النهار، إلا أنه يستغرب تصدّي بعض الصحفيين والكتاب للتعليق على مثل هذه الحوادث، سواء في صيغة تدوينات في وسائل التواصل الاجتماعي أو في صيغة مقالات منشورة، حيث أصبغوا على مثل هذه الحوادث الطارئة والمعزولة صبغة العموم والإطلاقية، في تسرّع مجافٍ للممارسة العلمية الرزينة والهادئة والمتحفّظة على إضفاء صبغة الظاهرة على بعض السلوكيات والممارسات، والتي لم تحز بعض شروط ومواصفات الظاهرة كما استقر عليها المفهوم العلمي للكلمة.
بل الأدهى والأمر أن تجد بعضهم، دون وعي بمقاربته الانتقائية، يجازف في اعتماد هذه الممارسات والسلوكيات التي لا يكاد يخلو منها مجتمع أو شعب، ليرمي المغاربة بأشنع الأوصاف وأقدح الأخلاق، ومتهما مؤسسات البلاد بإفراغ المجتمع قيميا والسهر على خلق مجتمع من الضباع لا يعي له منطقا سوى التناطح والتطاحن..
وبالرغم من أن تزيّي بعض هذا الكلام بلبوس الطرح العلمي الموظف لبعض صنوف القول البحثي ومفاهيمه، إلا أنه يبقى في عمومه كلاما مرسلا غير قائم على دليل أو على تتبع بحثي معتبر، ترصّد من خلاله أصحابه هذه الممارسات وتوقفوا عند متغيراتها والفاعلين فيها. ومن ثمة جاز لهم أن يضفوا عليها مسمى الظاهرة، ويبنوا على خلاصات دراستهم. أما أن تُنتقى حادثة أو حادثتين لاستصدار أحكام عامة وشاملة، فيبقى عملا مجانبا للصواب ومجافيا لحقيقة العمل العلمي الرزين المسؤول، ومطية لإطلاق الكلام على عواهنه. وهو ما لا يساهم في بناء وعي نقدي رزين، ويعمد إلى خلق رأي عام مستاء وسلبي. ذلك أن النقد، قبل كل شيء، هو القراءة الصادقة للأحداث والوقائع والإنصاف العادل في الحكم عليها، من دون تزيّد ولا نقصان، ولعل ذلك هو الفرق بين النقد (بالدال) والنقض (بالضاد).
إن طابع الانتقاء الذي ركبه البعض في التعليق على حادثة سوق المواشي بالدار البيضاء، والاستعجال في استخلاص أحكام تدين المغاربة وتحاكمهم أخلاقيا، يقتضي التوقف عنده مليا بإبداء الاستدراكات العلمية اللازمة عليه. ويكفي في هذا المجال التذكير بما هو مستودع في تراث وخبرة الأمة في تقييم الأحداث وتقدير الأشخاص والحكم عليهم من قواعد ذهبية تسهم في بناء أجواء ثقافة سليمة ومنصفة، تقدّر الإيجابي وتثمنه وتقف عند البياضات والسلبيات وتعالجها. وأسلافنا ابتدعوا علوما كاملة في هذا الاتجاه، ولعل من بين أهمها علم الحديث بما هو علم الحكم على الرجال. كما وضعوا العديد  من القواعد التي تصون الإنسان من الوقوع في الخطأ في تشخيص الظواهر أو التجني في الحكم على الأشخاص، ويكفي التذكير بمثل هذه القواعد الذهبية من قبيل قاعدة: “إن كنت ناقلا فالصحة وإن كنت مدعيا فالدليل” أو ” أن الحكم على الناس يكون بالواضح الظاهر.. لا بالمضنون المحتمل أو بالمخبوء الضامر” أو ” أنه لا يحل الحكم على الناس بالمآل”. ويكفينا في ذلك القاعدة السنية التي أوضح فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه: “كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكل ما سمع”.
وبالعودة إلى بعض هذه الانفعالات مع واقعة سوق المواشي بالبيضاء، فيمكن إبداء أحد أهم أربعة مثالب اعتورت تشخيصاتها والأحكام المستخلصة منها، وهي:   •    خطأ بناء الأحكام بالاقتصار على الانطباع والتأويل: طبعا خلّفت حادثة سرقة المواشي أثرا سلبيا لدى عموم المواطنين بالنظر إلى حالة الفوضى وما اعتراها من ممارسات جرمية، وولدت عندهم انطباعات سلبية بالنظر إلى طبيعة الفعل ومناسبته التي هي مناسبة عيد. غير أنه من الصعب تضخيم هذا الانطباع بالتأويل للخلوص إلى نتائج تفيد بأن المغاربة قاطبة يشهدون أزمة قيم خانقة؛   •    خطأ تعميم الأحكام من دون استقراء ولا تأصيل: وهو خطأ تابع لسابقه ومؤسس عليه، إذ كيف يجزؤ المرء أن يبني حكمه على الواقعة والواقعتين أو الحدث  والحدثين، وأمامه مئات الأسواق التي أُقيمت ومرت فيها ظروف البيع والشراء في أجواء يعمها النظام والانضباط، لا سيما مع التدابير التي تم اتخاذها لتنظيم ولوج الباعة والمشترين للسوق وتنظيم عملية اقتناء الأضاحي بما يجنب المواطنين خطر الإصابة بالعدوى. ويكفي أنه لم يتحدث أحدهم على بؤر عدوى بالأسواق التي أٌقيمت لبيع الأكباش.
ولعل أحد أسباب هذا التعميم، ما توفره وسائل التواصل الحديثة من إمكانية لتداول المعلومات والمعطيات والأخبار في صورتيها المكتوبة أو المصوّرة، مع حرص البعض على أن يقدّمها بشكل مثيرا لجذب العدد الأكبر من المتابعات. وهو ما يقتضي العمل على تأطير المواطنين، ولا سيما الشباب، من ثقافة قوامها التثبت من الأخبار واستقصاء المعطيات من مصادرها الموثوقة، وحسن التعامل مع الرائج إلكترونيا؛   •    مغبة ظلم المجموع الغالب بجريرة البعض الضئيل: وبقدر ما يضفي التسرع في بلورة قراءات لواقعة هذا السوق أو ذاك إلى الوقوع في أخطاء منهجية وعلمية، إلا أنه يؤدي إلى تحميل الواحد المسؤولية على ذنب الآخر، أو تحميل المجموع ممارسات البعض. وهو ظلم بيّن وصفه بحكم أنه “لا تزر وازرة وزر أخرى”.
فإن كان المبدأ المعمول به شرعا وقانونا هو مبدأ شخصنة المسؤولية وتفريدها إزاء الأفراد بعضهم بعضا، فإن ذلك يحتمل وقوعه على المجتمع بأكمله إذ لا يآخذ المجتمع بجرم بعضه فقط. والحال أنه من باب ظلم الأغلبية الغالبة من المغاربة الذين حرصوا على أن تمرّ أجواء الاستعداد للعيد في ظروف طبيعية وعادية، تحميلهم جريرة سلوك بعض الأفراد الذي افتعلوا واقع الفوضى في سوق واحد من بين أسواق البيضاء العديدة، فما بالك بأسواق المغرب قاطبة؛   •    أنه من الظلم تعظيم السلبي بالتكثير وازدراء الإيجابي بالتقليل: وهو ظلم ينبي على سابقه، إذ أن التركيز على المساوئ والاختلالات والسلبيات وإغفال الحسنات والإنجازات والإيجابيات ظلم واضح جليّ. لا يعني هذا عدم الحديث عن السلبيات، ولكن الحديث عنها في سياق الإيجاب الذي يتغيى التعجيل بمعالجتها لا العمل على تضخيمها والتعظيم من شأنها، فذلك بلا شك يعود على الناس بالإحباط ويمنعهم عن تنسيب رؤيتهم للأمور وتقديرها التقدير العادل المنصف المحفز على مزيد من العمل والجهد.
في الحقيقة، لم يكن الغرض من هذا التفاعل البسيط مع تعاطي بعض الكتاب والصحفيين والمدونين مع واقعة سرقة أكباش العيد التكتم على هذه الواقعة واستنكارها، ولا حتى التحفظ على فتح المجال للحفر وراء العوامل التي تتفاعل فيها وتحليلها وارتياد مآلاتها في المستقبلين القريب والبعيد. وإنما الهدف منه هو التنبيه إلى ضرورة إرساء تقاليد علمية عند التصدي لمثل هذه الأحداث والوقائع وتأطير عموم الرأي العام في التفاعل معها وتسكينها ضمن سياقاتها الصحيحة، بعيدا عن التشويش على الفهم العام والصحيح لها.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.