كلمة الموقع: في الحاجة إلى عبد الكريم الخطيب

قدرٌ أن يكون لرجال حيواتً وأزمنةُ بحجم يتعدى أعمارهم المحدودة زمانا ومكانا بكثير، ويتخطى إشعاعهم  متاريس النسيان و جبروت الأفول، ليمتدوا في الحضور الى درجة استغراق الزمن كله ماضيا وحاضرا واستقبالا، هؤلاء إنما يحيون حياتهم بالقدر الذي يكونون هم أنفسهم أجوبةَ لأسئلة أحوالهم وأوطانهم، منها يستمدون وجوداً متعاليا على العدِّ بمعايير الزمن، متمرداً على سياجات الأمكنة وحدود المجال. هؤلاء يستعصون على الموت أن تنهي وجودهم أو أن تجثث ذكرهم، هؤلاء هم المنذورون للخلود حقا بلا سعي أو حرص منهم عليه.

وليس هذا المقام متاحا لكل من دب على الأرض وسعى فيها سعيا، إنما هي مدارج سالكة فقط لذوي الخطى الثابتة المسكونة بعزيمة الاقتحام وجمر السؤال، ولأصحاب الأرواح المحلقة بلا قيد ولا أساور، أرواح تأبى الموت على الهامش، وتنذر حياتها لأمتها، جاعلة فصول تلك الحياة سياقات لأسئلة الأوطان، وجاعلة الأبدان والأعمار مطايا لإنتاج الأجوبة النافعة، والنافذة إلى عمق  الإشكال وجحيم السؤال، والدكتور الخطيب من طينة هؤلاء فكل جزء من حياته جواب عن مرحلة من عمر وطنه، وكل سعي أو كسب وإن بدا طبيعيا أو ذاتيا فهو إسهام في الدفع نحو امتلاك اللحظة واستشراف الأفق المعجون بإصرار النضال ويقين الوصول .

كان بالإمكان أن لا يرتبط اسم الراحل لا بمقاومة، ولا أن يُقرن  ذكره بلعلعة الرصاص ولا بنقع العاديات، وهو المزداد في أحضان بيت يُغنيه مُؤنة الارتباط بمسارات الدم و خيار الاستشهاد، ولكن لقدرٍ لا يعلم حكمته إلا مكور الليل والنهار، جعله يكون في طلائع مؤسسي فيالق دحر المعمر وجعلت كسبه في الطب في خدمة سرايا هذا الزحف الذي أشعل الأرض نارا تحت أقدام الفرنسيين.

كان بالإمكان أيضا أن ينصاع  لهيمنة التوجه الغالب بعد الاستقلال وأن يُطبِّع مع نهج التحكم الذي كشر عن أنيابه زهوا و غطرسة،  بعيد خروج المعمر مباشرة، وبدأ في حصد رفاق الخندق المخالفين وتصفية كل الأصوات التي استعصت عن التنميط وآمنت بمغرب متعدد، قابلٍ وقادرٍ على استيعاب تنوعه في إطار وحدة وطنية جامعة وموحِّدة، كان بإمكانه على الأقل أن يستقيل من مشهد يعني فيه الاختلاف الموت بالنيران الصديقة  في جنح الظلام، أو الاختطاف في زيارات الليل الآثمة، أو الجحيم في دور التعذيب غير المجهولة العناوين، كان كل ذلك ممكنا ومريحا في الآن ذاته ولكن الخطيب اختار خندقه في صف الوطن وإلى جنب الأجيال المقبلة، فاعتبر معركته تتخطى وجوده وشخوص زمانه، لتمتد إلى حق الآتين من رحم المستقبل في الظفر بوطن حر متاح للجميع على حد سواء. فهل كان بالإمكان اليوم أن نحيك لأنفسنا سرابيل تقينا جحيم التحكم دون ان يكون الخطيب زينة نسجنا وتاج زينتنا؟؟  ثم أليست معاركنا نحن اليوم بعد اندحار المعمر وتقليم أظافر حلم ووهم الحزب الوحيد، ممتدة مع  مقترفي الوصاية ومعيدي إنتاج التحكم  القديم /الجديد.

إن الخطيب كان جوابا لسؤال التعدد لمغرب ناشئ يتلمس خطوات الانطلاق الأولى، وهو  اليوم جواب دائم على دعوات  الارتداد والنكوص عن مكسب أزهقت من أجله أرواح وقدمت في سبيله تضحيات، سيبقى الخطيب في هذا الصدد عنوان إدانة لكل نزوع للهيمنة والاستفراد برقاب العباد ومصير الوطن، بعد أن أدان كل أشكال التزييف لإرادة المواطنين والتدخل في اختياراتهم. وكان بإمكانه أن ينحني لإرادة تكميم الأفواه و النكوص عن خيار الديمقراطية وهو مثلا يرأس اول مؤسسة تشريعية في تاريخ المغرب، إنه بذلك يبذر سؤالا في تربتنا السياسية المعاصرة القاحلة للأسف، عن إمكان إنتاج قادة  يستطيعون قول لا ، حين لا يكون لها بديل آخر غير الموت ذلا على متن حياة لا تجلب لصاحبها كرامة، ولا تقدم للمستقبل وساكنيه ضمان استلام وطن كامل الهيبة مصان الكرامة٠

كان بالإمكان أيضا أن ينعزل في بناء مجده المادي والاجتماعي بعيدا عن تكاليف الانخراط في قضايا الوطن ومعارك التحرر، كان بالإمكان أن يمر كل الأنين القادم من جحيم الاستئصال و معارك الإبادة والتطهير العرقي، دون أن يحدث في حياة الرجل أثرا، أو بالأصح دون أن تجعل حياته لذلك الأنين موطناً في عمره، وهو الخارج لتوه من معركة التحرر الوطني، وهي الأخت الشقيقة لكل معارك الإنسان ضد عدوان أخيه الإنسان، فقيامه بتنظيم التآزر و الدعم للفلسطينيين والأفغان والبوسنيين كان عنوانا آخر لعمق سؤال الإنسان في حياة الراحل، وإن كان الأمر ليس جديدا عليه حيث واكب حركات التحرر في إفريقيا واحتفظ بعلاقات استثنائية مع أهم رموزها .

وتملك الراحل جرأة عز نظيرها يوم فتح حزبه لطلائع المشاركة السياسية لدى أبناء الحركة الإسلامية، يوم كان يفر المرء بجلده منهم مخافة الاشتباه ودرءً للتضييق، بل إنه اجتاز معهم مرحلة الاستهداف والاستئصال بنفس الصمود الذي اجتاز به مرحلة التحكم بعيد الاستقلال وهو يحارب بإصرار هيمنة الحزب الوحيد، ولم تخفه دعوات الحل التي اقترفها صانعو الدجل السياسي وهم يتنكرون لأنفسهم ومبادئهم طمعا في فتات موائد لئام لحظات النذالة السياسية . فكان رحمة الله عليه درسا قاسيا لكل المنبتين الذين لا ظهرا أبقوا ولا أرضا قطعوا.

تلك سياقات أربع من حياة الراحل تترجم وجودا ممتدا حتى لحظتنا الراهنة، وتعطي لشخص الراحل راهنيةً تجعل حاجة البلد والسياسة له ولبقية القادة من طينته ملحةً ومستعجلةً، في زمن ترامت فيه كائنات على قمرات القيادة لا تملك من مواصفات إنتاج الأنموذج شيئا، وتوغل في اقتراف الرداءة وتعميق الخصام بين السياسة ومرتفقيها بشكل يكرس أدواء السياسة ويعمق جراحها، وينتج العزوف ويديم اللاثقة، وليس بريئا اقتران خطابات المس بشخص الخطيب وغيره من رموز الفعل الوطني، مع خطابات الرداءة التي اقتحمت البرلمان هذه الأيام وأفسدت على المغاربة لحظة دستورية هامة، تتعلق بتقديم رئيس الحكومة بمبادرة منه لحصيلة نصف ولايته الحكومية، وأنتجت إسهالا أزكمت نتانة رائحته أنوف المتتبعين للمشهد السياسي الوطني بالداخل والخارج، وأساءت لصورة المغرب ومؤسساته بشكل فظيع٠

فحين لا تكون الزعامة جوابا عن أسئلة مرحلتها ونتاجا لإكراهات لحظتها، فحتما هي زعامات من ورق ينفذ اعتمادها بمجرد انتهاء صلاحيتها أو باستيفاء الأدوار المطلوب لعبها وفق طلب الطالبين بالرغب أو الرهب، أما زعامات الحقيقة فشموس غير قابلة للانطفاء، وأريجها لا يعرف الذبول، نحتاج دوما إلى وجودهم الرمزي بعد انفراط وجودهم المادي المحدود، تلك هي رسالتنا على أعتاب الذكرى السادسة لرحيل الدكتور عبد الكريم الخطيب عنوانها أن حضور الخطيب والهامات أمثاله بجنبنا مازال ملحا وضروريا. وأملنا إن لا يخطئ أحدنا العنوان فلم يعد هناك متسع للتيه أو للأسئلة الخطأ..

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.