يتيم يكتب: السياق

محمد يتيم

البعض أصبح يتنذر كلما تم الحديث عن السياق وضرورة اعتباره،  واعتبار ذلك نمطا من أنماط الفكر التبريري للتخلي عن البعد النضالي، بل والتصالح مع الفساد وإيجاد مسوغات لهذا التصالح.

والواقع أن هذا الاعتبار مقوم أساسي في المنهج السليم للتفكير والتدبير في أمور الحياة كلها سواء كانت فردية أو جماعية، هذه المراعاة عين العقل في الفكر الانساني عامة وليس فقط في الفكر الإسلامي، وهي ليست  نمطا من الفكر التبريري للتصالح مع الواقع والتسليم لفساده بل هي مما اهتدى إليه الفكر البشري ومفكرون كبار مثل ابن خلدون، حين تحدث عن مراعاة طبائع العمران في الإصلاح وضرورة استجماع شروطه من قبيل تقرير أن الدعوة الدينية لا تنجح إلا بعصبية أو منعة، مستشهدا بالحديث النبوي الشريف: “ما من نبي بعثه الله إلا وبعثه في منعة من قومه”، ومفكرون معاصرون ممن كانوا منخرطين في النضال السياسي حتى النخاع ولكن ببعد فكري ومعرفي.

  وبالرجوع إلى نظرية التحالفات حتى عند أشد المذاهب جذرية ودعوة إلى الثورة، كما هو الشأن عند لينين أو ماو تسي تونغ، نجد حديثا عما يقابل مفاهيم من قبيل التدرج ومراعاة المآلات وفقه التنزيل، كما نجد عند بعضهم حديثا عن “موازين القوى” و”التناقضات الأساسية” و”التناقضات الثانوية”، كما تم بسطه في كتاب ” أصول الفلسفة الماركسية ..الدرس السابع “لجورج بوليتزر وجي بيس وموريس كافين حين يصرح المؤلفان :

” وهكذا يصبح التناقض بين البرجوازية والبروليتاريا، في البلاد المستعمرة، ثانويا لفترة معينة، بالرغم من خطورته إذ ينحل بانتصار الاشتراكية في هذه البلاد. فيصبح التناقض بين الاستعمار المستعمِر وبين الأمة المستعمَرة (كطبقة العمال، والفلاحين والبرجوازية القومية التي تتحدد في جبهة قومية للنضال من أجل التحرر) رئيسيا.

ولا يقضي هذا على ألوان النضال بين الطبقات داخل البلاد المستعمِرة. (لا سيما وأن فريقا من البرجوازية في البلاد المستعمرة حليفا للاستعمار المستعمر). غير أن التناقض الذي يجب حله أولا هو التناقض الذي يثيره الاستعمار ويحله النضال القومي من أجل الاستقلال.”

فمن مظاهر قوة النظرية الماركسية اللينينية والماركسية الماوية هي تكييفها لمفاهيم المادية الجدلية، واستخدامها لنظرية التحليل الملموس للواقع الملموس وذلك لأن روادها لم يكونوا فلاسفة منظرين بل كانوا إضافة لذلك مناضلين يقودون حركات اجتماعية مما فرض عليهم ملاءمات متواصلة أو ” فقها ” لتنزيل النظرية.

السياق حاكم ليس فقط في العمل والتقدير السياسي بل  إنه  مقوم من مقومات منهج التفكير السليم، وهو منهج سبق إليه علماء الإسلام ومفكروهم وخاصة الأصوليون منهم الذين ميزوا بين تنقيح المناط أي بين تحديد مراد الشارع من العباد في هذا الحكم الشرعي أو ذاك ومقاصده، وبين تحقيق المناط المتعلق بكيفية تطبيق النص في الواقع وتعيين هل النازلة أو هذا الواقع هو محل لتنزيل الحكم أو غير محله، يقول الشاطبى  (ومعناه” أي تحقيق المناط”: أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله) (الموافقات 4/90) ، سواء من حيث مناسبة تطبيق أو تنزيل الحكم عليه أو من حيث مآلات ذلك التنزيل خاصة إذا كان تنزيله في غير محله أو في غير وقته يمكن أن يؤدي إلى عكس مراد الشارع كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم ” لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم “.

وللأسف الشديد فإن الجهل بمعطيات السياق أو التحليل الخاطئ لمعطياته قد كان سببا كما تدل على ذلك التجارب القريبة والبعيدة  في جر تنظيمات ودول إلى كوارث ومآسي، رجعت بالمد الإصلاحي عقودا من الزمن إلى الوراء. علما أن الإصلاح لا يعني دوما جلب مصالح ومكاسب جديدة بل قد يكون مجرد الحفاظ على المكاسب القديمة وتحصينها ودرء وقوع مفاسد أعظم من المفاسد الواقعة من أعظم أنواع الإصلاح وهو مضلة أفهام ومزلة أقدام ومعترك صعب ومرتقى ضنك كما يقول ابن عقيل في توصيف السياسة الشرعية .

العمل الإصلاحي كما أنه يحتاج إلى الحماس والإيمان الذي يحشد الهمة والخطاب الذي يلهم العاطفة يحتاج إلى النظر والفكر . العمل الإصلاحي لا يقوم فقط على الخطباء بل يحتاج أيضا إلى مفكرين كما يقول الدكتور فهد النفيسي.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.