أوريد يرسم خريطة العالم في كتاب عالم بلا معالم (3)

محمد الطالبي

في كتابه الجديد، “عالم بلا معالم”، وضع المفكر المغربي حسن أوريد العالم تحت المجهر، في انسيابية وسلاسة وبِلُغة ترتوي من معين رجل خبر “حرفة” صك الكلمات واللغة الأدبية الرشيقة، ليحمل القراء في 11 فصلا إلى عالم التحولات الكبرى، من خلال قراءات غنية مثقلة بالمعطيات والمعلومات والمرجعيات الفكرية.

الكتاب المتوسط الحجم، وفي 341 صفحة، جاء في سياق تجربة طويلة موسومة بالبحث الفكري والشغف المعرفي والخوض في سرد تفاصيل الأحداث المقرونة بقراءات فكرية ثاقبة وخلفيات نظرية ناظمة، ورؤية استشرافية متوازنة، تجعل أوريد أحد أبرز الكتاب الاستراتيجيين الذين يُعتّد بقراءاتهم حول التحولات الكبرى التي يشهدها العالم.

Pjd.ma وفي قراءة مُتمَعّنّة يحملكم طيلة شهر رمضان لسبر أغوار ما بين دفتي كتاب أوريد، تحولات وتموّجات وقراءات للمشهد الدولي، الولايات المتحدة الامريكية و”الترامبية” الجديدة، الصين القوة العالمية والعدو الإستراتيجي لـ “العم سام”، روسيا الدب التائه بين التنين الصيني والنسر الأمريكي، الاتحاد الأوربي أو “الكآبة الوجودية”، الشرق الأوسط المسرح الدولي للعمليات المعقدة، الكساد الديمقراطي والشّعبوية والأزمة الاقتصادية والهجرة وغيرها من كبريات القضايا في عالم وصفه أوريد بأنه “بلا معالم”.

هوية جديدة

في الفصل الثاني، سلط أوريد، الضوء على ما سماه بـ”ظاهرة ترامب”، فالترامبية ظاهرة بامتياز أطرت مرحلة من المراحل الكبرى في مسارات الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال فكرة جديدة/قديمة مفادها ما قاله ترامب نفسه: “الإتفاق الجيد هو حين تكون أنت الرابح وليس من هو أمامك. تسحق غريمك وتخرج من العملية منتصرا”، إنها الفلسفة الجديدة التي أمسكت مقاليد البيت الأبيض.

وحسب المفكر المغربي، فإن أمريكا في فترة “الترامبية” لم تعد تسعى لأمركة العالم كما كان الأمر بعد سقوط جدار برلين، إنها تريد أن ترجع إلى وضعها الطبيعي (كما سماه الرئيس التشيكي السابق فانسلاف هافيل دولة ككل الدول)، مبينا أنها تريد “أن تدافع عن مصالحها وما تعتبره هويتها، ولا تثقل كاهلها بالمبادئ أو تدفع بالقيم في المنتظم الدولي وفي العلاقات الدولية التي تحكمها شرعة الغاب”.

وتابع قائلا: “نحن أمام تحول غير مسبوق ينافي الاعتقاد السائد من أن ما هو في صالح الولايات المتحدة هو في صالح العالم كما كانت تدفع النظرة الرومانسية مع ويلسون وروزفلت وسعى كلينتون أن يبعثها”، مشيرا في المقابل، إلى أن رؤية “الترامبية” تقوم على أن “ما هو في صالح العالم ليس في صالح أمريكا، وما هو في صالح الولايات المتحدة ليس في صالح العالم بالضرورة”.

وخلص المفكر المغربي، إلى أن الولايات المتحدة لم تعد تعتبر نفسها راعية العالم، ولا حاملة لمشعل ولا مدافعة عن قيم، وإنما تنظر إلى العالم كحلبة سباق في قواعد لم تعد تجري لصالحها وينبغي والحالة هذه تغيير تلك القواعد.

أمريكا أولا

“ترامب ظاهرة أكثر منها نزوة أو شطحات رئيس أهوج كما يبدو ويصور في الإعلام”، إنها الفكرة الجوهرية التي يريد أن يوضحها أوريد في الفصل الثاني، فترامب، حسب المفكر المغربي، هو “الرد على العولمة أو أمركة العالم التي لم تكن لصالح أمريكا من أجل قومية اقتصادية”، إن هذه الظاهرة هي في العمق نتاج المخلفات الأخلاقية لأزمة 2008، فإذا كانت الأزمة الاقتصادية لسنة 1929 أو الكساد العظيم أفضت إلى “الخطة الجديدة وكان لها أثر كبير، فإن أزمة 2008 كانت لها ردة فعل غير أخلاقية، وهذا ما تجسده الترامبية”.

وأضاف أنه من العبث الاعتقاد أن “الترامبية” نزوة أو زيغ، بل هي “توجه يستند إلى مرجعية، وخطاب ينعي الديمقراطية، ويأسى لاستيلاء النخب التقنية على السلطة على حساب الشعب”، مبينا أن هذا الخطاب كان جينيا، وأخذ ينمو مع أزمة سنة 2008 واستهل مع ترامب، وبالخصوص مع منظره ومدير حملته الانتخابية  “ستيف بانون”، حيث نحت ما سمي بـ “القومية الاقتصادية ضد العولمة”.

وشدد المفكر المغربي، على أن الخطاب الذي أسس له “ترامب” تهاوى معه الكثير من الأمريكيين، خطاب يقوم، حسب ما دعا له ترامب، على أن أمريكا “ضحية نصب والمسؤول عن الوضع غير الطبيعي هم حكامها، أو نخبتها التي تتميز بالذكاء والمعرفة”، مؤكدا على أن هذه النخبة “لا تفكر في مصلحة أمريكا والأمريكيين، وإنما في مصالحها الشخصية ولو تعارضت مع مصالح الأمريكيين”.

هذا الوضع، حسب أوريد، جعل المكلفين بالتواصل لدى ترامب يقومون بإرساء ما أسموه بأسس السكة الصحيحة، التي تقوم على محورين، الأول، هو الواقعية المبدئية، والثاني، هو وضع أمريكا في الصدارة، أو أمريكا أولا، مبينا أن المقتضى الأول لم يثر اهتماما كبيرا واعتبر شعارا أكثر من أي شيء آخر، بيد أن المقتضى الثاني أمريكا أولا، هو المحدد للهوية الجديدة لأمريكا كما يراها ترامب.

وعاد أوريد، إلى التاريخ ليخلص إلى أن هذا التوجه ليس جديدا، بل قديم في حلة جديدة، مشيرا إلى أن هذه الاستراتيجية تعود إلى الأربعينيات، حين اندلعت الحرب العالمية الثانية وقامت ما سمي باللجنة الامريكية الأولى المناهضة لدخول الولايات المتحدة للحرب العالمية الثانية، ورفعت أمريكا آنذاك شعار “أمريكا أولا”، وهي الدعوة التي أطلقها “نشطاء من دعاة السلم ومناصري الانعزالية والمتعاطفين مع النازية”.

الشعبوية

أما الشق الثاني من الترامبية، حسب أوريد، فهو “الشعبوية” من خلال التجني على الآخرين: الصين، الهند، دول أمريكا اللاتينية، ثم المهاجرين حيث تعهد بإغلاق الحدود وبناء جدار عازل، وإطلاق النار على من يلقي الحجارة على الأمن من المهاجرين، لقد تبنى ترامب نظرية “هنتغتون” التي تنادي بالتماسك العرقي كأساس لتحقيق تنظيم سياسي منسجم.

وأوضح أوريد أن “خطاب الشعبوية” لدى ترامب جعل الآخر غرضا لانتقاداته، ويختلف هذا الآخر حسب السياق والظرف، فالعدو هو الطبقة النافذة من البلوتوكراسية (حكم الأثرياء)، هو الآخر المهاجر، إنه المسلم أو الإسلامي أو الاسلامي المتطرف، بل إنه كل من يهدد الحضارة الغربية ويريد أن يقلب الموازين.

أما العلاقات الدولية، فذكر أوريد، أن ترامب يربطها بالاقتصاد أولا، باعتباره الحافز الأساسي للدبلوماسية، أي كل ما يخفف العبء المالي عن الولايات المتحدة، أو يفيد مصالحها الاقتصادية ويمنحها مكاسب، مشيرا إلى سحب ترامب القوات الأمريكية من أفغانستان، وتوصله إلى حل مع طالبان، وفرضه على المحميين من طرف أمريكا في دول الخليج وفي الناتو أن يساهموا ماليا مقابل حمايتهم الدبلوماسية المتعددة الأطراف.

وأوضح المفكر المغربي، أن ترامب يرى الصين الخصم أو العدو لأنها تهدد المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للولايات المتحدة، حيث انتقلت من شريك استراتيجي في عهد أوباما، لتتحول مع ترامب إلى عدو استراتيجي، أما روسيا، وباعتبار أن ليس لها قوة ضاربة اقتصاديا أو قوة ناعمة، فلا ينظر اليها، حسب ترامب كـ “عدو بل مجال الالتقاء معها وارد”.

أسس “الترامبية”

وفي نفس السياق، فإن “الترامبية الجديدة” تتأسس على أساس أن العالم مجموعة كونية، ولكن ساحة تتبارى فيها الدول ورجال الأعمال من أجل المصالح بمنطق شرعة الغاب، كما في منظور هوبز، وإنه عالم تحكمه عملية انتقاء طبيعي البقاء فيه للأقوى كما في الدروينية، فمحدد العلاقات الدولية، من هذا المنظور، حسب أوريد، هو “القوة والمصلحة وليس المبادئ”.

إلى ذلك، سجل أوريد، أن أسلوب “ترامب” يعتمد ما تهواه سيكولوجية الجماهير من تعابير عارية، وتعامل فظ، وجمل فجة، مع بعض القفشات، يتماهى مع قادة غير ديمقراطيين، ويضرب قواعد القانون الدولي، كما لا يتورع في البذاءة ولا يروغ لقواعد الدبلوماسية مع الحلفاء كما مع الخصوم، فهو الرجل الذي “يتحلل من أي التزامات دولية”.

اهتزاز القوة الناعمة

أكد أوريد، أن فترة “ترامب” التي تزامنت مع أزمة جائحة كورونا عرفت اهتزاز القوة الناعمة الأمريكية وعودة الحرب الباردة، حيث لم تعد الولايات المتحدة في عهد ترامب تراهن على القوة الناعمة، ولا هي تعتبر نفسها حسب مصطلح مادلين اولبرايت “الأمة الضرورية”، بل صارت تميل للقوة أكثر من التأثير، وبالمصلحة أكثر من المبادئ أو الالتزامات الدولية أو القانون الدولي.

وشرح المفكر المغربي، ما حدث للولايات المتحدة من اهتزازات في عهدة ترامب، حيث انسحبت في الكثير من المنظمات والمؤسسات الدولية، ليتقلص مؤشر القوة الناعمة الى المرتبة الخامسة، بل ان الفكرة الثاوية في عبقرية الولايات المتحدة حول القدح المذيب أو الدولة التي تستوعب كل الاجناس لسوف تهتز مع تحديد الهجرة.

إلى ذلك، أبانت جائحة كورونا، يفيد أوريد، عن قصور المنظومة الصحية الأمريكية بظهور ضحايا في الفئات الهشة والأحياء الفقيرة، مشيرا، في جانب آخر، إلى تزامن الجائحة مع مقتل امريكي اسود من قبل الامن لتصبح أمريكا عرضة للانتقاد بخصوص قضية حقوق الانسان، من طرف الصين وروسيا التي وصفتها بـ “العنصرية الأمريكية”.

وخلص المفكر المغربي، إلى أن ترامب وقبله أوباما يؤشران على حالة قلق يساور أمريكا خوفا من الاضمحلال، فترامب، حسب أوريد، تعبير عن نهاية مرحلة كما قال كسنجر في حوار له لـ” فاينانشال تايمز”: “أعتقد أن ترامب وجه من الوجوه التاريخية التي تظهر بين الفينة والأخرى لترسم نهاية مرحلة وتلزمها التخلي عن مرتكزاتها القديمة، ليس معناه أنه يعي ذلك أو أنه يمثل حلا جيدا بديلا، قد لا يكون إلا حادثة”. (يتبع)

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.