في أفق الانتخابات التشريعية المقبلة.. أي منطق حسابي لأي قاسم انتخابي؟

د. محمد الطويل

مع قرب كل استحقاق انتخابي، يثور النقاش قوياً حول مضمون وطبيعة المقتضيات القانونية والتنظيمية المحدّدة للعملية الانتخابية والمؤطّرة لمختلف مراحلها. واليوم كما البارحة، يتجدّد النقاش بين مختلف الفرقاء الحزبيين حول عدد من القضايا التي تهمّ تنظيم مجمل العمليات الانتخابية المقبلة، والتي تجمع بين الانتخابات النيابية والجماعية والجهوية والمهنية، بما يجعل المرحلة المقبلة مرحلة انتخابية بامتياز.
..كما يقولون، بأن الشيطان يكمن في التفاصيل، فإن الكثير من المسائل التي قد تبدو تقنية وإجرائية، غالبا ما يكون لها أثر كبير في توجيه النتائج الانتخابية والتحكّم في مخرجاتها. لذلك تجد معظم الأحزاب، باعتبارها المتنافس المحتمل برسم هذه الاستحقاقات، معنية بحسم هذه القضايا والمسائل بشكل استباقي من خلال الضغط والتأثير على صياغة نصوص القوانين الانتخابية، بما يناسب موقعها ويؤمن لها مكاسب انتخابية أكبر. الأمر الذي تتوقع أن يبوئها مقاما معتبرا في المشهد الحزبي، ويسمح لها بحضور أبرز في الحياة السياسية وضمن المؤسسات المنتخبة.
وإن كانت الأحزاب، أساسا، وكل الفاعلين المعنيين في تحديد معالم وأبعاد ومضامين السياسة الانتخابية المنتهجة يتدافعون بقوة للتأثير على النظام والقانون الانتخابيين؛ فإن النظام والقانون الانتخابي، بدوره كذلك، يؤثر جدليا على الواقع المؤسساتي والمشهد الحزبي.
فكل نظام وكل نمط انتخابي من شأنه أن يوجّه الحياة السياسية في اتجاه مزيد من الدمقرطة والعقلنة أو في اتجاه مزيد التشتّت والعبث والبلقنة. كما أن كل نظام انتخابي من شأنه أن يصطنع واقعا مناسبا له بمواصفات محددة، من قبيل طبيعة النظام الحزبي الذي يتولد عنه (ثنائية حزبية أو تعددية حزبية متوازنة أو مشتتة)، أو من قبيل استقرار المؤسسات النابعة عن العملية الانتخابية (حكومية كانت أو برلمانية أو سلط محلية).
وبالرغم من النزوع التحكّمي الذي سعى إلى هيمن على مختلف الاستحقاقات الانتخابية التي مرّت ببلدنا من قبيل: تدخل الإدارة في المجريات الانتخابية باعتبارها طرفا غير محايد في العملية، أو من خلال التأثير على سلوك الناخبين أو تزوير إراداتهم، أو عبر التضييق على المرشحين أو استعمال المال الحرام… أو غيرها من الممارسات التي كانت تمس، بشكل فجّ وسافر، بمبدأ نزاهة الانتخابات وطابعها الحيادي ودرجة مصداقيتها. اليوم نشهد طموحا أكبر نحو دمقرطة كسبنا الانتخابي، وهو التوجه الذي تم تدشينه منذ مرحلة الانفتاح السياسي الذي شهده المغرب أواخر الثمانينيات وبداية تسعينات القرن الماضي، ثم تكرّس مع سياق إرساء مرحلة التناوب التوافقي أواخر التسعينيات.
ليشهد المغرب تحوّلاً انتخابيا مهما منذ سنة 2002، بفضل اعتماد نظام اقتراع قائم على النمط اللائحي المشجع على مبدأ التصويت السياسي على البرامج الانتخابية والتوجهات الحزبية، بدل التصويت اللا-سياسي الذي كرّسه نمط الاقتراع الفردي. كما دُعّم هذا النظام الجديد بتقنيات انتخابية ساهمت بقدر معتبر في عقلنة السياسة الانتخابية للفاعلين وترشيد السلوك الانتخابي للمواطنين، لا سيما مع اشتراط عتبة انتخابية أو اعتماد قاسم انتخابي على أساس الأصوات الصحيحة المعبرة عنها أو من خلال تبني مبدأ التمثيل النسبي على قاعدة أكبر البقايا. ولقد كان من شأن تجديد الصيغة القانونية والنظامية التي تتم من خلالها الانتخابات، منذ تلك اللحظة، دوراً بارزاً في التقليص المعتبر من ظاهرة البلقنة الحزبية وتأمين استقرار مؤسساتي أكبر، يعبر عن اختيارات الهيئة الناخبة وتوجهاتها.
كما ساهم الحراك الديمقراطي المغربي، بما أفرزه من دستور جديد، في تثبيت مجموعة مبادئ وقواعد وفّرت جملة من الشروط والضمانات التي كفلت مرور الانتخابات في أجواء يطبعها حد معقول من التنافس الحزبي ومن ممارسة المواطن كامل حقوقه الانتخابية، بما في ذلك التعبير عن تفضيلاته وتطلعاته في الترجيح بين الهيئات المتنافسة وبالتالي اختيار البرنامج الذي يتناسب مع مصلحته وآماله.
وبغض النظر عن ما قد يعتري ممارستنا الانتخابية من أعطاب قد تؤثر على شفافيتها ومصداقيتها، وبعد هذه التجربة الانتخابية المهمة التي شهدها المغرب بوصفه بلدا في طور استكمال مسار انتقاله الديمقراطي؛ نجد أنفسنا اليوم في أمس الحاجة إلى استثمار هذا الورش النقاشي والتداولي حول المسألة الانتخابية من أجل تعميق تجربتنا الديمقراطية الجماعية وتحصينها من أي ارتداد أو تراجع قد يضرُّ بها أو يساهم في تقويض نتائجها أو يتسبب بهزِّ الثقة في العملية والمؤسسات السياسية المتمخضة عنها.
ولعل واحدة من بين القضايا الانتخابية التي يلزم أن نناقشها بكثير من الروح الوطنية المتطلعة نحو مزيد من الدمقرطة، تثور قضية احتساب القاسم الانتخابي والتي بادر العديد من الأطراف الحزبية إلى اقتراح صيغة غريبة ومنطق ملتبس لاحتسابها بالاستناد على عدد المواطنين المسجلين في اللوائح الانتخابية، بدل ما كان معمولا به سلفا من احتسابها على أساس الأصوات الصحيحة المعبر عنها. وهو المقترح الذي كشف اللثام عن رغبة في إفقاد العملية الانتخابية أي دلالة وروح ومعنى، من خلال ابتداع صيغة مستغربة وهجينة، لا يكاد يجد المرء لها شبيها في العالم.لقد بتنا في حاجة الآن إلى تثوير النقاش العمومي حول هذا الموضوع من منطلق يساهم في تثبيت الخيار الديمقراطي وإعطاء المعنى السياسي للانتخابات، بضمان أكبر قدر من عدالة التمثيل ونزاهة التدبير الانتخابي ويزكّي شفافية النتائج ويصون صدقيتها (Sa Sincérité) ويوطّد مصداقيتها (Sa Crédibilité).
لذلك سنحاول التعرّض لموضوع قاعدة احتساب القاسم/المعامل الانتخابي، خارج نطاق الحسابات السياسية الضيقة، وبعيدا عن رغبات التحكم في هندسة العملية الانتخابية من خلال اشتراط مثل هذه المقتضيات التي قد تبدو للبعض مجرد إجراءات، ويصف أمر مناقشتها بأنه استغراق في مناقشة تقنية لمسألة ذات بعد فكري وسياسي، بل بكل تأكيد فإن مناقشة مثل هذه الأمور والتدبير والإجراءات يغدو في الصلب من النقاش السياسي والديمقراطي ببلادنا.
أولا: “القاسم الانتخابي” على أساس المسجلين في ميزان الانتخابات الشفّافة والصّادقة والمعبّرة
كما سبق الإشارة إليه سلفا، اختار المغرب أن يرتقي بتجربته الانتخابية نحو آفاق أكثر ديمقراطية تتناسب مع حجم التغييرات الاجتماعية والطموحات الشعبية التوّاقة نحو مستقبل قائم على مبدأ دمقرطة ممارسة السلطة وتقوية إنتاج الثروة والعدالة في توزيع عوائد التنمية.
وقد كان من بين أهم أسباب تطوير الممارسة الانتخابية الوطنية احتساب المعامل/القاسم الانتخابي على أساس عدد الأصوات المعبّر عنها والصحيحة. الشيء الذي ساهم في تعضيد ترسانة القوانين الانتخابية الدافعة نحو بلورة انتخابات معبرة وشفافة وصادقة، تشجّع على عقلنة واقع التعددية الحزبية المعطوبة أصلا، وتضمن استقرارا أكبر للمؤسسات الوطنية والتي باتت تتعرض لحملة ممنهجة ومستمرة من تبخيس شرعيتها والضرب فيها.
غير أنه في اللحظة التي كان يُتوقّع أن تكون المشاورات الأولى التي تقودها وزارة الداخلية بمعية الأحزاب السياسية فرصة لتعديل القوانين الانتخابية بنفس يعزز مصداقيتها ويشجع على المشاركة في استحقاقاتها، اختار البعض، مع كل الأسف، أن ينخرط في هذا الورش وبوصلة اقتراحاته متوجّهة إلى الوراء بدل أن يجتهد لاستقبال الغد القريب بروح وطنية ملؤها التوثب إلى الديمقراطية والعدالة.
فبعد أن اعتاد المغرب احتساب المعامل/القاسم الانتخابي على أساس عدد الأصوات الصحيحة المعبّر عنها منذ انتخابات 2002، بما عزّز شفافيتها وعدالة تمثيليتها، دعت العديد من القوى الحزبية إلى تعديل أساس الاحتساب باعتماد عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية بدل الأصوات المعبّر عنها، صحيحة كانت أو غير صحيحة. وذلك بدعوى احترام ورعاية التعددية، حتى وإن ظلّت تعددية زائفة ومحض تنوّع شكلي، لا طائل من ورائه، يُستعمل في كثير من السياقات لتعطيل التطوّر الديمقراطي وعرقلة مسار الإصلاح السياسي. أو من خلال الدعوى إلى ضمان ولوج كيانيات حزبية، مفتقرة للامتداد الشعبي ومفتقدة لشرعية الفكرة، إلى البرلمان، بغض النظر عن أن مرورها للبرلمان لن يساهم إلا في تشتيت أصوات المواطنين وإرباك الاستقرار المؤسساتي وتعميق واقع البلقنة.
إن توسيع قاعدة احتساب القاسم الانتخابي ليشمل كل المسجلين في اللوائح الانتخابية من شأنه أن يضرب عرض الحائط العديد من المبادئ والمقتضيات التي تضمنها دستور 2011، والتي تؤكد على ضرورة أن تكون الانتخابات، بما أنها أساس مشروعية التمثيل، نزيهة وشفافة وصادقة (الفصل 11 من الدستور).
ذلك أن الطابع النزيه الشفاف والصادق للانتخاب لا يُتحصَّل إلى من خلال مشاركة المواطن في التعبير عن إرادته عبر ممارسة حقّه وواجبه في التصويت انتهاءً (الفصل 30 من الدستور)، لا بالاقتصار على التسجيل في اللوائح الانتخابية الذي يُعدُّ، فقط، عملا من بين الأعمال الممهدة للعملية الانتخابية، وليست العملية الانتخابية بتمامها وكمالها. بمعنى أن العملية الانتخابية لا تُعتبر مستوفية منتجة لأثرها القانوني إلا بعدما يُعبّر من خلالها المواطن عن إرادته الناخبة في اختيار ممثليه. فالاقتراح الحر والنزيه والمنتظم لا يكتمل إلا من خلال اختيار الأمة، الاختيار الفعلي والعملي [تصويتاً]، لممثليها (الفصل 2 من الدستور).
ثانيا: “التسجيل في اللوائح الانتخابية” من الأعمال الممهدة للانتخابات غير المنتجة لأثر قانوني
درج القضاء الدستوري على تصنيف “القيد في اللوائح الانتخابية” بوصفه مجرّد عمل من الأعمال الممهدة للانتخابات (انظر: دليل المنازعات الانتخابية البرلمانية من خلال قرارات المجلس الدستوري، الصادر عن المجلس الدستوري، الرباط: مطبعة أمنية، ط 1، سنة 2011، ص 8). وكما هو معلوم في القانون الإداري، فإن الأعمال التمهيدية ذات الطابع التحضيري لا يمكن أن تكون محلّ منازعة قضائية، ولا يثور ضدها الطعن بالإلغاء على اعتبار أنه لا يترتب عليها أي أثر قانوني (انظر حكم المحكمة الإدارية بالرباط، رقم 1377، بتاريخ 21/06/2007. والذي جاء فيه: “.. الأعمال التمهيدية أو التحضيرية (..) لا تحدث بذاتها أي أثر قانوني).
وعلى نفس منوال عمل القضاء الإداري، جرى عمل القضاء الدستوري الذي اختار عدم النظر في منازعات الطعن في التسجيل في اللوائح الانتخابية باعتبارها أعمال تمهيدية كأصل عام، إلا إذا كانت مقرونة بمناورات تدليسية (قرارا رقم 802 في 30/6/2010). لذلك، فإن المجلس الدستوري لا يتصدّى لموضوع القيد أو الشطب في اللوائح الانتخابية  إلا إذا اقترن ذلك القيد أو الشطب بمناورة تدليسية ترتّب أثرا في الاقتراع (قرارا رقم 792 في 25/3/2010).
الغرض من وراء هذا الاستعراض، هو إبراز التوجه الدستوري نحو تعريف العملية الانتخابية باستكمال مختلف العمليات الخاصة بفعل الانتخاب، وأنه لا يُعتبر المنتخب كذلك إلا باستيفائه لعملية التصويت بوصفها العملية التي يشارك فيها المواطنون من أجل التعبير عن إرادتهم الناخبة.
الشيء الذي يغدو معه أمر ترتيب أثر انتخابي على مجرد التسجيل في اللوائح أمرا مفتقدا للمعنى ومفتقرا للمضمون. وهو ما عضدّه عمل القضاء الدستوري، والذين اعتبر القيد في اللوائح واحدا من الأعمال التمهيدية (التحضيرية) للانتخابات، والتي لا ترتّب أثرا قانونيا من تلقاء ذاتها. وهو ما دفع بالقاضي الدستوري إلى تقرير عدم النظر في المنازعات بخصوصها قصراً، إلا إذا أنتجت تأثيرا فعليا على عمليتي الاقتراع والتصويت.
ثالثا: في تمييز المركز القانوني للناخب عن المركز القانوني للمسجّل في اللوائح
بخلاف من يرى بأن النقاش حول موضوع قاعدة احتساب القاسم الانتخابي بأنها مسألة تدافع سياسي وموضوع اختيار تشريعي؛ إلا أن تتبّع نصوص الدستور، الواضحة والصريحة، تفيد بأن المشرّع الدستوري لا يضفي صفة الناخب إلا على من أنجز مختلف الإجراءات المشكّلة، في مجموعها، للعملية الانتخابية.
ولا يعتبر هذا المشرّع أن إرادة الناخب إرادةً معبّر عنها إلا بعد ممارسة المواطن، الحائز لأهلية الانتخاب، حقّه العملي في التصويت يوم الاقتراع. ودون ذلك فلا يمكن اعتباره ناخبا معبرا عن إرادة انتخابية. وهو ما يؤكده الفصل 2 من الدستور حين نصه على أن الأمة تختار ممثليها في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع، وليس بمجرد التسجيل في لوائح الاقتراع. كما أن الفصل 30 منه، والذي مرّ بنا سلفا، يربط مجمل الوظيفة الانتخابية بخاتم وباكورة عملياتها، والتي ليست سوى عملية التصويت الفعلي للمواطن الذي اختار أن يعبّر عن إرادته بالإدلاء بصوته في الصندوق الانتخابي يوم الاقتراع.
هكذا، لا يُعتبر الناخب مُعبّراً عن إرادته، إلا من بعد حيازته لأهلية الانتخاب، وممارسة حقه/واجبه في التصويت يوم الاقتراع. في حين، لا يعدو التسجيل في اللائحة الانتخابية سوى عنصر من عناصر ترسيم اكتساب أهلية الانتخاب، والتي حدّدها المشرع في: الجنسية والسن والأهلية المدنية والأهلية السياسية ….إلخ. وكما هو معلوم فإن الأهلية للانتخاب هي بالأساس وصف قانوني يتيح لصاحبه التمتع بحق الانتخاب وصلاحية ممارسة حقه في التصويت.
كما أنه لا يُعنى بالمسجّل في اللوائح الانتخابية أكثر من المواطنات أو المواطنين المقبولين للقيام بعملية الاقتراع، أو من لهم من حيث المبدأ الحق في الاقتراع. ما دام أن تسجيل المواطنين في اللوائح/القوائم الانتخابية ليس سوى عمل من أعمال التحضير للانتخابات غرضها إدراج أسماء المواطنين المتوفرين على الشروط القانونية للانتخاب. وهو تسجيل يتم تلقائيا، وإن نصّت أغلب القوانين على طابعه الإجباري. وعلى أهمية التسجيل في اللوائح الانتخابية كشرط لتعيين وتحديد الهيئة الناخبة، إلا أنه يبقى خطوة إعدادية من بين خطوات إعدادية أخرى لإجراء الانتخاب عبر إدلاء المؤهلين للانتخاب بأصواتهم يوم الاقتراع.
وعلى أساس هذا الاعتبار، لا تعدو السجلات الانتخابية أن تكون مجرد قائمة بأسماء المواطنين المتوفرين على الحق في التصويت. وهي اللوائح التي يتم الاعتماد عليها يوم الاقتراع لضمان تصويت الناخبين في الأماكن المخصصة لتصويتهم والتي تم التقييد ضمن دائرتها الترابية.
ولا يعني هذا التقليل من شأن المسجّل في هذه اللوائح أو التهوين من قيمة التسجيل فيها، على اعتبار التسجيل في اللوائح الانتخابية أحد الضمانات الأساسية لتنظيم الانتخابات في أجواء شفافة ونزيهة. لأنه بهذا التسجيل يتم الحيلولة دون محاولة تصويت شخص في الانتخابات دون امتلاكه حق التصويت، أو منع من يريد أن يمارس حقه في التصويت مرتين. فضلا عن أن التسجيل في هذه اللوائح يُيسّر عمل الهيئة المشرفة على الانتخابات في تنظيم العملية وتحديد الدوائر الانتخابية وكفالة توزيع عادل للممثلِّين على الممثَّلين.
رابعا: إذا كان “لا يُنسب إلى ساكت قول”.. فهل يمكن أن يُنسب لمسجّل صوت؟
بتتبع مضامين الحقوق الانتخابية يتّضح جلياً أن التسجيل في اللوائح الانتخابية يُعدّ حقاً من بين حقوق انتخابية أخرى، إلى جانب حقّ الترشّح وحقّ تنظيم الحملات وحقّ التصويت… إلخ. بحيث لا يمكن اعتبار العملية الانتخابية إلا بوصفها تمثل هاته الحقوق مجتمعة: تبتدأ بالتسجيل،…، ولا تُرسّم إلا بالتصويت. فالتسجيل واسطة لصاحبها لنيل حقه في التصويت، ليغدو التسجيل مجرد وسيلة غايته ضمان التصويت المعبِّر عن الإرادة الناخبة..
كما أن الدرس القانوني  درج على التمييز بين ثلاثة حالات: أ) وضعية الناخب غير المسجّل، وهو الشخص المؤهل للاقتراع غير أنه لم يُقيد في السجلات الانتخابية؛ ب) والناخب المؤهل، وهو الشخص الذي استوفى الشروط القانونية للمشاركة في الانتخابات من شرط جنسية وسن وتسجيل وأهليتين مدنية وسياسية دون أن يمارس التصويت؛ وأخيرا (ج) الناخب، والذي يعني تحديدا المواطن الحائز لشروط أهليته الانتخابية والمسجّل في اللوائح والممارس فعلياً لحقّه/واجبه في التصويت. وعليه، لا يمكن اعتبار الناخب سوى الشخص/المواطن الذي أتم مختلف العمليات والإجراءات والتصرفات القانونية التي يستهلُّها بالتسجيل ويختتمها بالتصويت.
ومن خلال التحليل المشار إليه أعلاه، يتضح أن الداعين إلى اعتماد عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية لتحديد القاسم الانتخابي من شأن أن يضرب أحد أبرز المبادئ الدستورية القاضية بمساواة المواطنين أمام القانون (الفصل  من الدستور6)، إذ كيف يُعقل أن يساوى بين إرادة مواطن اكتفى فقط بالتسجيل في اللوائح الانتخابية وإرادة مواطن آخر تكبّد عناء التسجيل وتحمّل واجب التصويت لحظة الاقتراع للتعبير عن إرادته.
والحال أن اعتماد قاعدة عدد المسجلين سيُفضي، واقعا، إلى التسوية بين من صوّت للتعبير عن إرادته وبين من اقتصر عمله على القيام بإجراء هو من باب الإجراءات التمهيدية التي لا تنتج أي أثر ولا تعبّر عن أي إرادة. ذلك أن تعريف الناخب مشروط بتصويته بما هو إدلاء بصوت. أما المسجّل، ولأنه لم يصوّت، فلا يمكن أن ينسب إليه قول انتخابي، لأنه لا يُنسب إلى ساكت قول، ولا يُسند لمن لم يصوّت تعبير عن إرادة.
خامسا: في تناقضات المطالبين باحتساب القاسم الانتخابي على أساس قاعدة المسجلين
حاولت في هذه المقالة التصدّي، ولو جزئيا قدر المستطاع، لإشكالية الأساس المعتمد لاحتساب القاسم الانتخابي من خلال التعرّض بالنقد الفقهي والتقييم القانوني لدعوى الاحتساب على أساس عدد المسجلين، بدل عدد الأصوات الصحيحة المعبر عنها، وذلك لإبراز تهافت هذه الدعوى وهشاشة أطروحتها. إذ ليس خافيا على كل مهتم بالسياسات الانتخابية الأهداف الخفية وراء الرغبة في تضخيم القاسم الانتخابي.
وهو ما يُفقد العملية الانتخابية أي معنى سياسي أو مضمون تنافسي، لا سيما وأنه من المتوقّع أن تفشل العديد من الأحزاب، في العديد من الدوائر الانتخابية، في أن تحوز عدد أصوات يساوي القاسم الانتخابي المعتمد في دوائرها. ليتم توزيع المقاعد على الأحزاب الأولى بالجملة وبالتساوي الذي هو أقرب إلى التسوية، التي يُسوّى فيها المترشّح الحاصل على عشرات الآلاف من الأصوات بالمترشِّح الذي لم يتحصّل إلا على بضعة آلاف من الأصوات، ولربما المئات فقط.
الأمر الذي يخلق حالة من “اللا-عدالة” الانتخابية، حيث يمثّل مقعد نيابي عشرات الآلاف من المواطنين، في حين تكتفي المقاعد التي تليه بتمثيل عدد أقل. كما أنه لن يساهم إلا في بناء مؤسسات انتخابية أُنشئت على إرادة من انتخب ممزوجة بإرادات أخرى لم تنتخب. لتكون آنذاك مؤسسات مفتقدة للمشروعية الانتخابية، بحكم أنها لا تتأسس على مخرجات الصندوق الانتخابي ولا تنبني على نتائج عملية الاقتراع.
غير أن استغراب المرء يزيد، حين يقف عند حقيقة أن كل الأحزاب التي تدعو إلى اعتماد عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية أساسا لاحتساب القاسم الانتخابي، كلها أحزاب تشكّك في مصداقية وشفافية اللوائح الانتخابية وتدعو إلى مراجعتها مراجعة شاملة تخلّصها من كثير من الشوائب والاختلالات التي تعتورها، بما يجعلها غير مؤهلة لأن تكون أساسا للاحتساب.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.