محمد يتيم يكتب: تأملات في التاريخ : دماء على المصحف

محمد يتيم

جاء علينا وقت أصبح فيهما كتابا ” المنطلق ” و ” العوائق” مرجعين في جلساتنا التربوية، وهما كتابان رائعان راقيان مضمونا وأسلوبا  و تركيزا وجمالا ورقيا  في العبارة والإشارة  واستعمالا للاستعارة واستدعاء للآيات القرآنية  والأحاديث النبوية  والأمثال والحكم والمواقف التاريخية. 

ومما لا يزال عالقا في ذهني مقال تحت عنوان:” دماء  على المصحف ،”ويصف فيه الكاتب  حادثة الاغتيال المروعة لسيدنا عثمان عندما اقتحم عليه ” الثوار ” بيته وأجهزوا عليه وهو يقرأ كتاب الله  حتى سالت دماؤه على المصحف !

لقد عيب على سيدنا عثمان أنه كان يجزي في العطايا لبني أمية وهي شبهة رد عليها صاحب العواصم من القواصم ويمكن الرجوع لتفاصيلها  وكان ابن تبمية قد وصفها  قائلا : ” فإن عثمان  قد تأول في الأموال وإن عليا قد تأول في الدماء ” حين سعى الأول من خلال اجتهاد بدا له إلى  تأليف بني أمية وقد صاروا بعد دخول الناس أفواجا في دين الله بعد الفتح هم عصب ” الدولة الإسلامية الناشئة ” وذوو الشوكة فيها أو ” العصبية ” أو ” المنعة ” حسب نظرية ابن خلدون والذي أقر فيها  أن الدولة تقوم من جهة على ” الاستبصار الديني ” ومن جهة ثانية على ” العصبية ” مستشهدا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :” ما من نبي بعثه الله إلا في منعة من قومه “.

وحتى لو صح ذلك فإن جريمة القتل لخليفة قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنفق من ماله ” ما ضر عثمان ما فعل بعد هذا ” وقال فيه صلى الله وسلم لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كاشف عن فخذه فغطى فخده فقال : ألا استحيي من رجل والله إن الملائكة لتستحيي منه “، جريمة أشنع مما عيب عليه من تأول في الأموال والعطايا .

ستتكرر حادثة الاغتيال لخليفة راشد باغتيال علي بن أبي طالب من قبل الخوارج  بعد إن اشتد الخلاف بينه وبين معاوية ومشايعيه ممن حملوا شعار الثأر ، قميص عثمان واتهموا سيدنا علي بالتقصير  في الثأر له وإيواء قتلته!

قتلته فئة ممن خرجوا عليه حين قبل التحكيم في النزاع القائم بينه وبين خصومه من منطلق أنه حكَّم الرجال، والأمر في زعمهم أن الحكم لله !

وهم الخوارج الذي وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية!

قتلوه وهو خارج من المسجد بعد أداء صلاة الفجر وكان عمر بن الخطاب قد اغتيل بمؤامرة مجوسية وهو يصلي صلاة الفجر بالمسلمين، 

لا حاجة لمواصلة التفصيل فيما تناسل من أحداث بعد ذلك ومن تداعيات كان من ننائجها حربان طاحنتان بين المسلمين هما حرب الجمل وحرب صفين، وما أفادته   كتب التاريخ ومنها كتاب “العواصم من القواصم” من أن كل محاولات الصلح كان يتم اجهاضها من قبل بعض المتنطعين الذين وقعوا تحت تأثير بعض المندسين مما سمي عند بعض المفكرين المعاصرين ب” الحركة السبئية”،  وهو ما يمكن الرجوع فيه إلى المصادر التاريخية والدراسات التاريخية الحديثة التي تتبعت مسار تشكل الفكر الإسلامي( سامي النشار رحمه الله كمثال ). 

ولكن نكتفي بهذا القدر من الإشارات كي نمر لاستحضار العبر والخلاصات التاريخية :

اولاها_أن أهل السنة والجماعة اختاروا اختيارا صائبا في إثبات فضل الخلفاء الراشدين والصحابة عموما على الرغم مما بينهم من اختلاف في الطبع وطريقة التدبير والصرامة والمرونة، وقرروا عدم الخوض فيما ما وقع بينهم من خلاف نتيجة ” التأول” المذكور ، رافعين الشعار الذي رفعه خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز الخليفة الفقيه حين سئل فيما وقع بين الصحابة : فأجاب : تلك دماء طهر الله منها يدي فلا أحب أن أخضب بها لساني” ،

ومما ورد في نفس المعنى مما  نقل عنه في قوله   : تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وقول بعضهم : تلك دماء طهر الله منها أيدينا فلا نلوث بها ألسنتنا “

بينما اختارت بعض الفرق الأخرى  أن تعيش على أطلال ذلك الخلاف،  وجعل التفاضل بينهم أو التشيع لبعضهم دون البعض الآخر إلى حد جعل لعنتهم والتبرؤ منهم دينا يتقرب به إلى الله على غرار ما فعل بعض غلاة الشيعة، وممن جعلوا من مقتل الحسين بن على وبكائه في عاشوراء وطقوسها، دينا يتعبدون الله به  وعلى أساسه يواولون ويعادون.

 بينما كان لأخيه الحسن،  أقرب الناس إليه وأولى بمواصلة ” حرب الثأر له” واستدامة الحرب الأهلية، التي اشتعل أوارها بسبب اختلاف في تقدير تدبير أمور السياسة والإمامة،  كان له موقف مغاير حين قرر بطريقة إرادية التخلي عن الخلافة لمعاوية بعد بيعته خلفا للحسين بن علي،  مسجلا بذلك  موقفا تاريخيا يعتبر تحولا كبيرا في تاريخ المسلمين، حيث تفرغوا لنشر الإسلام ولبناء الحضارة الإسلامية بعد أن تم جمع الكلمة،  وهو العام الذي سمي عند علماء المسلمين ب” عام الجماعة “،

 وهو صنيع حسن وفتح كبير  جاء على يد سيدنا الحسن بن علي سبق أن بشر به النبي  صلى الله عليه وسلم حين قال : ” إن ابني هذا سيد وابن سيد ولعل الله يصلح به بين طائفتين من المسلمين “

الرجوع إلى تلك الحقبة التاريخية مفيد جدا في الاعتبار بها وفهم دلالتها وتفسيرها أيضا:

ثانيا – إن الأصل في قضية الخلاف الأول بين المسلمين  هو أصل سياسي ارتبط بقصية تدبير انتقال السلطة من خليفة لآخر ؛ حيث لم تكن قد تراكمت  تجربة طويلة تمكن من بلورة ( فقه دستوري ) بضبط هذا الانتقال فضلا عن بدايات جنينية لتشكل مفهوم الدولة، وهو التشكل الذي لم يبلغ نضجه إلا مع تراكم التجربة الإنسانية وقيام الدولة الحديثة،

‘ثالثا ؛    إن الثقافة التي كانت سائدة هي ثقافة الشوكة والغلبة، بحيث لم يكن من بديل لتقويم الانحراف  المفترص للحاكم واعوجاجه إلا حد السيف ( والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد السيف )

رابعا – بلور علماء المسلمين رغم ذلك عددا من الأجوبة الملائمة لزمانهم في إطار ما يسمى ب” فقه الأحكام السلطانية ” وكيفية اختياره وشروطه وطوروا اجتهادات في كيفية نقل السلطة من قبيل ” ولاية العهد ” ومشروعية التغلب ” وشروط الخروج على الحاكم الجائر،  وكلها كانت مسكونة باستحضار مآلات تلك “الفتنة الكبرى “، وباختصار أسسوا لثقافة في الشرعية والمشروعة السياسية كانت محكومة بسياق زمانهم، 

خامسا-  واليوم ونحن نستعرض تلك التجربة نفعل كي نشير إلى عدة خلاصات:

1/ إن التدبير السياسي هو تدبير اجتهادي تقديري ونسبي بطبيعته، وكل متصد له إنما هو مجتهد في جلب المصالح ودرء المفاسد، وأن العبرة بقدر المصالح التي يتم جلبها وقدر المفاسد التي يتم درؤها وأن درء المفاسد قد يكون مقدما على جلب مصالح جديدة . ذلك أن درء المفسدة هو في ذاته تحقيق لمصلحة أو تثبيت  لمصلحة مكتسبة متحققة. 

2 / إن التدبير السياسي يدخل في منطقة المصالح المرسلة وليس في منطقة العقيدة، ولغتُه ينبغي أن تكون لغةً أبعد عن لغة التكفير سواء بمعناها العقدي أو السياسي( التكفير السياسي مقدمة ومدخل التكفير العقدي المحكوم لمنطق الولاء والبراء )،

3./ إن تدبير العلاقة المعقدة بين تقدير المصالح والمفاسد وترجيح كفة هذه على أخرى، هي عملية يومية تواجه التجمعات البشرية والتنظيمات السياسية على الخصوص، بل إنها تواجه الأفراد في اختياراتهم الحياتية وسلوكياتهم اليومية، ومن الغريب أن البعض إذ يستنكر على تنظيم سياسي يقرر بطريقة جماعية أن يعمل منطق الترجيح المشار إليه ويعتبرها منطقا تبريريا، ولا يرى غضاضة في ذلك حين يتعلق بأمور شخصية 

4/ لقد رأينا ماذا أنتج إعمال منطق الولاء والبراء وخطاب التكفير العقدي والسياسي من شرخ في الأمة وفي فكرها وما أثمرت نتائجه من آثار دموية( مقتل عثمان وعلي وظاهرة الخوارج وظاهر ة  التشيع التي قامت على سب خلفاء راشدين و الصحابة أفاضل وسيدتنا عائشة رضي الله عنها وكربلائيات لا تنتهي )،

قد يكون المسلمون الأوائل معدورين لكونهم كانوا حديثي عهد ب” ثقافة الشوكة والغلبة” التي كانت سائدة في عصرهم، حيث  لم تتطور المفاهيم  الدستورية التعاقدية ومفاهيم الدولة الحديثة  لم تكن موجودة، لكن مع  التراكمات  الحاصلة في الفكر السياسي وفي المفاهيم  والآليات القانونية والمؤسساتية التي بلورها النظام الديمقراطي لتدبير الخلاف  والتداول على السلطة بطريقة سلمية: فإن إعادة  إنتاج نفس  الأخطاء التي وقع فيها المجتمع  الإسلامي الأول غير مبرر، والتاريخ ديوان للعبر فعل من معتبر ؟

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.