هل تؤدي شعوب المنطقة كلفة تعطيل الاتحاد المغاربي؟

خالد الصمدي

قديما قرأت مقالا تحليليا عن “الكلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتعطيل الاتحاد المغاربي”، والذي رسم صورة قاتمة عن مستقبل المنطقة، في حال استمرار تشتت مواقفها السياسية والاقتصادية مما سيفوت عليها وعلى شعوبها فرصا هائلة للتنمية ويضعف موقعها التفاوضي اتجاه التكتلات الإقليمية والجهوية والدولية، ويبدو أننا نعيش اليوم فصلا من هذه التوقعات، ففيما يشبه البلاهة والنظرة السطحية للأشياء تدور حرب داحس والغبراء بين المغاربة والجزائريين على مواقع التواصل الاجتماعي، إثر التطورات الأخيرة في المنطقة، وتذكرني هذه التراشقات بقصائد الفخر والهجاء التي مهدت لهذه الحرب في عصر الجاهلية الأولى بما تحمله من عبارات تمجيد للذات وتسفيه للآخر وتخوينه، والحال أن ما سماه البعض “سعي كل دولة من دول المنطقة الى التماس الخلاص الذاتي” برسم مساراتها الخاصة بعيدة عن الاتحاد، ليس إلا نتيجة لعقود من التعنت والعنجهية ورفض كل مبادرات الإنصات والمصالحة.
ففي الوقت الذي دخلت فيه منطقة شمال إفريقيا في مسار جديد قيد التشكل تسعى فيه القوى العظمى إلى التموقع الاقتصادي والعسكري بها حماية لما تعتبره مصالحها الحيوية، وقد فهمت العديد من دول العالم أن البوصلة ستتجه الى هذه المنطقة باعتبار موقعها الاستراتيجي، مما دفعها إلى أن تبحث بكل براغماتية لنفسها عن موطإ قدم سياسيا واقتصاديا غرب الاطلسي بالنظر الى الفرص الواعدة المفتوحة هناك، فالتقطت بذكاء الإشارات التي أطلقها المغرب وهو يبني نموذجه الاقتصادي بمنظور جديد بعد أن يئس منذ مدة من التعاون المغاربي أفقيا فاتجه الى التعاون الإفريقي عموديا، وقد تجلى ذلك في حزمة الاستثمارات الضخمة التي أطلقها في مناطقه الجنوبية على مستوى البنية التحتية وبإشراك فعلي لسكان المنطقة في إطار الجهوية المتقدمة، ومنها مد الطريق السريع تزنيت الداخلة الذي يربط أوروبا بإفريقيا على مسافة تزيد عن الف كلم ، وإطلاق مشروع ميناء الداخلة الاطلسي الذي يتوقع أن يكون أكبر ميناء إفريقي على المحيط الاطلسي ومشاريع الطاقات المتجددة ومنصات اللوجستيك المتطورة ، ثم فتح الشريان الاقتصادي تجاه إفريقيا من خلال التحرير الذكي لمعبر الكركارات وفتحه أمام التجارة الدولية وقد حاز قراره هذا دعم وتفهم العديد من دول العالم.
ووعيا منها بأهمية هذه الدينامية، وإيمانًا منها بجدية ومصداقية مواقف المغرب من قضية وحدته الترابية التي يدافع عنها في المحافل الدولية وأثرها في استقرار المنطقة، سارعت هذه الدول الى فتح قنصلياتها في جنوب المملكة المغربية بطابع سياسي واقتصادي حتى يكون لها حضور في كل هذه المشاريع التنموية الكبرى وتطلق من هناك منصات للتعاون مع إفريقيا متجاوزة بذلك الارتهان للحسابات الإقليمية التقليدية ، ولترسم آفاقا جديدة لعلاقاتها الدولية في ظل تكتلات توجد قيد التشكل، وقد صبت هذه المبادرات في خدمة الوحدة الترابية للمغرب الذي ضحى أبناؤه على مدى نصف قرن لطرد المستعمر وتنمية المنطقة باعتبارها جزءا لا يتحزأ من تراب الوطن ، كما كشفت عن النجاحات المتتالية للدبلوماسية المغربية التي يقودها جلالة الملك والتي انتقلت من التركيز على حق المغرب في حماية وحدته الترابية، الى تبني منظور جديد يركز على إبراز الطبيعة الاستراتيجية لهذه المنطقة الحيوية على المستوى الدولي باعتبارها شريانا اقتصاديا يربط بين قارتين ينبغي أن يكون آمنا ومستقرا.
في ظل هذه التحولات الكبرى والمتسارعة، وعوض أن تحسن دول المنطقة قراءة التاريخ والسياق كما فعلت دول بعيدة عنا بعشرات الالاف من الكيلومترات، وذلك استجابة لرغبات شعوبها في التكامل والاندماج ، وصيانة خياراتها ومبادئها الثابتة تجاه القضايا الوطنية والقومية والتي عبرت عنها هذه الشعوب على مر التاريخ وقدمت من أجلها تضحيات مشتركة، وعوض أن تتكتل للدفاع عن مصالحها الحيوية غير قابلة للتجزيء في عالم لا يؤمن إلا بالتكتلات الدولية والجهوية القوية، وعوض أن تستثمر قواسمها التاريخية والدينية والحضارية للدفع قدما بعلاقاتها الثنائية على كافة الأصعدة لتكون فاعلة في الديناميات السياسية والاقتصادية التي تعرفها المنطقة ،
هاهي اليوم لا تستطيع أن تنظر إلى أبعد من موطإ قدمها لتنخرط مع كل أسف في جوقة التنابز بالالقاب كلما استجد موقف سياسي لهذا الطرف أو ذاك قد تمليه عليه ضرورات ذاتية أو ما يستجد من قواعد على الساحة الدولية بغض النظر عن التقييمات والمواقف المختلفة من هذه المبادرات في حد ذاتها باختلاف منطلقاتها وخلفياتها والتي قيل فيها أكثر من مقال.
وقد أسهم هذا المنظور الضيق قصير المدى في تعميق الهوة والشتات بين دول المنطقة لينتقل اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى الاحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني ، مما ينذر بالقضاء على كل أمل في بناء تكتل سياسي واقتصادي واجتماعي قادر على أن ينخرط بقوة في التفاوض من أجل حماية المنطقة ومصالحها المشتركة من أي اختراق كيف ما كان نوعه حالا واستقبالا، علما بأن هذا التكتل هو وحده الكفيل بتعزيز مواقف هذه البلدان من كل القضايا الوطنية والقومية التي تبنتها وتوافقت حولها على مر التاريخ وفِي نفس الوقت يجعل. منها قوة إقليمية عصية على التجاوز، فهل نأخذ من هذا الدرس عبرة للمستقبل؟

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.