بويخف يكتب: شعبُ “القبة الحديدية” .. متى يشد الرحال؟

حسن بويخف

إذا كانت الصهيونية العالمية قد نجحت في اغتصاب أراض فلسطينية، وفي جمع نحو 7 ملايين يهودي عليها اليوم، بالترغيب والترهيب، فإنها فشلت إلى اليوم في توفير أحد أهم عناصر تشكيل دولة حقيقية، وهو توفير أحد أهم شروط بقاء ذلك “الشعب” المصطنع على تلك الأرض المغتصبة. ويتعلق الأمر بالرابطة الوطنية التي تجعل المرء يضحي بنفسه من أجل أرضه ووطنه.

لقد أبدعت الصهونية العالمية إديلوجية دينية لربط يهود العالم بالأراضي الفلسطينية المغتصبة، واليوم بعدما جمعت شتاتهم على أراض مغتصبة، تأكد للقادة الصهانية أن “الشعب” الذي صنعوه، أغلبه ملحد او لا ديني (قرابة 65%)، وأن ما يربطه بـ”الدولة” مصالح مادية لا ترقى إلى مستوى التضحية من أجلها، بأمنه واستقراره وسعادته. 

“فشعب الشتات الصهيوني” ينفرد من بين كل شعوب العالم الحقيقية، بكونه يضل باستمرار على أهبة المغادرة في أية لحظة. فجميع أفراده لا يرون لأنفسهم وأبنائهم مستقبلا في “دولة إسرائيل” بالمفهوم الذي تراه باقي شعوب العالم في أوطانها لأبنائها. فهم يعيشون كل يوم في خوف، سلاحهم الوحيد الذي يحاولون به ملء فراغ رابطة وطنية حقيقية تربطهم بالأرض التي اغتصبوها، هو توفر بيوتهم على مخابئ تحت أرضية،  ومدى صلاحية تاريخ جوازات سفرهم، ومدى فعالية الأمن الذي توفره “القبة الحديدية”.

الصورة السابقة ليست من وحي الخيال، بل هي صورة مختصرة لما كتبه أكثر من مفكر وناقد وكاتب رأي من الإسرائيليين أنفسهم.

“شعب الشتات الصهيوني” لا يمكن أن ينتظر طويلا كي يعيش في أمن واستقرار، فمتدينوه، لا يومنون بالدولة اليهودية ويرونها كفرا، ولادينيوه لم تتبلور ليديهم أية رابطة وطنية تربطهم بتلك الأرض تجعلهم ينتظرون عقودا أخرى ليتحقق لهم “الوطن الآمن المستقر”، وهم يعلمون أن عدالة القضية لا تصنعها المؤامرات. وهم يرون أن قادة “الدولة الصهيونية” لا يومنون بالسلام، ولا يرغبون فيه، ولا يقومون بأي شيء لتحقيقه حتى على أراضي 67، واستمروا في سياسة التوسع الاستيطاني بمآت الآلاف من المستوطنات ليجدوا “لشعب الشتات” وعاءات عقارية تأويهم.  و لا يبدو لهم في الأفق ما يؤشر على قرب انتهاء المقاومة الفلسطينية، فالمرأة الفلسطينية لا تلد إلا المجاهدين، ولا يزيدها التقتيل والتنكيل إلا حبا لمخاض ولادة طفل يولد وبيده حجر، وهي لم تيأس أبدا من طلوع فجر يكون لها فيه وطن مستقل وتستنشق فيه نسيم الحرية.

ورغم كل “الانجازات” التي حققها التحالف الصهيوني الأمريكي بمباركة اوروبية واسعة، على مستوى إضعاف دور الدول الاسلامية والعربية في حل القضية الفلسطينية، ورغم كل أشكال الاختراق التطبيعي، الاقتصادي والثقافي والسياسي، استمرت الشعوب في مد الشعب الفلسطيني بالأمل، فتهب في كل مرة يمس فيها، لتطالب دولها بالقيام بالواجب الديني والأخلاقي والإنساني، في نصرة الشعب الفلسطيني. وفي هذا المستوى أيضا لا يبدو لـ”شعب الشتات” في الأفق ما يمكن أن يطمئنه بقرب خروجه من كابوسه اليومي، فمع كل خطوة تطبيع، ومع كل خطو استيطان، ومع كل رصاصة توجه لصدر طفل فلسطيني أو أمه أو أبيه… تنتفض الشعوب عبر العالم وفي الدول العربية والإسلامية بالخصوص، لتحي الأمل من جديد.

المقاومة الفلسطينية، والشعوب الاسلامية والعربية ومناضلوها الأوفياء، وقوى الضمير الانساني النابض في كل مكان، … كلها عناوين استمرار الكابوس الأمني الذي يعيش على وقعه “شعب الشتات” كل يوم، ولا يرى في الأفق بوادر انفراج أو أمل.

لقد نجحت “دولة شعب الشتات” في تحصين نفسها برا وبحرا، وبنت جيشا قويا، وجدارا أمنيا، وقسمت الاراضي الفلسطينية لإضعاف المقاومة الأرضية، وزرعت العملاء، وفرضت الحصارات، وقتلت عن بعد أكبر القادة الفلسطينين، و … لكنها، ولمدة تزيد عن 15 سنة من اعتماد نظام “القبة الحديدية”، عجزت عن تأمين السماء من أن ترسل قدائف وصواريخ المقاومة على رؤوس “شعب الشتات” !

لقد (وظفت شركات الصناعات العسكرية والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، الحروب على قطاع غزة من أجل تطوير منظومات دفاعية لمواجهة الصواريخ قصيرة المدى والقذائف الصاروخية المضادة للمدرعات، وتحصين الجبهة الداخلية، حيث برزت الحاجة لذلك خلال الحرب على جبهتي لبنان وغزة بعام 2006. وشرعت في تطوير منظومة دفاعية للأجواء الإسرائيلية من الصواريخ والقذائف الصاروخية والطائرات المسيرة. أطلقت تل أبيب على ابتكارها العسكري اسم “القبة الحديدية”، وهو نظام دفاع جوي نشط محمول لاعتراض الصواريخ قصيرة المدى وقذائف الهاون والمركبات الجوية غير المأهولة).

فـ”القبة الحديدية” هي الرهان الاستراتيجي لدولة الصهاينة لتوفير الأمن لـ”شعب الشتات” كي يستمر في الاستيطان، وتستمر هي في التوسع وفي جرائم حرب إبادة الشعب الفلسطيني.  

صواريخ المقاومة ليست لها قيمة عسكرية كبيرة، لكنها “سلاح سيكولوجي” فتاك ضد “شعب الشتات” الذي يموت كل يوم من سماع صفارة إنذار تستعجله إلى المخابئ. وحين يقصف مطار بصاروخ، حتى دون أن يحدث فيه أية أضرار، فهو يعني لشعب الشتات أن الأرض التي اغتصبها قد تتحول إلى قبر عميق، تختنق تحت أنقاضه أنفاسه الأخيرة. وبالنسبة لدولة “إسرائيل” فزعزعة أمن شعبها مرة واحدة أخطر عليها من مقتل آلاف جنودها على جبهة برية. لذلك فتمكن صاروخ واحد من بلوغ هدفه، ولو على أرض خالية، له ضريبة أمنية ثقيلة ومؤلمة، لأنها تفتك بالأمل لذى أفراد “شعب الشتات” في أن يجد له وطنا حقيقيا، فكيف إذا نجح أكثر من صاروخ من اختراق “القبة الحديدية”؟

تلك الصواريخ ذات الأثر النفسي المدمر على “شعب الشتات” لها أيضا ضريبة كبيرة من الناحية الاقتصادية والمالية، فكل صاروخ يخترق “القبة الحديدية” يكون قد أفلت لردة فعل مئات من القدائف والصواريخ المضادة، والتي تكون كلفتها المالية بملايين الدولارات، مقابل صاروخ للمقاومة بمآت الدولارات فقط! لذلك فالنشاط الصاروخي للمقاومة يفتح عند كل نشاط له جرحا ماليا يتسع مع كل قصف، لينزم بملايين الدولارات كل يوم، والعدو الصهيوني، حين لا يحصي ضحايا القصف الصاروخي فهو يحصي الخسائر المالية والاقتصادية التي تكبدها. فـ”القبة الحديدية”، نظام جد مكلف لدولة الصهاينة، وقد واجه انتقادات في هذا الجانب مند أن رصدت له المليارات من الدولارات وبدعم أمريكي جبان، عند تأسيسه وفي كل مراحل تطويره، وهو عند كل نشاط مضاد ينزف بالملايين من الدولارات أيضا.

تلك الصواريخ، حين تضرب استقرار “شعب الشتات” فهي تضرب في مختلف جوانب أمل استمرار الكيان الصهيوني، فتكون لها نتائج كارثية هلى الاقتصاد، وتصيب في المقتل الاستراتيجيات التي تراهن على جلب الاستثمارات الأجنبية، بل وحتى اليهودية، إلى الأراضي المغتصبة، فتنهار مؤشرات البورصات، ويرتعش الاقتصاد عند كل صفارة إنذار!

صواريخ المقاومة التي تخترق الأجواء، سلاح استراتيجي لا تملك “إسرائيل” ضده غير “القبة الحديدية”، التي تؤكد التطورات أنها صدئة، وقد فشلت في مسايرة التطويرات المستمرة التي تجريها المقاومة على أنظمتها الصاروخية. وتم تسجيل أنه ( المرّة الأولى التي تصل فيها الصواريخ الفلسطينيّة إلى تل أبيب منذ 2019).

“شعب الشتات” الذي مات لديه حلم “أرض الميعاد” التي صنعتها الصهيونية، أصبح اليوم يعيش تحت رحمة فعالية “القبة الحديدية”، وهذه الأخيرة تؤكد التطورات المستمرة تمكن صواريخ المقاومة من اختراقها من جديد، وقد تخترقها بشكل أوسع ذات يوم.

“القبة الحديدية” التي فشلت إسرائيل إلى حدود اليوم في توسيع نطاق فعاليتها ليشمل كل السماء التي فوق رأس “شعب الشتات”، تواجه اليوم تحولا استراتيجيا من جانب المقاومة، يتمثل في توفر أكثر من طرف واحد منها على إمكانيات كبيرة للقصف الصاروخي، وتؤكد تقارير عليمة أن “القبة الحديدية” يمكن اختراقها بقوة بقصف مكثف ومستمر.

ونقلت “الجزيرة” عن مجلة ناشونال إنترست (The National Interest) الأميركية أنه (لا يوجد مطلقا نظام دفاع صاروخي تقليدي مهما كان متقدما محصن تماما ضد الضربات الصاروخية المكثفة، بما في ذلك نظام القبة الحديدية الذي تستخدمه إسرائيل للتصدي للصواريخ التي تطلقها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وباقي الفصائل الفلسطينية من قطاع غزة. وأضافت أنه ورغم أن إسرائيل استثمرت مؤخرا في منظومة دفاع جوي تعمل بالليزر تدعى “الشعاع الحديدي” (Iron Beam) وتعد بتعويض نقائص النظام الحالي، فإنه من السابق لأوانه تقييم فعالية المنظومة الجديدة بشكل كامل على ساحة المعركة.)

والخلاصة أنه إذا كانت “إسرائيل” تستهدف الأراضي الفلسطينية بالتوسع والاستيطان، وتراهن على إضعاف المقاومة فكرا وممارسة، وعلى بهوث التضامن الشعبي عبر العالم، وتراهن على أمن “القبة الحديدية” لربط “شعب الشتات” بالأرض المغتصبة لتضمن استمرار كيانها، فإن المقاومة من جانبها تعمل، بالإضافة إلى استدامة قيم المقاومة والتضامن، على زعزعة “أمن القبة الصدئة” وإضعاف قدرة  “شعب الشتات” على الصمود ودفعه إلى الرحيل من أرض قد تشتعل سماؤها فوق رأسه في كل لحظة. وهي معادلة تجد أسسها في الجوانب النفسية والفكرية أكثر مما تجدها في الجوانب التقنية، المالية منها والحربية. أي معادلة: من يتحمل أكثر ولمدة أطول؟ والجواب واضح، فعلى المدى البعيد، فالمعادلة هي لصالح الشعب الفلسطيني، وقد ينتهي “شعب الشتات” بأن يجمع حقائبه ويغادر إلى حيث الأمن الحقيقي والاستقرار الحقيقي، وحينها لن يبق لدولة الكيان سوى جماعة من المرتزقة الذين يغامرون بحياتهم، لا من أجل الأرض أو الوطن ولكن من أجل منافع مادية وامتيازات.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.