الطويل يكتب: حزب العدالة والتنمية والاختيار الصعب: الوطن أم الأمة.. لمن الأولوية اليوم؟

محمد الطويل

لم يكن مستغربا ما أثاره الإعلان الرئاسي الأمريكي القاضي بالاعتراف بسيادة المملكة المغربية على كامل ترابها الجنوبي، وبما علق به من قرار إعادة ربط الاتصال بالكيان الصهيوني، من تفاوت في التقديرات والتحليلات وإصدار المواقف، سواء تعلق الأمر بالفاعلين الدوليين أو بالفاعلين الوطنيين من أحزاب وتنسيقيات وحركات إسلامية. فالطابع الفجائي لهذا القرار المهم، باغث دولا كبيرة المفروض أن لها علاقة تقليدية بالقضية، وعلى رأسها كل من فرنسا وإسبانيا التين ظلتا حبيستي الموقف الصامت والحذر إزاء مجريات الأمور التي باتت تتسارع أحداثها.

وكما الخارج، فاجأ هذا الإعلان الفاعلين الوطنيين بالنظر للسرعة والسياقات والحيثيات التي حفته، وبالنظر إلى طبيعة القرارات غير المتوقعة التي تضمنته، والتي حملت إيجابيات شتى لصالح القضية الوطنية، كما اصطحبت معها قرارا مؤلما بإعادة فتح مكتب الاتصال المعلوم مع الكيان الصهيوني المزعوم. وهو ما أنشأ مشاعر وتكييفات مختلفة، تكاد تختلط على المرء لوحده، فما بال الهيئات والتجمعات البشرية، لا سيما تلك التي امتزج في وجدان أفرادها ومداركهم حب الوطن بحب فلسطين.

اليوم نحن أمام مفارقات شتى، تكاد تكون مفرِّقات، وجب معالجتها بكثير من الاحتياط التصورّي والحذر المنهجي لتفكيك عناصرها وفرز تداخلاتها وتعالقاتها، بالشكل الذي يفضي إلى بناء موقف ينسجم مع حرص المغرب على وحدته، وموقعه في مسار الدفاع الثابت والمستمر على نضال أهلنا في فلسطين.

سنحاول من خلال هذه المقالة أن نقوم بتحرير الكلام في أصل القضية، ثم تحليل وتقدير موقف العدالة والتنمية من رزمة القرارات المتخذة، لا سيما وأنه حزب ارتبط تاريخه بالنضال من أجل استقلال الوطن، كما مساندة قضايا الأمة والدفاع عنها. ولعله الأمر الذي سيساهم في تسليط شيء من الضوء على المعطيات والمنهجية التي حلّ بها الحزب عناصر وتشابك مفردات هذا التمرين الصعب.

أولا: قراءة سريعة في مجريات الأحداث: البواعث والغايات

طبعا ليس خافيا، الكسب الديبلوماسي الكبير الذي حقّقه المغرب بهذا الاعتراف، بحكم أنه اعتراف صادر عن أقوى دول العالم. كما أنه اعتراف من دولة حائزة لصفة العضوية الدائمة في مجلس الأمن والحاملة لصفة المقرر فيما يخص شأن الصحراء. كل هذا، يدفع بالقول، وبالأريحية والطمأنينية اللازمتين، أن المغرب استثمر فرصة دولية لم تتوفر له طيلة تاريخ القضية، ولعله من الصعب توافرها في المستقبل المنظور. وهو ما يتوقع أن يساهم في حلحلة ملف “الصحراء المغربية” الذي ظل عالقا في ردهات منظمة الأمم المتحدة التي عجزت عن حلّه لمدة تجاوزت 45 سنة.

هذه الخطوة النوعية التي أقدم عليها المغرب، بعد سلسلة مواقف وقرارات أخرى ذات طبيعة مبادرة ومبادئة وهجومية، من قبيل استعادة مقعد العضوية في منظمة الاتحاد الافريقي أو تعزيز الحضور القاري للمغرب في إفريقيا أو الاحترافية التي فك بها الجيش المغربي اعتصام الكركرات، كلها مواقف وقرارات ساهمت في تحسين الوضع المغربي المدافع على صحرائه، كما عمق أزمة الأطروحة الانفصالية وعزز من ظروف الانعزال الدولي والإقليمي للقائمين عليها. وليس أدلّ على ذلك العدد الكبير للدول التي سحبت أو علّقت اعترافها بجمهورية الوهم، أو توالي مسلسل إنشاء الدول الصديقة والشقيقة لقنصلياتها بمدينتي العيون أو الداخلة، والتي كان أحد مشمولات القرار الأمريكي الأخير، والذي أكد نية الولايات المتحدة إحداث قنصلية خاصة بالداخلة تُعنى بالتنمية الاقتصادية وبالشأن الاستثماري بالمنطقة.

بدورها، الولايات المتحدة الأمريكية حققت مكاسب مهمة وراء هذا الإعلان، وهي مكاسب ارتبط بعضها بنجاحها في رعاية مصالح حليفها الاستراتيجي والمتمثل في دولة الكيان الصهيوني من خلال العمل على فك العزلة  المضروبة عليه إقليميا. وهو المشروع الذي ترعاه أمريكا لأسباب عديدة ليس هنا مجال للاستطالة فيها، بعضها مرتبط بما هو إيديولوجي سواء تعلق بالمشروع الصهيوني أو تعلق بالحركة الإنجيلية، أو تعلق بمعطيات ذات علاقة بالهيمنة الغربية ومشروعها الإمبريالي الآخذ في تنزيل برامجه وسياساته من أجل استغلال ثروات دول المنطقة العربية ونهب مقدرات الأمة والتحكم في قراراتها.

ثم، وهذا مهم، استدماج المغرب في استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة التمدّد الصيني بالمنطقة، والذي بات يشكل خطرا حقيقيا على المصالح الامريكية بالمنطقة. ويذكر صديقي فؤاد الفرحاوي، وهو باحث متخصص في الشأن الدولي، أن أمريكا رصدت تحركا صينيا مهما في ربط علاقات تجارية واقتصادية كبرى مع العديد من الدول في مناطق النفوذ الغربي، بل وبناء مجموعة من الموانئ الكبرى بحيفا واليونان والجزائر، وهي الموانئ التي لم يتم تأطيرها برؤية اقتصادية فقط، ولكن تم تأطيرها برؤية عسكرية واستراتيجية كذلك.

المغرب، على ما يبدو، واع بمجريات هذا التنافس المحموم على إفريقيا وعلى المنطقة العربية وعلى حوض الأبيض المتوسط، ويعمد إلى بناء علاقات متوازنة بين مختلف أطرافه، سواء التقليديون (الولايات المتحدة-فرنسا-إسبانيا) أو القوى الجديدة (الصين -روسيا -بريطانيا). ويحاول أن يستغل كل معطيات هذا الواقع الدولي المتداخلة استراتيجيات الفاعلين فيه من أجل حل أزمته العميقة في جنوبه.

ثانيا: موقع العدالة والتنمية من مجريات الأحداث: أسباب الحرج

شأنه شأن أي حزب ارتبط جزء مهم من تاريخه بالنضال من أجل تحرير الوطن من الاستعمار وضمان استقلاله ووحدته (لاسيما مع رافده الأول المتمثل في الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية بزعامة رئيسه المؤسس د. الخطيب)، كما ارتبط جزء من تاريخه السياسي كذاك بالدفاع عن مختلف قضايا الأمة وفي العمق منها قضية فلسطين ومناهضة المشروع الصهيوني المغروس في قلب الأمة العربية/الإسلامية (لاسيما مع رافده الثاني حركة التوحيد والإصلاح). هذا التداخل بين الرافدين المشكلين للهوية القاعدية لأبناء وبنات حزب العدالة والتنمية، كان وإلا سيحدث تفاوتا في التقدير واختلالا في بناء الموقف السياسي المناسب كلما حل تعارض أو تقابل بين أولوية الوطن بإكراهاته وطموحاته وأولوية الأمة وقضاياها الكبرى.

وللحقيقة، فإن المكونات الحزبية التي سارعت إلى مباركة التواصل المغربي الأمريكي بشأن الصحراء، لم يزعجها كثيرا قرار تنشيط العلاقات مع دولة الكيان الصهيوني بسبب وضوح سلم الأولويات لديها. فالأولوية بالنسبة لها للشأن الوطني (فالضرورات بالنسبة لها تبيح المحذورات)، كما أن الواجب الوطني أولى من غيره (وهو ما مثله شعار تداوله البعض: تازة قبل غزة). لذلك، تجد أغلب الأحزاب السياسية قد دعمت القرار وساندته دون تحفظ أو حرج، في حين أنها تعاطت مع الموضوع الفلسطيني تعاطيا سريعا وذا طابع إنشائي في معظمه.

في حين جرت عادة المكونين الحركي الإسلامي والقومي العربي على تغليب كفّة التحليل وبناء المواقف لصالح الأمة (عربية كانت أو إسلامية) واستحقاقات الانتماء إليها، مع الاجتهاد على تسكين قضايا الوطن ضمن سلم أولويات تعلوه الأمة وأمانات الانتماء إليها.

لذلك، نجد مثلا، أن هناك بعض الحركات الإسلامية الوطنية من التزمت الصمت اتجاه مستجدات الواقع في الصحراء المغربية والذي بات مفتوحا على مواجهة عسكرية، في حين أنها عجلت باستصدار مواقف الإدانة والاستنكار جراء القرار بإعادة فتح مكتب للاتصال مع دولة الاحتلال الصهيوني. وهو قريب من نفس التوجه الذي انخرط فيه قادة الفكر والرأي من الإسلاميين والقوميين في العالمين العربي والإسلامي، والذين يركزون على مناهضة التطبيع ومقاومة الصهيونية العالمية، في حين أنهم إما يلتزمون الصمت اتجاه قضية وحدة المغرب أو يعالجونها معالجات عاجلة ذات طبيعة إنشائية لإبراء الذمة ليس أكثر.

على أي، الحرج السياسي الذي يتخبطه حزب العدالة والتنمية، لا سيما وأن العديد من قواعده ومناضليه الذي تشكلت هوياتهم وقناعاتهم السياسية واختلطت مساراتهم النضالية بقضية فلسطين. فهذا الحرج، سببه كما قلت هذا الحضور المكثف لقضيتين أساسيتين، درجت أدبيات الحزب على وضعهما في نفس المرتبة: مركزية قضية الوحدة الوطنية ومركزية قضية النضال من أجل تحرير فلسطين.

ولن أكون مغاليا إن قلت أن هذا الحرج نفسه قد عبّرا عنه كلا بلاغي الديوان الملكي، الذي ما فتئ بعد الاتصال الهاتفي برئيس الولايات المتحدة أو رئيس السلطة الفلسطينية أن يعبر عن سعادته بالقرارات المتخذة من دون أن يعني ذلك أي مسّ بجوهر الموقف المغربي، الثابت والمبدئي، في دعم نضالات الفلسطينيين من أجل نيل حقوقهم التاريخية.

كما انه من الظاهر أن أسباب الحرج الذي بات يعانيه حزب العدالة والتنمية من هذا الموضوع الصعب والإشكالي راجع إلى أنه يشكل بؤرة تقاطع أربعة أبعاد أساسية:

أولا: هو حزب نشأ من رحم الشعب ويعبر عضويا وسياسيا على حساسية مجتمعية واسعة تركز على أبعاد الهوية والانتماء والتحيز للذات الحضارية العربية الإسلامية. طبعا، كون حزب العدالة والتنمية امتداد لمجتمع يدفعه إلى تبني خطاب يميل في أغلبه إلى لغة المثل ومنطق المبادئ أكثر؛

ثانيا، هو حزب اليوم يشغل منصبا مهما في هرم الدولة، سواء من خلال رئاسة الحكومة أو قيادة الأغلبية الحكومية أو البرلمانية أو تسييره لأغلب الجماعات الترابية، كل ذلك يجعله مدفوعا إلى تبني خطاب قائم على تقدير المصالح والطيبات وموازنتها بالمفاسد والإكراهات عند كل تعارض بينها من خلال تقليب النظر الترجيحي فيها. وهكذا هي لغة الدول ومنطق الحكومات في تدبير شؤون الناس؛

ثالثا، أنه جزء أصيل من المكونات الحزبية الوطنية التي نشأت ضمن منطق الدولة القطرية الذي لا سقف له سوى الوطن، لا شيء آخر فوقه أو يعلوه، وأن الانتماء هو بالأساس انتماء الى الوطن. فالوطن القطري بات في التداول السياسي الراهن هو وحدة التحليل ومنطلق الفعل وغايته؛

رابعا، أنه جزء من الحركة الإسلامية بأشواقها الحضارية الكبرى المتوثبة إلى استكمال الاستقلال التاريخي للأمة وبناء نموذج حضاري نهضوي مؤهل للاضطلاع بأمانة الشهود على الذات وعلى الغير. وهو النموذج التحليل الذي يرتكز، كما سبق الإشارة إلى ذلك، على مفهوم الأمة وَحَدَة في التحليل ومنطلقا للفعل وغايته؛

الاستفاضة في تفكيك مكوّنات الهوية السياسية لحزب العدالة والتنمية بمختلف أبعادها ومستوياتها، الهدف منه استحضار مقدار العنث والجهد الذي بذله الحزب وهو يقلب النظر في مجريات الأحداث، بل وتعالق بعضها ببعض، بما يصعب معه فرزها وفصلها، وبالتالي اتخاذ قرارات بشأنها مفصولة مفروزة. فإما أن تقبلها هذه القرارات بالجملة والعموم، أو ترفضها بالجملة والعموم. فإن رفضتها كلية كدت أن تسقط ضحية خيانة الوطن، وإن قبلتها كما هي بالكلية كدت أن تسقط ضحية خيانة الأمة.

ثالثا: تقدير موقف العدالة والتنمية: حدود المكسب والخسارة

كما سلفت الإشارة إليه، حاولت قيادة العدالة والتنمية أن تجتهد وسعها في تدبير بناء موقف متوازن ومسؤول إزاء مختلف القضايا والمضامين التي حملها معه الإعلان الرئاسي الأمريكي المفضي إلى اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية الرسمي والفوري والمكتسب لحجيته على الصعيد الدولي على الأقل (لا يهم المغرب إن كان إعلان أو مرسوما فهدا نقاش دستورية وإداري وفقهي أمريكي داخلي).

وقد حاول الحزب وهو يعالج هذه النازلة أن يجمع بين كثير من الأمور التي تفرقت بين الفاعلين الآخرين، فهو حريص في الوفاء بواجب الدفاع عن حوزة البلاد والذود عن حماها معتبرا النضال من أجل تثبت قوائم الوحدتين الوطنية والترابية ليس فقط واجبا وطنيا ولكنه واجب ديني وأمانة إسلامية بالمعنى الحقيقي للكلمة. كما انه اجتهد وسعه في التعبير بالقدر اللازم عن تحفظه من أي خطوة تطبيعية إزاء الكيان الصهيوني المجرم، والذي يعتبر خطرا حقيقيا على جسم الأمة بكل دولها وشعوبها، وأن الأمة لن تستعيد عافيتها إلا بزاوله واندثاره وعودة القدس الشريف إلى حضن الأمتين العربية والإسلامية.

وقد تأطر الموقف السياسي الذي عبّر عنه الحزب في بيانه الأخير بهذه المناسبة بجملة محددات منهجية أساسية درج على إعمالها كلما ألمت به نازلة أو واجه إشكالات صعبة، نذكر منها:

أن المجال السياسي هو مجال تختلط فيها المصالح بالمفاسد، بل تتلبس المفاسد بعضها ببعض أو تتقاطع المصالح بعضها مع بعض، لذلك وجب على العقل السياسي أن يستفرغ وسعه في تقدير حجم المصالح وحجم المفاسد المحصلتين. والسياسي الناجح ليس فقط من يعلم تمييز المصالح عن المفاسد، ولكنه من يعلم أي المصلحتين أصلح وأي المفسدتين أفسد. والحزب اجتهد في التمييز بين مصلحة تحقيق مكسب للوطن وإن اقتضى ذلك ما اقتضاه من إعادة فتح مكتب اتصال لدولة الكيان “الإزرائيلي”، الكل بات يعلم شروط وحيثيات وملابسات فتحه؛

أننا بصدد نازلة مشتملة على رزمة من القرارات التي تهم الشأن الوطني المتعلق بقضية سيادة المغرب على الصحراء، بجوار الشأن القومي والإسلامي والمتعلق بالموقف الثابت للمغاربة من قضية فلسطين ورفضهم التطبيع. فكان لزاما تحرير الموقف بسبب التعارض الذي حصل بقبول إحداها، وإن أدى ذلك إلى تضييع الأخرى لزاما. والحزب في هذا السياق قبل أن يقدم أولوية الوطن على غيره من الأولويات بالنظر إلى الحيثيات التي تلف الموضوع.

أن حزب العدالة والتنمية هو جزء من النسق السياسي الوطني ويشغل مواقع متقدمة في مؤسسات الدولة. وأن تدبير شؤون الدولة يتم وفق توزيع للسلط بناء على الهندسة الدستورية المعتمدة، والتي وافق الحزب على الاشتغال على أساساها. ومفاد الأمر أن، هذا الدستور الذي نفخر جميعنا بطابعه المتقدم، يسند صلاحيات تدبير الشأن الخارجي والسيادي إلى ملك البلاد، وذلك وفق التقديرات والترجيحات التي يراها الملك، والتي قد يخفى بعضها عن أغلب الفاعلين بالنظر إلى طابعها السري والسيادي لا سيما في هذا السياق الصعب الذي يتربص فيه الأعداء بالوطن؛

وإلى جانب هذا المحددات المنهجية، استعان حزب العدالة والتنمية بجملة تقييمات للحظة الوطنية والدولية شجعته أكثر على اتخاذ القرار الذي اتخذه، يمكن بسط أهمها في:

أن المغرب كان في حاجة ماسة إلى الخطوة الأمريكية التي تعترف بسيادته على كامل ترابه بالصحراء، وهي الخطوة التي ما كان لها أن تتحقق، وقد كان سيكون من العته الاستراتيجي تفويتها. فاعتراف أمريكا بمغربية الصحراء سيشجع غيرها من الدول على الإقدام على مثل هذه الخطوات. وهو ما سيدفع إلى تجويد أداء ديبلوماسيتنا الوطنية ومرافعتها على الحق التاريخي والشرعي للمغرب في أقاليمه الجنوبية؛

مراعاة إكراهات الدولة في تحسين ظروف الحضور المغربي في الصحراء، لا سيما بعد تملص الجبهة الانفصالية من الاتفاقات العسكرية بعد تدخل الكركرات، واليوم الجبهة وصلت البيان العسكري رقم 35 معلنة الحرب على المغرب. بل إن المتتبع لإعلام الدولة الجار والحياة السياسية هناك يشهد حالة من التعبئة غير المسبوقة، بل والمجنونة، والتي تم فيها باستغلال منابر الجمعة للتحريض على المغرب والمغاربة باعتبار أن ما أقدم عليه المغرب من خطوات تحمل تهديدات واضحة ومباشرة للأمن القومي الجزائري. والمغرب، اليوم، معني بتحسين الشروط الاستراتيجية الكافية والكفيلة بالدفاع عن حوزة البلاد، وعدم تكرار الأمس القريب سنوات الرجفة حيث كان المغرب يعاني الأمرين في البحث عن السلاح النوعي، ثم رفع الاشتراطات والتحفظات التي كانت تفرضها عليه الدول المصدرة بعدم استعماله في المناطق المتنازع عليها؛

أن مقارنة واقعنا بواقع بعض الحركات الإسلامية الوطنية أو الأحزاب التي تنتمي إلى نفس النسق الفكري والثقافي للعدالة والتنمية يجعلنا نعي بأن كثير من هذه الحركات تضطر في بعض الأحيان الى اتخاذ قرارات مؤلمة لتحقيق مصالح أكبر. ويكفي في هذا الاتجاه الاستشهاد الذي أقدمت عليه حركة المقاومة الإسلامية حماس، وهي من بين أبرز حركات المقاومة في وثيقتها الصادرة سنة 2017 بعنوان “وثيقة لمبادئ والسياسات العامة” في بندها 20 والتي تقول فيه الحركة بالنص: ” لا تنازل عن أي جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال. وترفض حماس أي بديل عن تحرير فلسطين تحريرا كاملا من نهرها إلى بحرها. ومن ذلك -وبما لا يعني إطلاقا الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أي من الحقوق الفلسطينية- فإن حماس تعتبر إن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من جزيران/يونيو 1967م، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة”. فإذا كانت حماس، بموقعها الريادي في مسار المقاومة ومواجهة المشروع الصهيوني، في بعض الأحيان تقبل بصيغ هي أدنى من مطلب تحرير الأرض من النهر إلى البحر بسبب تفضيلها للصيغة التوافقية الوطنية المشتركة مع باقي الفصائل الفلسطينية، بل وتقبل بمبدأ المشاركة الانتخابية على أرضية اتفاقية أوسلو رغم رفضها لهذه الاتفاقية. لا نورد هذا الكلام لتبرير هرولة المهرولين نحو التطبيع والإذعان للمشروع الصهيوني، ولكن لإثارة الانتباه إلى أن اللحظات التاريخية بإكراهاتها تضطر الحركات والأحزاب والدول بالقبول على مضض ببعض التراجع إلى الوراء لتحقيق قفزات إلى الأمام. وإذا كانت حماس تهتم للتوافق الوطني، فهل هذا لا يعني أن يهتم العدالة والتنمية، وهو المساند المبدئي والداعم المستمر لقضية فلسطين، بمسألته الوطنية الحاسمة والمصيرية، وذلك على أرضية القناعة بأن مغربا قويا موحدا يملك سيادية قراراه الوطني والدولي خير لفلسطين ولكل قضايا الامة، من مغرب ضعيف مجزئ مثخن بجروح حروب ونزاعات عسكرية لا أول لها ولا آخر.

التأكيد على أن الأمة تواجه خطرين لهما نفس الثقل التاريخي، خطر التجزئة الآخذ في تشتيت الأمة وتفكيك أواصر وحدتها وتمزيق كياناتها إلى دويلات صغيرة لا حول ولا قوة لها، وخطر التطبيع القائم على تثبيت الكيان الصهيوني بمشروعه الإحلالي الذي يستهدف الأمة العربية/الإسلامية. فالحزب اختار أن يواجه خطر التجزئة بما هو خطر قريب وحال وعاجل، وإن اقتضى الظرف غض الطرف عن مجموع الأخطار التي يمثلها الخطر الصهيوني على جسم الأمة.

على سبيل الختم:

اليوم، والمغرب قد أقدم على هذه الخطوة، بمكاسبها وخساراتها.. مصالحها ومفاسدها، معني بجملة أمور:

الإسراع بتحصين القرار الأمريكي الأخير الذي يهم قضية الوحدة الترابية، ومدافعة اللوبيات الأمريكية التي تعمل ليل صباح من أجل التمهيد لتراجع الإدارة الأمريكية الجديدة عن القرار والالتزام بمبدأ مركزية هيئة الأمم المتحدة. ولعل شرط ذلك التسريع بتبادل الخطابات والمراسلات الرسمية من أجل تفعيل الإقرار بسيادة المغرب على الصحراء واستدماج تراب الأقاليم الجنوبية ضمن اتفاقية التبادل الحر وبرامج الألفية ومختلف التعاون الديبلوماسي والاقتصادي والاستراتيجي؛

تأطير الفاعلين بالأفق الذي وضعه بلاغ الديوان الملكي دون مجاوزته إلى مستويات أخرى، وهنا ممكن لحزب العدالة والتنمية كما مختلف القوى الوطنية، أن يعملا على الحد من السرعة اتجاه إقبال البعض على الكيان، والاكتفاء بالأبعاد التي فاوض عليها القصر الملكي؛

الإيمان اليوم، بأن المعركة ضد المشروع الصهيوني هي معركة وعي وممارسة يومية في وسط المجتمع الذي بإمكانه محاصرة دوائر التطبيع. فإن كان متفهما الإكراهات التي تشتغل فيها الدولة، فإن للمجتمع متاحات ومساحات يمكن خلالها ممارسة دعمه للقضية الفلسطينية كفعل يومي وممارسة مستمرة. وحزب العدالة والتنمية، مطلوب اليوم أن يكثف من مجهودات من أجل تشكيل وعي علمي وإدراك تاريخي بالقضية في تشابكاتها الوطنية والقومية والحضارية، بعيدا على اللغات العاطفية والعامة والانطباعية، التي لم تعد تسعف الأمة ولا الدولة ولا الأحزاب ولا الفاعلين ولا المناضلين اليوم.

والله أعلى وأعلم

 

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.