آمنة ماء العينين تكتب: المناصفة: هل تنصف المرأة؟

  منذ دسترته، أصبح مفهوم المناصفة مفهوما رائجا في الأوساط السياسية والإعلامية، وهو مفهوم لم يكتب له أن يفلت من النمطية والسطحية التي ما فتئت تخترق مجالنا التداولي، حيث تلاك الكثير من المفاهيم من طرف الجميع، وفي سياقات ملتبسة تجعلك تتساءل أكثر من مرة عن المعنى الذي حمله المفهوم لحظة نحته، وعن المعاني المختلفة التي يتلبسها أو تتلبسه في استدعاءاته المتعددة.

إن طرح السؤال عن المناصفة وعلاقتها بإنصاف المرأة، يعتبر في حد ذاته مغامرة ما دام المفهوم قد أقحم في مجال “المقدس الجديد”، مما يجعل كل محاولة قراءة له خارج نطاق الاحتفائية والانتشاء، تمترسا في معسكر المناوئين لحقوق المرأة والملتفين على مكتسباتها.

ومع ذلك يتطلب الأمر محاولة تفسيرية ما دمنا بصدد مقتضى دستوري جديد مفتوح على  محاولة الفهم والأجرأة، خاصة وأنه ورد في سياق التمكين الحقوقي للمرأة على قاعدة المساواة مع الرجل في الحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها.

علما أن المناصفة في النسخة العربية للنص الدستوري تم اعتبارها “مبدأ” في حين وردت في النسخة الفرنسية مفهوما مجردا من صفة “المبدأ”، وإلى حين الحسم في اللغة التي كتبت بها النسخة الأصلية من الوثيقة الدستورية، واللغة التي ترجمت إليها لاحقا، يحق لنا أن نتساءل إن كانت المناصفة مبدأ بالمعنى القيمي الذي يضفى على المبادئ التي تسعى في النهاية إلى إقرار اعتباره ذو أساس أخلاقي، من قبيل الإنصاف والكرامة والحرية والمساواة؟ إن المناصفة في جوهرها ليست مبدأ وإنما هي آلية كمية نحقق من خلالها تواجدا عدديا متعادلا على أساس الجنس، ليس فقط في التمثيلية السياسية، بل في مختلف مواقع المسؤولية والقرار في الحياة العامة.

ولا شك أن الباعث على المطالبة بالسعي إلى إقرارها يأتي نتيجة تشخيص واقع يشي بكثير من الحيف والإجحاف والتمييز الذي لحق المرأة، فأفضى إلى حضور لا يعبر عن تناسب حقيقي مع المجهود التنموي الكبير الذي تبذله من مختلف مواقع المسؤولية التي تتحملها. هناك إذن عقلية اجتماعية وثقافية تنتج التمييز ضد المرأة. غير أن الاكتفاء بإجراءات كمية تضمن لها حضورا مساويا للرجل في المناصب من خلال إقرار تشريعات تفرض محاصصة معينة، لا يمكن أن يشكل حلا وحيدا لمعاناة النساء من ممارسات اللاتقدير واللاعتبار للكينونة الانسانية الكاملة التي تمثلها وللأهلية والنضج الإنساني الذي يجعلها كائنا راشدا ومسهما فعليا في مسيرة البناء البشري.

ليس المطلوب اليوم جعل المناصفة معركة متمركزة حول المرأة لكونها امرأة، أو لأن جنسها الطبيعي وحده يمكن أن يشكل امتيازا يؤهلها لبلوغ مراكز معينة دون استحضار معايير أخرى من خلال إجراءات تفرض بقوة القانون. وإنما المطلوب اليوم، العمل على معاودة صياغة وعي مجتمعي أنتج التمييز والتهميش والإقصاء في حق المرأة، في اتجاه بلورة وعي بديل يفسح المجال كاملا أمام مقدرات المرأة وكفاءاتها واستحقاقها مع استحضار خصوصياتها. عندها ستتمتع بحقوقها كاملة في تنافس شريف مع من يترشح معها لبلوغ مراكز القرار من جنسها أو من جنس شريكها الرجل.

لقد اعتمد المغرب قبلا إجراءات للتمييز الايجابي لتشجيع بلوغ المرأة مواقع القرار السياسي مراعاة لاكراهات الوضع القائم الذي حال تاريخيا دون هذا البلوغ، وتمكنت هذه الاجراءات الانتقالية في جوهرها من تحقيق تقدم ملحوظ على هذا المستوى، وهو أمر إيجابي لا ينازع فيه أحد. غير أن قراءة نقدية متفحصة للواقع، تفضي إلى خلاصة واضحة مفادها أن التطور الحاصل في التمثيلية السياسية للمرأة في بعض المؤسسات نتيجة الكوطا المعتمدة، لا يوازيه عمل جدي على مستوى تغيير بنية الوعي المنتج للإقصاء والتهميش.

فبمجرد ما تغيب الكوطا كإجراء قانوني قهري، تغيب معها تمثيلية المرأة الطوعية التي يمكن أن تنم عن حدوث تقدم ثقافي واجتماعي، وأمثلة ذلك تكمن في الحضور الباهت للمرأة في مجلس المستشارين وفي مجالس الجهات والعمالات والأقاليم والغرف المهنية، بل وفي الحكومة نفسها مما يدل على أن البنية الحزبية المغربية لا تزال ثابتة في مجملها على مستوى تمثلها للكفاءة النسائية،  مما ينعكس أيضا على نسبة ترشيح النساء في اللوائح المحلية. وبذلك فالسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: ماذا لو أوقفنا اعتماد نظام الكوطا؟ ما قدر الاختراق الذي سنرصد تحقيقه على مستوى الوعي الاجتماعي والحزبي على الخصوص؟ من المشروع أن نتخوف من إمكانية العودة إلى الصفر بمستويات مختلفة.

لذا لابد من اعتبار أن النضال المنتج، لابد وأن يركز على تراكمات سلبية أنتجت وضعا مختلا غير منصف للمرأة. في حين لا تنتج الإجراءات المجتزأة إلا وضعا مفارقاتيا ينبئ بوجود هوة في حاجة إلى مجهود مضاعف لردمها، بين الانضباط للقانون لطابعه القهري الزجري وبين التصرف وفقا للقناعة والمبدئية المناصرة لقضية المرأة العادلة.

بخصوص المناصفة إذن، لن يشرفنا كنساء أن يكون منتهى نضالنا انتزاع مناصب بمقاربة كمية عددية لكوننا نساء ولا شيء غير ذلك، أي أن نحظى بمنصبين من أصل أربعة مناصب، لا لشيء إلا لأننا ولدنا نساء. معركتنا أنبل من ذلك بكثير، إنها التصدي لمنابع التمييز التي تجعل الأب يضحي بتعليم الفتاة لأن مصيرها الزواج، ليتمكن من تعليم الصبي لأنه مسؤول الغد.

معركتنا تكمن في توفير الظروف للفتاة لتتم دراستها حيث تضطر للانقطاع مخافة تعرضها للاعتداء في المسالك الصعبة التي تسلكها صوب المدرسة، معركتنا تكمن في إنهاء مظاهر الجهل والتخلف السائدة داخل أحزاب عتيقة يلجها الأعيان بأميتهم، لكن بمحافظهم المليئة بأموال سرعان ما تتهاوى أمامها شعارات التقدمية ومناصرة المرأة التي تستحيل أمام جهل هؤلاء، مجرد امرأة لا يغامرون بتقديمها في حساباتهم السياسية الصغيرة.

لقد أورد الدستور في الفصل 92  مبادئ ومعايير التعيين في الوظائف والمناصب العليا التي حددها في تكافؤ الفرص والاستحقاق والكفاءة والشفافية، ولم يورد المناصفة ضمنها، غير أن القانون التنظيمي الخاص بالتعيين في هذه الوظائف جعل من المناصفة معيارا إضافيا.

وهو ما ينم عن إرادة في التقدم صوب حضور نسائي اكبر في مختلف المواقع. غير أن المناصفة بهذا المعنى ستظل مجرد آلية كمية لا ترقى إلى مستوى المبدأ الإنساني الأسمى وهو الإنصاف على قاعدة الحقوق والواجبات. ويبقى النضال مستمرا للانتصار للمبادئ، التي من خلالها يبنى الوعي الجديد الذي نريد. 

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.