الطويل يكتب: تناقضات خطاب الجزائر الرسمية بشأن الوحدة الترابية المغربية

د. محمد الطويل

كلما فتح المرء إحدى قنوات الجارة الجزائر أو طالع بعض جرائدها أو تصفح بعض وسائل التواصل الاجتماعي بها، إلا وباغته هذا الكم الهائل من المواد الإعلامية، سمعية وبصرية ومقروءة، تحدثك عن قضية الصحراء الغربية، محتفية بنضال، ما يُسمى، جبهة التحرير، أو غيرها من ضروب الكليشيهات التي لم يملّ المتعاقبون على حكم قصر المرادية عن الترويج لها. والتي لا زال بعض الساسة والإعلاميون الجزائريون مصرّون على تكرار ترديدها، منذ زمن الحرب الباردة والانقسام الإيديولوجي وعهد الحروب بالوكالة. وهي على العموم كليشيهات ومحفوظات تجاوزها العالم، بمن فيهم كثيرين ممن تحمسوا لها  أو كان لهم قصب السبق في تبنّيها إيديلوجيا والترويج لها سياسيا وإعلاميا.

هكذا، وكلّما حقّق المغرب كسباً على صعيد معركته في تثبيت سيادته على مجموع تراب إقليمه، إلا وسارع عسكر الجزائر إلى دفع ساستها وإعلامييها وتحريك آلتها الديبلوماسية المموّلة بأموال الشعب الجزائري إما للتشويش على عدالة القضية بترويج خطاب زائف حافل بالتناقضات في كل منتظم ديبلوماسي أو جمع دولي أو محفل ديبلوماسي، أو بإصدار الأمر لقيادات ميليشيات الكيان الوهمي للمشاغبة على الحدود المغربية-الجزائرية أو اختلاق معارك مفتعلة حتى يتسنّى لها ادعاء وقوعها ضحية لمظالم ما أنزل الله بها من سلطان.

وقد كان للعالم أجمع في أحداث الكركرات الأخيرة دليل آخر عن كل ما سلف ذكره، إذ تابع الرأي العام الدولي بأسره فصول مسرحية رديئة عمدت من خلالها قيادية الجبهة إلى إرسال عناصر عسكرية في ثوب فعاليات مدنية في خرق واضح لمقتضيات الاتفاق العسكري، وفي تحدٍّ سافر ومباشر لبعثة المينورسو، وذلك لإحراج المغرب مرتين: فإن هو تحرّك لإرجاع الأمر إلى نصابه اتُهم بتعرضه للمدنيين وانتهاك حقوق الإنسان؛ وإن هو تمهّل التزاما بمقتضيات الاتفاق العسكري وحفاظا على الأرواح لم يضمن عدم تسرب مزيد من العناصر لتغيير الوضع بالمنطقة.

غير أن المغرب، ولله الحمد، قد استطاع، في احترافية وفعالية، أن يكسب هذه الجولة كما أغلب الجولات السابقة، بفضل طول النفس التي بدا يتمتع بها، وبفضل الحنكة الديبلوماسية التي اكتسبها طيلة العقود الأربعة الماضية. فتدبير المملكة للنزاع مكّنته من الفوز بدعم دولي كبير لمقترحه في الحكم الذاتي باعتباره حلا سياسيا ممكنا وواقعيَّ التنفيذ، ثم مكنته من كسب ثقة ساكنة الأقاليم بفعل المجهود التنموي المقدر الذي نهض بأقاليم الجنوب حيث يتمتع مواطنوه هناك بأجواء عيش آمنة وكريمة تكفل لهم حقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ولعل أحد أوجه التقدم المعتبر الذي جنته المملكة ضمن هذا المسار، هو ما لحق أطروحة وكيان الانفصال من مسلسل الخيبات والانكسارات التي باتت تتعرض لها بعد توالي سحب أو تجميد الاعترافات بالكيان على مختلف المستويات القارية والعربية والدولية، والتي كان أخيرها، وليس آخرها بحول الله، قرار العديد من الدول العربية الشقيقة والإفريقية الصديقة فتح قنصلياتها بمدينتي العيون أو الداخلة.

على أيٍّ، أضحى اهتراء أطروحة الانفصال معلوما لدى القاصي والداني، وذلك بافتقادها للشرعية التاريخية والسياسية والاجتماعية والقانونية، ثم لافتقارها للأفق المستقبلي القابل التحقيق على أرض الواقع. فكما هي أطروحة معارضة للحقائق الراسخة في تاريخ المنطقة ومحفورة في وعي أهلها ووجدانهم، فإنها أطروحة لاتاريخية ومناوئة للمستقبل والمصير بما هي أطروحة تصر على مفردات الانفصال والتجزئة والكيانات الدولتية المجهرية في ظل واقع عالمي لا يعترف إلا بالتكامل والائتلاف والدول الموحدة والقوية، ولأنها أطروحة تزج بالمنطقة كاملة في أتون مخططات التجزئة والتفتيت ضدا عن خيارات شعوب المنطقة وتطلعاتها إلى مزيد من الوحدة والتعاون والسلام.

وكما الوهن الضارب بنية أطروحة الانفصال، يعتور الخطاب الرسمي الجزائري بخصوص قضية الوحدة الترابية للمغرب العديد من المغالطات والتناقضات، والتي لا ينتج عنها إلا المواقف المرتبكة والقرارات المضطربة والتي لا تفضي حقيقة سوى إلى مزيد من تأخير مسارات الوحدة المغاربية والتكامل العربي والتقارب الإفريقي، بما يُفوّت على شعوب المنطقة فرصا تاريخية واعدة للنهوض بتنيمتها المشتركة وتعزيز إمكانات الاعتماد المتبادل لاقتصادياتها الناشئة.

سنحاول في هذا المقالة العاجلة أن نقف عند بعضٍ من أوجه التناقضات التي يعج بها خطاب القيادة الجزائرية بخصوص مسألة الصحراء الغربية والمشكِّك في مغربيتها، والتي يمكن أن نكثّفها في أربع مفارقات كبرى:

1- مفارقة الدعوة لتصفية تركة الاستعمار مع رعاية أحد مخلفاته

لكسب تأييد أكبر لموقفها الداعم لأطروحة انفصال الأقاليم الجنوبية عن المغرب، تعمد الجزائر إلى استدعاء مفردات خطاب تصفية تركة الاستعمار بالمنطقة. وواقع حالها يفشي سرّها بأنها لا تعدو أن تكون مجرّد راعية لأحد أبرز مخلفاته ومعنية باستدامة متبقياته. ولعل واحد من بين أبرز مخلفات المرحلة الاستعمارية هي افتعال الصراعات الحدودية وزرع الكيانات الوهمية بغرض التشويش على استقرار الدول المستقلة، والعمل على رهن مستقبلها للمجهول، والتحكم في قرارها بتكريس تبعيتها للآخر.

ومن أوائل الإشكالات التي وقع فيها السياسي الجزائري هو أن وسمه للمغرب بـ”القوة المحتلة” يأتي مخالفاً لمضامين قرار محكمة لاهاي لسنة 1907م ولمقتضيات معاهدة جنيف الرابعة لسنة 1949م، والذين يضعان تعريفا محددا للبلد المُستعمِر بما هو “الجهة التي تحتل إقليم دولة قائمة فعلا من خلال عمل مسلح ونزاع حربي”. وهو الأمر غير المتحقق، بحكم أن الكيان الانفصالي لم يكن موجودا أصلا عند احتلال الصحراء الغربي.

كما أن تصنيف منظمة الأمم المتحدة، في قرارها الصادر سنة 1963 تحت رقم A/5514، للصحراء منطقة مستقلة ما كان أن يتحقق في ذلك التاريخ – سنة بعد استقلال الجزائر نفسها، وقبل تأسيس جبهة البولساريو بما يزيد عن عقد من الزمن- إلا بفضل مبادرة المغرب بتقديم طلبه بذلك، بعد الزيارة والخطاب التاريخيين للملك محمد الخامس، رحمه الله، في امحاميد الغزلان سنة 1958م.

هذا، وقد أكد قرار الأمم المتحدة السابق فيما بعد صدور الرأي الاستشاري عن محكمة العدل الدولية بتاريخ 16 أكتوبر 1975، والذي ثبّتت فيه المحكمة حقيقة أن منطقة: “وادي الذهب والساقية الحمراء لم تكن وقت الاستعمار الاسباني أرضا لها، (…)، وبأن المواد والمعلومات المقدمة إلى المحكمة تظهر وجود روابط ولاء قانونية، وقت الاستعمار الإسباني، بين سلطان المغرب وبعض القبائل التي تقطن إقليم الصحراء المغربية”. وهو ما شجع أكثر المغفور له الحسن الثاني على تنظيم المسيرة الخضراء لاسترجاع الأقاليم الجنوبية من قبضة الاستعمار الإسباني.

والغريب، أن الجزائر الرسمية لا تتوانى أن تقدح المغرب بكونه قوة احتلال وسلطة استعمار، في اللحظة التي لم يسبق لمختلف الأمناء العامون الذين ترأسوا هيئة الأمم المتحدة، والذين تدنوا تقاريرهم من عدد 120 تقريرا، كما مجلس الأمن الذي جاوز عدد قراراته الأممية 65 قرارا، أن نعثا المغرب بوصفه بلد احتلال أو بلد بنزوعات توسعية أو حتى وصف الصحراء المغربية بالصحراء المستعمرة.

بل إن الأمين العام للأمم في تقريره لـ 23 ماي 2003 قد أضفى على المغرب صفة السلطة الإدارية القائمة في الصحراء الغربية، وهو ما يُعتبر إقرارا ضمنيا بالوضع السيادي للمغرب بالمنطقة. ولو كانت الجزائر ملتزمة بالقرار والموقف الأممين لالتزمت أولا باللغة والتكييف القانونين الذين يعتمدهما الأمين العام أو مجلس الأمن، بدل المجازفة بتوظيف أوصاف لا أساس قانوني لها، وغير معتمدة من لدن الهيئات الدولية.

وبغض النظر عن مناقضة الجزائر الرسمية لنفسها قانونا، فهي تناقض تاريخ المنطقة نفسه، فدول العالم كلها قبل الاحتلال الإسباني للصحراء سنة 1884، درجت على التعامل مع الإيالة المغربية الشريفة باعتبار انبساط سيادتها على كامل تراب المغرب الأقصى، بما فيها دولتي الاحتلال الفرنسي والإسباني. وتصفح عدد من الاتفاقيات الدولية التاريخية ما قبل المرحلة الكولونيالية، بما هي وثائق تاريخية متاح مطالعتها بأرشيفات هذه الدول، وعلى رأسها دول التاج البريطاني ودولة الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية فرنسا والمملكة الإسبانية عدا الدول العربية والإفريقية، والتي في عمومها تؤكد أن الدول جميعها كانت تعترف وتتعامل مع المغرب بما هو الدولة صاحبة السيادة بكل التراب المغربي والحائز لسلطة إدارته والتفاوض الرسمي بشأن كل ما يخصه، بما في ذلك إدارة أقاليم الجنوب وتدبير شؤونها.

ولا ندري كيف تعتبر الجزائر المغرب دولة محتلة للأقاليم الصحراوية؟! وهي أعلم من غيرها بأن القبائل الصحراوية نفسها كانت شريكا أساسيا في مقاومة المحتلين الأجانب والانخراط في معركة التحرير، إذ استوى عندها الجهاد المسلح في أقاليم الجنوب كما في أقاليمه الشمالية. وقد كان غالبا ما يمتد نضالها إلى حدود مدينة مراكش ومدينة سيدي بوعثمان، متجاوزة مقاومة المستعمر الإسباني المتمركزة قواعده في الصحراء إلى مقاومة المستعمر الفرنسي في وسط المغرب.

فكيف ينظر عسكر الجزائر وساستها إلى العدد الكبير من المقاومين الصحراويين الذين اختاروا هجر مدنهم وقبائلهم وترك أسرهم وعوائلهم جنوبا والاتجاه شمالا لمقاومة محتل آخر غير المحتل القابع جوارهم، حيث انصهرت دماؤهم في أقاليم الشمال كما أقاليم الجنوب مختلطة بدماء إخوانهم من المغاربة من كل ربوع الوطن الواحد. بالتأكيد أن هؤلاء لن يملكوا جوابا إن هم أسقطوا مقتضى حاسم وهو مقتضى إيمان كل المقاومين، جنوبيين وشماليين، بانتمائهم الوطني الصادق للمغرب، تاريخا وحضارة.. مجتمعا ودولة.

وكيف يتسنى للجزائر، الجزائر الرسمية دائما، مع كل هذا أن تعتبر المغرب دولة احتلال.. وكيف يتسنى لها أن تنصّب نفسها مقام المناوئ للاحتلال والداعي لتصفية مخلفاته، وهي في حقيقة الأمر ليست سوى مدافعة عن تركة الاستعمار وراعية لأحد أبرز متبقياته التي ليست سوى وهم دويلة مختلقة بلا شعب ولا إقليم ولا ماضي ولا مستقبل.

2- مفارقة التشبث بالوحدة مع الإصرار على التجزئة

لعل ثاني أحد أبرز تناقضات الخطاب الجزائري فيما له صلة بالموضوع الذي نحن بصدده، هو تشدّق ساستها بكونهم دعاة تكامل ووحدة، سواء تعلق الأمر بالوحدتين المغاربية والعربية أو التكاملين القاري والإقليمي، إلا أن واقع ممارستهم العملية يكشف اللثام عن زيف ادعائهم ذلك، كما يهدر مصداقية دفاعهم عن مبادئ ومنطلقات الوحدة والأمل في مستقبلها الواعد.

كيف يمكن الصدق في دعوة الجزائر للوحدة وهي تصرّ على استكمال تنفيذ مخططات القوى الدولية العابثة بالواقع الإقليمي عربيا وقاريا، من خلال حرصها على استئناف عمليات تجزئته والعبث بموارد استقراره بمزيد تفتيتٍ لدول المنطقة إلى مجموعة دويلات صغيرة يسيرٌ أمر التحكّم في سيادية قراراتها وسياساتها.. واستغلال ثرواتها ومقدراتها.. واللعب بمستقبل شعوبها ومجتمعاتها. دويلات لا همّ لها سوى الفناء في التنافس فيما بينها إرضاءً لسادتها من قوى دولية اصطنعتها وتتكفل بحمايتها والدفاع عنها كلما خضعت لهيمنتها وانطوت تحت سيطرتها. لتلج المنطقة -شعوبا ودولا- طورا جديدا من أطوار الاستعمار، بعدما أضحى الاستعمار العسكري المباشر مكلفا ماديا وبشريا.

وليس ببعيد عنا ما يعتمل في واقع العديد من دول النظام الإقليمي العربي من معاول الهدم بتجزيء المجزئ وتفتيت المفتّت، منذ المراحل الأولى لمخطط سايس-بيكو إلى مخطط الشرق الأوسط الجديد وإلى مشروع نظام الفوضى الخلاقة. ليبدو العالم العربي مثخنا بجروح عديدة ومثقلا كاهله بأعباء كثيرة. وهو الآن عاجز عن تطييب جروحه واستجماع أطرافه، فلا جامعة الدول العربية مؤهلة لذلك بسبب كثرة وعمق الخلافات العربية-العربية، ولا الاتحادات الإقليمية القومية أو المغاربية أو الخليجية قادرة على بلورة تجربة وحدوية ناجحة، ولو جزئيا.

غير أن الأمرّ من كل هذا، هو أن يتم استكمال مخططات التجزئة ومشروعات التفتيت على يد من تقاسمه نفس الانتماء للدين واللسان والثقافة، كما تشاركه ذات النسيج المجتمعي والموقع الجغرافي والتاريخي. والجزائر اليوم، لا تتورع عن ممارسة هذا الدور وتنفيذ هذه الوظيفة اتجاه المغرب واتجاه شعوب المنطقة من خلال إصرارها على تفكيك المغرب باصطناع دولة مزعومة وكيان مختلق في جنوبه. فليس خافيا أن المخططات الاستعمارية، منذ معركتي إيسلي وتطوان، لم تتوان عن الاستهداف المتكرر للمغرب طمعاً في تقسيمه إلى مجموعة دويلات. وهو ما تم بدايات استعماره، حيث تم تجزيؤه إلى أربعة أقسام، استأثرت إسبانيا بقسميه الشمالي والجنوبي، في حين احتلت فرنسا قسمه الأوسط، في حين خضعت مدينة طنجة بالنظر لوضعها الجيو-ستراتيجي للوصاية الدولية، مما اضطر المغرب إلى استعادة استقلاله عبر مراحل تاريخية متفاوتة.

المؤسف حقا أن تمارس الجزائر هذا الدور الوظيفي من خلال الترويج لخطابات ونهج ممارسات ليس لها من معادل موضوعي وواقعي سوى الاستمرار في تجزئة المنطقة وإتمام ما فشل الأجنبي على تحقيقه.

ولا ندري كيف للجزائر، وهي تترصد لهذه المهمة، أن تبرّر لنفسها، ثم للناس أجمعين، قيام شعب صحراوي موجود فقط بمنطقة الصحراء الغربية يناضل من أجل تأسيس دولة تجسد سيادته على الأرض والبشر. والحال أن الصحراء، كما هي تاريخا وجغرافيا، ممتدة من المحيط الأطلسي غربا إلى بحر الخليج العربي شرقا. ثم لما هذا التمييز المتعسف والقسري بين الصحراويين القاطنين الصحراء الغربية والصحراويين القاطنين الصحراء الشرقية. أم أن الأوائل هم الصحراويون، والآخرون فلا.

كل معطيات الممارسة الفعلية للسياسة الجزائرية وتفاصيل خطابها تظهر أن الجزائر متورطة في واقع سياسة تجزيئية بالمنطقة المغاربية وفي مواجهة المغرب تحديدا، وهو ما فضحه الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره سنة 2002، حين أكد تفضيل كل من الجزائر والبوليساريو تقسيم الصحراء وتجزيئها مناصفة بين المغرب والجبهة.

فكيف يتسنى للجزائر، إذاً، أن تتشدق بخطاب الوحدة والنضال من أجلها، وهي في واقع أمرها لا تستكمل سوى مخطط تجزئة المنطقة بمزيد من التفتيت وخلق الكيانات الوهمية!!

3- مفارقة ادعاء سياسة حسن الجوار مع سلوك ممارسات عدائية إزاء الجار

ثالث هذه المفارقات الغريبة العجيبة، تتجلى في إصرار الجزائر الجار على نهج ممارسة عدائية اتجاه جارها المغرب، مهما حاول حاكموها التملّص من هذه الحقيقة. ففي اللحظة التي تتوالى فيها مبادرات الدول إما بسحب أو تجميد اعترافها بجمهورية الشعب الصحراوي الموهومة، تناكف الجزائر مسار التاريخ بمساندة هذا الكيان وتسليح مليشياته وعصاباته.

فاحتضانها للكيان سياسيا وديبلوماسيا، ودعمه اقتصاديا وماليا، واحتجاز آلالاف من المواطنين المغاربة على أرضها، ثم استعمال أراضيها منصة لتهديد المغرب في مصالحه والهجوم على ترابه وحدوده الحقة، كلها أمور لا يمكن اعتبارها في العرف الدولي والتكييف القانوني سوى ممارسات عدائية واعتداءات حربية من دولة جار على دولة أخرى. ولأن المغرب صادق في ألا يثير نزاعا مسلحا مع جيرانه، فقد اختار أن يتراجع بمحض إرادته وعلى تراب إقليمه لفسح المجال أمنيا لإنشاء منطقة معزولة السلاح، ثم استراتيجيا للرد على أي عدوان في إطار الدفاع الشرعي دونما حاجة إلى تجاوز حدوده.

4- مفارقة التزام الحياد مع التموقع طرفا أصيلا في النزاع

أختم هذه المفارقات الثلاث بمفارقة رابعة، وهي مفارقة ادعاء الجزائر تموقعها على الحياد بشأن قضية الصحراء المغربية، مع أن واقعها يؤكد أنها أحد الأطراف الأصيلة في النزاع. ويكفي المرء أن يقوم بجولة في صحافة وإعلام الجزائر أو بين بيانات وبلاغات وزارة خارجيتها أو بين سفاراتها وقنصلياتها بدول العالم، وإلا يتبين له أن الجزائر بقضها وقضيضها، دولة وحكومة وأحزابا وعسكرا، منغمسة في هذا النزاع. والظاهر أن لا أحد من دول العالم أو هيئاته الأممية أو الإقليمية أو القارية إلا ويتعامل مع الموضوع باعتبار الجزائر طرفا حاسما فيه غير محايد.

ويكفي بهذا الصدد الإشارة إلى اقتراح الجزائر تفضيلها تقسم الإقليم المتنازع حوله بين المغرب والبوليساريو كما سلف؛ أو بالإشارة إلى التقرير الذي تقدم به المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة متم 23 ماي 2002، والذي أكد بمناسبته الرفض المباشر للجزائر لمشروع الاتفاق الإطاري الذي اقترحه بسبب ما سماه “”التحفظات الشديدة التي أعربت عنها حكومة الجزائر وإلى عدم استعداد جبهة البوليساريو النظر في مشروع الاتفاق الإطاري”.

كما يبرز تموقع الجزائر طرفا مباشر في النزاع في رفضها لمقترح المغرب بتمكين الساكنة الصحراوية حكما ذاتيا متم يونيو 2001. حيث تجندت الآلة الديبلوماسية الجزائرية للمبادرة إلى توجيه مذكرة باسمها، لا باسم غيرها، للاعتراض المباشر والصريح على المقترح، وهو اعتراض موثق ضمن الملحق الثاني من تقرير الأمين العام للأمم المتحدة المقدم إلى مجلس الأمن متم 20 يونيو 2001.

كثيرة هي المعطيات والوقائع التي تفضح تناقضات الخطاب الجزائري اتجاه وحدة المغرب، والتي تؤكد بأن الجزائر بخلاف ما تروّجه تعمل كامل جهدها لعرقلة استكمال المغرب لوحديته الترابية والوطنية، وذلك وفق سياسية متواصلة مستمر تمتد إلى أواسط سبعينيات القرن الماضي.

طبعا، لسنا في حاجة إلى تجديد التأكيد بأن هذه المواقف العدائية للمغرب والمناوئة لوحدته هي مواقف لا تهم إلا القائمين على شأن النظام السياسي الجزائري، في حين أن الموقف الجزائري الأصيل هو الموقف الذي يعبر عن أفراد الشعب وعموم المواطنين لحظات عدة، والذين ما فتؤوا يؤكدون كل مرة وحين بأن الشعبين المغربي والجزائري إخوة في الماضي، كما في الحاضر والمستقبل.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.