“التزوير الديموقراطي” لإرادة الناخبين بأداة “قاسم المسجلين”

عبد العزيز عثماني*

يتندر المغاربة منذ عقود مضت بحكاية طريفة عن مساعد “القايد” حين أراد المسكين أن يتباها أمام سائليه عن مقدار أجرته فأجاب: “أنا والقايد كانشدو مليون”، وهو حاصل الجمع بين أجرته وقدرها 1000 درهم وأجرة “القايد” ومبلغها 9000 درهم.
وفي يوم الناس هذا مد الله في عمرنا حتى رأينا وسمعنا، في سياق مناقشة القوانين الانتخابية، عن “نخبة سياسية” ممثلة لعدد من الأحزاب تطالب بسن نظام انتخابي يمكّن بعضهم من تقاسم موقعهم مع غيرهم حتى وإن كان عدد الأصوات التي حصلوا عليها أقل من حيث التناسب من مبلغ أجرة مساعد القايد مقارنة بأجرة هذا الأخير. فإذا كانت أجرة “قائدنا” تمثل تسعة أضعاف أجرة مساعده، فإن الصورة الكاريكاتورية في حالة ما يطالب به البعض من خلال احتساب القاسم الانتخابي بناء على عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية هي أكثر مدعاة للسخرية والغرابة، حيث يمكن أن يبلغ الفرق بين حزبين حائزين على مقعد واحد لكل منهما في دائرة انتخابية واحدة إلى أكثر من عشرين أو ثلاثين ضعفا.
السؤال الطبيعي الذي تثيره هذه الصورة الغرائبية لناظرها هو: ما الدافع الذي حمل الأحزاب الداعية إلى طلب اعتماد هذا القاسم رغم تناقضه الواضح أولا مع صريح وروح الدستور ومع منطق “الانتخاب” ومنطق “الاختيار الحر” ومنطق “التنافس السياسي” النزيه، أو قل تناقضه مع المنطق والسلام؟  
الجواب الراجح لمن يعرف أغوار الساحة السياسية المغربية أن تلك الأحزاب ومن وراءها عندما ضاقوا درعا بالديمقراطية نفسها ومقتضياتها في الأنظمة الانتخابية لكونها لا تمكنهم من تحسين تموقعهم السياسي، فقد لجؤوا إلى العمل على تزوير الديمقراطية بذاتها ومسخها مسخا مسخا. وحينها سيشاهد الناس كل المظاهر المرتبطة بالاستحقاقات الانتخابية باعتبارها الأداة الديمقراطية الأساسية، من لوائح وناخبين ومرشحين وبرامج وخطابات وحملات وشعارات وملصقات ومكاتب تصويت وصناديق زجاجية وحبر لا ينطمس ولجان وفرز… إلا أننا سنكتشف بشكل جماعي أننا شاركنا جميعا وتابعنا مسرحية من الكوميديا السوداء، لأن القاسم الانتخابي المعتمد الذي يعد بمثابة المكيال في العملية الديمقراطية، قد ساوى بين من حصل على عشرات الآلاف من الأصوات مع من حصل على بضع مآت منها. والترجمة المناسبة لهذا كله أن “إرادة الأمة” التي تحدث عنها الدستور والتي تحتسب في كل الأنظمة الديمقراطية بأغلبية الأصوات قد تم تزويرها وتحريفها بشكل فظيع، ما دام “المكيال” المعتمد في هذه الحالة يساوي بين 1000 صوت و100 ألف صوت.
إن الذين تفتقت عبقريتهم عن هذا “المقترح” الفريد في العالم يمكن أن نلخص مطباتهم في الآفات التالية:
إفراغ قاعدة التنافس السياسي من أي مضمون:
في الأنظمة الديمقراطية تشتغل الأحزاب السياسية وتتنافس وتتدافع في اتجاه تقديم الأفضل لوطنها ولمواطنيها، وبهذا المعنى يمثل التنافس السياسي عنصرا رئيسا في أي ديمقراطية حقيقية. فعن أي تنافس سياسي سنتحدث حين يصبح مرشح في ذيل السباق على حد سواء مع صاحب المركز الأول ولو كان الفارق بينهما بمقياس العدائين الرياضيين يعد بالدقائق وليس بالثواني. وما فائدة القدرات والمؤهلات التي يتوفر عليها الفائز الأول، وأي معنى سيبقى للجهود والتداريب المضنية التي استعد بها للسباق. ولنا أن نتصور كيف سيغدو حال الرياضة والرياضيين لو أنهم قلدوا حماقات بعض السياسيين. فلا حديث عن تنافس ولا عن مهارات ولا عن أرقام قياسية… وهذا بالضبط ما يرمي إليه أصحاب “قاسم المسجلين”. فحينما عجزوا عن مجاراة مكون سياسي ولم يتمكنوا من منافسته في المصداقية والعمل والتأطير والتواصل مع المواطنين فهم يلجؤون الآن إلى محاولة جره إلى القعر لكي لا يبقى “في القنافذ أملس” كما يقول لسان حالهم.

من الانتخاب إلى التقاسم :إذا كانت الآليات الديمقراطية مبنية على مبدأ الانتخاب باعتباره يجسد الإرادة الحرة المعبر عنها من خلال اختيار الناخبين، فإن اعتماد “قاسم المسجلين” سيفضي عمليا إلى استبدال مبدأ الانتخاب بآلية التقسيم. فلن يصبح الحديث كما هو الشأن في سائر بلاد الدنيا عن الحزب أو اللائحة الفائزة، بل عن المرشحين الذين تم تقسيم مقاعد الدائرة عليهم بغض النظر تماما عن حجم الفارق الكبير الذي يمكن أن يكون بين أول الفائزين منهم وآخرهم. وفي هذه الحالة يتم عمليا نسف قاعدة الانتخاب باعتبارها تعبيرا عن إرادة مجسدة في أغلبية من الأصوات ويمثل فيها الفارق العددي عنصرا حاسما في تحديد الفائزين وليس عنصرا ثانويا لا يصلح إلا للترجيح. وحينها لا يمكن الحديث عن “عرس ديمقراطي” بل سيصبح الأمر متعلقا ب”حفل توزيع المقاعد ” على الأحزاب المشاركة بمجرد حيازتها لحد ادنى من الأصوات.  كما أنه سيتم تفريغ مفهوم الاستحقاق (الاستحقاقات الانتخابية) من دلالته العاكسة لحجم وتوجه المصوتين.

تزوير إرادة الناخبين من خلال إقامة المسجل في مقام المصوت:تقول القاعد المنطقية المعروفة “لا ينسب لساكت قول”، والواقع أن اعتماد “قاسم المسجلين” يُنطق الساكت ويحمل غير المشارك أو المقاطع حملا وقسرا إلى مكاتب التصويت ليشكل منه المكيال الحاسم في فرز نتائج الاقتراع. وقد سمي الصوت صوتا كناية عن صوت مسموع يعبر به صاحبه عن اختياره. فأين الاختيار في اعتبار المسجلين في اللوائح الانتخابية بمثابة أصوات محتسبة في ترتيب نتائج الاقتراع وإقامة المُقاطع وكل الذين عاقهم عائق أو تخلّوا كلية عن حقهم وواجبهم في التصويت – إقامتهم- في منزلة المصوت. بل إن عدد المسجلين غير المصوتين قد تفوق نسبتهم في أحيان كثيرة عدد المشاركين الذين أدلوا عمليا بأصواتهم، مع استحضار أن المسجلين في الأصل يتعين أن يكونوا هم كل المغاربة المتوفرين على شروط وحقوق الانتخاب، وبالتالي يكون أثرهم في نتيجة “الاقتراع” أكثر حسما وأثرا في تقسيم المقاعد المتبارى بشأنها. ولو طبقنا نفس “المنطق” المعتمد على المسجلين في عمليات التصويت داخل البرلمان مثلا، فسنجد أن الكثير من القوانين ذات الأثر الكبير في حياة المواطنين قد صوت لها عدد محدود من أعضاء المجلس الحاضرين. ولو تم احتساب حصة الغائبين بشكل من أشكال الحساب فإن القانون المعني لم يصوت عليه أغلب النواب “المسجلين” نظرا لغيابهم وعدم إدلائهم بأصواتهم.

تعطيل المبدأ الدستوري المتعلق بالإرادة الحرة للناخبين:
من آفات “قاسم المسجلين” أنه ينطوي عل إبطال لمفعول وأثر “إرادة التصويت” والمشاركة، لمصلحة مفعول العزوف والإعراض والمقاطعة. ثم بماذا يم التعرف على إرادة الناخبين؟ الجواب الذي تعارف عليه البشر منذ إبداع الديمقراطية هو أنها تُعرف بالتصويت والمشاركة وليس بالتسجيل في اللوائح الانتخابي، والتي تكون في أغلب البلدان بشكل تلقائي يشمل كافة المواطنين البالغين السن القانوني.
دعوة مبطنة إلى مقاطعة الانتخابات: الواقع أن أصحاب “قاسم المسجلين” يوجهون دعوة قوية ومبطنة إلى مقاطعة الانتخابات وذلك بما أن المقاطع أو غير المشارك عموما سيُحصى إسمه ويكون حاسما في توزيع المقاعد، مما يجعل “مقاطعته” أحيانا أكثر مفعولا في قسمة المقاعد على المرشحين من “مشاركة” المصوت الذي تجشم جهد التنقل لمكتب الاقتراع معتقدا أنه “سيختار”، في حين أن هناك يدا خفية قد تصرفت مسبقا في “اختياره” وجعلته محدود الفعالية إن لم يكن صوته فائضا عن حاجة الحزب أو المرشح الذي صوت له !!
قد يقبل أي عاقل أن تدفع حدة التنافس السياسي بعض الأحزاب إلى تبني مقتضيات أو تكتيكات تخدم مصلحتها وتمكنها من حصد أكبر قدر من المكاسب الانتخابية، إلا أن تبني مقترح اعتماد القاسم الانتخابي بناء على عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية، سيمس بسمعة الديمقراطية في بلادنا ككل، وسيعطي مظهرا فضائحيا عن شكل السياسة والسياسيين في البلاد. كما أن الإصرار على إقراره سيمثل ضربة موجعة للمسار الديمقراطي لبلادنا ومخالفة صريحة للثابت الرابع من ثوابت المملكة المتمثل في الخيار الديمقراطي.

*عضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.