الإعلام الجديد.. فضاء للحرية أم ديكتاتورية جديدة واستبداد في العالم الرقمي؟

 نحن اليوم في عصر تدوين جديد، لا نتكلم عن العصر الذي ازدهر فيه التأليف وازدهرت فيه مختلف العلوم وظهر فيه التقعيد أي العصر العباسي بل نقصد التدوين بمفهومه الجديد المرتبط بظهور وسائل التواصل الاجتماعي واتساع رقعتها، وهي الوسائل التي أصبحت تصوغ وتطبع بطابعها ثقافتنا، الثقافة بمعناها العام أي الاستجابة الجماعية وأنماط التعبير والعيش والعلاقات والتواصل بين الناس وشعورنا ولا شعورنا الجمعي.

لقد حلت التدوينة الرقمية سواء كانت مكتوبة أو صورة أو كرافيك أو بودكاست…، وغيرها من وسائط التعبير والتواصل الرقمي محل البريد العادي والبريد الإلكتروني…وأصبحت تكتسح تدريجيا مواقع كان يحتلها الكتاب والمحاضرة والصحيفة والندوة والرسالة المكتوبة والبرنامج التلفزي…

 مضى ذلك الزمن الجميل الذي كان الواحد منا ينتظر الأخبار التي يحملها ساعي بريد الحي، أخبار قريب مهاجر أو هناك في المنطقة الأصل التي ينحدر منها الأبوان، أو يزور بطريقة منتظمة مكتبات “حي الحبوس” وينتظر بشوق معارض الكتاب التي تنظم في بعض المواسم الثقافية مثل رمضان ليزود مكتبته بالجديد… نحن على مشارف نهاية زمن كان الجلوس في مقهي أو سفر في قطار أو في انتظار إقلاع طائرة مناسبة للقراءة أو للاطلاع على آخر الأخبار في صحيفة من الصحف… فالكل اليوم والناس مجتمعون يعيش في عالم آخر ويتابع حديث وتدوينات وتعليقات كائنات افتراضية بشرية أو آلية.

مضى ذلك الزمن الذي كانت القنوات الفضائية تمثل ثورة بالمقارنة مع زمن كان جيل سابق ينتظر بداية بث قناة وحيدة ساعات بثها لن تزيد عن خمس ساعات كي يختم بتلاوة عطرة من القرآن وبالسلام الملكي، ويكون أول من يتسمر أمامها الأطفال في انتظار برامج الرسوم المتحركة الممتعة للصغار وحتى للكبار، وزمن المسلسلات التاريخية والمسلسلات المصرية وأفلام الويسترن وهلم جرا…

في ذلك الزمن الماضي، ورغم ما كان يثير الحضور المتزايد في البيوت من قلق حول مخاطر التلفاز على التواصل الإنساني والأسري، فإن صندوق العجائب ذاك كان يتيح مناسبة للفرجة الجماعية، ثم بعد ذلك مناسبة للحكي والاسترجاع الشفوي لما تمت مشاهدته، ناهيك عما كان يسبق بعضها من تقديم أو تعليق وصفي أو نقدي يتطرف للجانب الفني أو للرسائل التي يتضمنه الفيلم أو المسلسل.

القنوات الفضائية التي اعتبرت ثورة مذهلة في زمن تهافت فيه الناس على اقتناء الأجهزة والصحون اللاقطة، وغزت فيه تلك الصحون الأسطح وشوهت جمالية الواجهات، دخلت هي الأخرى عالم الرقمنة، وأصبحت تتوسل وتلجأ إلى التقنيات التواصلية الرقمية التي فرضت نفسها في وسائط التواصل الاجتماعي.

عصر التدوين الجديد هذا أصبح الكل فيها مرسلا ومنتجا للخبر والمعلومة. فيه أصبحت الصحافة مهنة مشاعة، والجميع فيه ناقلا للأحداث والأخبار أي وكالات أخبار متنقلة، الخبر فيه لم يعد مقدسا والتعليق تجاوز حدود الحرية، والخبر أصبح في كثير من الأحيان كذبة أو إشاعة وظاهرة استحقت اسم الأخبار الزائفة fake news.

اختلط الخبر بالإشاعة ولم تعد هناك حدود بينها، وأصبح النشر أو التدوين انفعالا وليس فعلا، ولم يعد التدوين فعلا واعيا وتفكيرا مسؤولا، وإنما استهواء واستدراج لا يقاومان من أجل الخوض في كل شيء، ونقل وتقاسم دون تبين. أصبح التدوين شهوة وليس كتابة منتجة للمعنى وحفرا يتبين الحقيقة .

في التدوين الجديد و بالمواصفات أعلاه يتضخم الإحساس والوهم بامتلاك الحقيقة، من خلال الوهم بامتلاك قنوات التواصل والقدرة المتوهمة على التأثير في الآخرين .

يتجاوز الأمر ذلك إلى ما هو أخطر، ألا وهو دخول “مدونين” افتراضيين من خلال حسابات وهمية تشتغل بطريقة آلية هي ما أصبح يعرف بــ”الذباب الإلكتروني”، أصبحت لتكنولوجيات التواصل الجديدة ومن خلال ما يسمح به الذكاء الاصطناعي قدرة على التعرف على ميولاتك وأذواقك واتجاهاتك وذلك من خلال جمع معطياتك الشخصية وقدرة على رصد ميولاتك وحركاتك وسكناتك وطريقة تفكيرك المرصودة .

بعد هذا كله: هل أصبحت تكنولوجيا الاتصال والمعلومات خطرا على الإنسان أي على حقيقته ككائن عاقل حر ومسؤول؟ هل انتهى زمن الفكر الحر والذوق الحر وأصبحنا جميعا ضحايا تكنولوجيا الاتصال؟ هل حلت مع هذه التكنولوجيات الغريزة محل العقل والتسيب محل الأخلاق، والحرية غير المنضبطة محل الحرية والكلمة المسؤولة؟ هل تحول الإعلام الجديد من فضاء للحرية إلى ديكتاتورية جديدة وممارسة للاستبداد في العالم الرقمي؟

دون شك فإن حجم الأضرار اللاحقة بالحقيقة والمعرفة والأخلاق والتماسك الاجتماعي كبير فيما يسمى بوسائل “التواصل الاجتماعي، ودون شك فإنه إذا كان القانون هو أحد المداخل لحماية الأفراد والجماعات من الاستهداف لحياتهم الخاصة أو القذف أو الإساءة، فإن القانون لوحده لا يبني معادلة متوازنة بين استعمال هذه الوسائط الجديدة التي تسير في خط تصاعدي وبشكل غير رجعي.

الحل في تعزيز الوعي بالعلاقة الوطيدة بين حرية التعبير الذي تسمح به هذه الوسائط وبين المسؤولية عن الكلمات والتدوينات. التوعية بمخاطر الاستدراج الذي قد نقع فيه خلال التدوين والتفاعل على المنصات الرقمية. الحل في تعزيز الوعي بأن حرية التعبير لا تعني حرية التدمير، الحل في العمل على تعزيز العلاقة بين الحرية والمسؤولية، أي الحرية الواعية وليس بمعنى الاستجابة للدوافع الأولية الغريزية في الإنسان.

 ونحن ندون ما أحوجنا إلى استلهام ثقافتنا الإسلامية التي توجد فيها قواعد ذهبية   تصلح للاعتماد في هذا المجال من قبيل قاعدة الأخلاقية الواردة في قوله تعالى: “إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم”، والقاعدة القائلة: “إن كنت ناقلا فالصحة، وإن كنت مدعيا فالدليل”، والقاعدة المتضمنة في الحديث النبوي الشريف “كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع”، وهو ما يمكن أن نترجمه في مجال التدوين والنشر في وسائل التواصل الاجتماعي: “إن كنت مدونا فالدليل وإن كنت متقاسما فالصحة وكفى بالمرء كذبا أن يتقاسم كل ما سمع”.

وهو ما يطرح تكوينا للناشئة يقوي مناعة في الاستقبال وشبكة من المهارات والقدرات التي تمكن من التمييز بين الحقيقة والوهم، بين الخبر والإشاعة.

وفي هذا العدد من المجلة في حلتها الجديدة نثير عددا من القضايا ذات الصلة بهذه التساؤلات والإشكالات تحت عنوان: الإعلام الجديد.. فضاء للحرية أم ديكتاتورية جديدة واستبداد في العالم الرقمي؟.

افتتاحية العدد 25 من مجلة العدالة والتنمية.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.