بوكمازي يكتب: هل أجرم قضاة الأسرة طيلة عقدين من تطبيق مدونة الأسرة؟

رضا بوكمازي


 

 

أصدرت منظمة “ماتقيش ولدي” بلاغ تعتبر فيه زواج الفتى والفتاة أقل من ثمانية عشر سنة جريمة، وذلك ردا منها على كلمة الأخ الأمين العام الأستاذ عبد الإله ابن كيران بالمهرجان الخطابي المنظم من قبل حزب العدالة والتنمية بشأن مدونة الأسرة، مستنكرة على الأمين العام وعلى حزب العدالة والتنمية دفاعه على حق فئة من المواطنين والمواطنات في الاختيار واللجوء إلى إنشاء أسرة.
وإن كنت في البداية أجد أن من حق الجمعية التعبير والدفاع عن وجهة نظرها القائمة على عدم صوابية زواج الفتاة والفتى أقل من ثمانية عشر سنة حتى وإن كانت وجهة نظرها غير مؤسسة ولا تجد لها ما يدعمها ويسندها من مختلف المستويات الشرعية والقانونية والاجتماعية والثقافية…، فإن مناط الاستغراب هو اعتبار أن من يقتنع بخلاف ذلك مرتكبا لفعل جرمي.
وبالرجوع إلى الممارسة العملية، ولن أعود إلى مرحلة ما قبل مدونة الأسرة، بل فقط خلال عقدين من الزمن سيتبين أن قضاة الأسرة بالمحاكم المغربية أدنوا بإبرام ما لا يقل عن 500.000 عقد زواج يتعلق بفتاة أو فتى أقل من ثمانية عشر سنة بما يشكل حوالي 12% من مجموع رسوم الزواج (مع الأخذ بعين الاعتبار أن عدد الطلبات تجاوز 800.000 طلب)
وهو ما يفيد حسب ادعاء الجمعية أن قضاة المملكة المكلفين بشؤون الأسرة من خلال إصدارهم لأحكام باسم جلالة الملك وطبقا للقانون قد ارتكبوا أفعال جرمية في حق أكثر من 500.000 ألف مواطنة ومواطن مغربي، فهل هذا يستقيم ويقبله عقل؟
وما يجعل من منطق الجمعية يزداد غرابة كونها لا تعتبر قتل الأجنة فعلا جرميا، رغم أن ذلك محرم شرعا وقانونا، وتدافع عن الحق في الإجهاض، ولا تعتبر أن الممارسة الجنسية بالنسبة للفتاة والفتى أقل من ثمانية عشر سنة يشكل اغتصابا للطفولة ويعتبر فعلا جرميا، بل تدرجه في حرية الاختيار والحق في التصرف في الجسد، فبغض النظر عن المدخل الشرعي والقانوني، فعلى الأقل باعتماد حرية الاختيار، ألا يملك المواطن الراغب في بناء أسرة مستقرة نفس الحقوق التي يملكها من يرغب في ممارسة جنسية خارج مؤسسة الزواج؟
كثيرة هي الأسئلة التي تطرح على من يواجه حق الفتيات والفتيان البالغين مرحلة الرشد والمتوفرة فيهم شروط إنشاء أسرة، والقادرين على تحمل أعبائها وفق تقييم وتقدير قضائي مسؤول، تجعلهم في وضعية تناقض وارتباك لا يمكن بأي حال من الأحوال تبرير مواقفهم المتعارضة.
غير أن موضوع من هذا القبيل لا يناقش بمنطق الانفعال والهجوم والاستنكار، القائم على الارتباط والتبعية لوجهات نظر غربية حتى داخل دولها لم تستطع تطبيقها، بل ينبني على مقاربة الحجة بالحجة والبحث بشكل مسؤول عن معالجة واقع بما يستجيب لظروف ومعطيات مجتمع مغربي له خصوصيته الدينية والثقافية والاجتماعية.
وفي هذا الباب ومساهمة من جديد بشكل هادئ في هذا النقاش أقول وبالله التوفيق أن القضايا والمواضيع التي تستأثر باهتمام المتابعين لتعديل مدونة الأسرة متعددة، إذ إنه ومنذ انطلاق هذا الورش برز في المجتمع نقاش يهم محاور بعينها والمتعلقة بالطلاق والتطليق والارتفاع المهول الذي تسجله محاكم المملكة بهذا الشأن، وكذا موضوع الولاية القانونية للمرأة الحاضنة والاشكاليات المتعلقة بها، وتوثيق الزواج، واقتسام الثروة المكتسبة أثناء الزواج وقضايا أخرى لا يتسع المجال للوقوف عندها. غير أنه وقبل فتح ورش مراجعة مدونة الأسرة بقي موضوع زواج الفتاة والفتى دون سن الأهلية أو ما اصطلح عليه بـ “زواج القاصر”، من بين أكثر المواضيع التي حازت أهمية خاصة، وتصدرت مجال النقاش العمومي بشأن قضايا الزواج.
وبداية وقبل الخوض في هذا الموضوع اتوقف عند استعمال مصطلح “زواج القاصر” والترويج له والذي لا يعد مصطلحا محايدا، على اعتبار أن وصف الفتى والفتاة أقل من ثمانية عشر سنة بكونهما في وضعية قصور، هو في حد ذاته إيحاء بأن الفتى والفتاة دون سن الأهلية القانونية في وضعية قصور أي أنهما غير قادرين على التكليف وتحمل المسؤولية على سبيل الإطلاق لا النسبية، وهذا الأمر لا يجد سنده، لأن مسألة الرشد محدد شرعا ببلوغ الفتى والفتاة سن التكليف، فضلا على أنه حتى على المستوى القانوني يتم ترشيد من هو دون سن الأهلية القانونية للقيام بعدد من الأعمال وعلى سبيل المثال لا الحصر الترشيد لممارسة الأعمال التجارية، فضلا على أن أهلية الزواج لا تتحقق في جميع الحالات بشرط السن، ودليل ذلك أن نسبة الطلاق في الزيجات المبرمة دون سن الأهلية القانونية لم تتجاوز 7 في المئة وهي النسبة المختلفة بشكل كبير على ما هو الأمر عليه في باقي الزيجات.
وينطلق النقاش في موضوع زواج الفتاة والفتى دون سن الأهلية من الحاجة إلى تقييم المادة 20 من مدونة الأسرة التي منحت قاضي الأسرة الاختصاص في الإذن للفتى والفتاة دون سن الأهلية القانونية بإبرام عقد الزواج بمقتضى مقرر معلل يبين فيه المصلحة والأسباب المبررة لذلك، بعد الاستماع لأبوي القاصر أو نائبه الشرعي والاستعانة بخبرة طبية أو إجراء بحث اجتماعي.
ويعد موضوع زواج الفتاة والفتى من بين أكثر المواضيع أهمية في التعديل المرتقب لمدونة الأسرة، اعتبارا للمكانة الهامة التي يحتلها هذا الموضوع لدى فئات واسعة من المجتمع، لاسيما وأنه يتعلق بمدخل أساسي نحو بناء الأسرة القائمة على الزواج الشرعي، وارتباطه بفئة عمرية قد يحاول جزء من المجتمع إبراز عدم قدرتها على تحمل المسؤولية الكاملة في ذلك بناء على عدم وصولها سن الأهلية القانونية.
والنقاش حول الحد الأدنى للزواج ليس وليد اللحظة، بل انطلق مع الانتقال من قانون الأحوال الشخصية إلى مدونة الأسرة والتي كانت من جهة ـأي مدونة الأحوال الشخصيةـ تميز في الحد الأدنى للزواج بين الفتى والفتاة، ومن جهة ثانية تجعله محدد في خمسة عشر سنة بالنسبة للفتاة، بل انطلق بتبني مدونة الأسرة الحد الأدنى للزواج وتحديده في سن الأهلية القانوني المحدد بمقتضى المادة 19 في ثمانية عشر سنة، وجعل الاستثناء في الإذن بالزواج دون سن الأهلية القانونية بيد القضاء.
غير أن التجربة العملية أثبتت أنه وبالرغم من التنصيص على الحد الأدنى لسن الزواج، إلا أن نسب الإقبال على هذا النوع من الزيجات لم تختلف على ما كان عليه الأمر قبل دخول مدونة الأسرة حيز النفاذ، بل قد يتجاوز الأمر ذلك حيث أن نسبة الزيجات المبرمة خلال فترة تطبيق قانون الأحول الشخصية بالنسبة للفتيات بين 15 و18 سنة كانت تشكل حوالي 10 في المئة من مجموع الزيجات المبرمة، في حين بلغ متوسط الأذون الممنوحة خلال فترة تطبيق مدونة الأسرة حوالي 14 في المئة من مجموع الأذون بالزواج. وهو ما يفيد أن التدخل التشريعي الذي تم اللجوء إليه برفع السن الأدنى لزواج الفتاة لم يجب على حاجة مجتمعية تهم إقبال الفتيات بين 15 و18 سنة على الزواج بنفس المعدل وأكثر.
وإذ كان التعامل مع قضايا الأسرة بصفة عامة يحتكم إلى منظومتي قيم مختلفة وحاكمة لمختلف التعديلات المطروحة والتي تحاول إحداها الانتصار إلى الأسرة باعتبارها الخلية الأساس في المجتمع والتي يستوجب الدفاع عنها وإقرار تشريعات تضمن استقرارها والمحافظة عليها، فإن وجهة النظر الثانية تميل إلى الانتصار إلى أولوية الفرد على حساب الأسرة، وتنهل من نظرة غربية قائمة على أولوية الحرية الفردية على باقي التقيدات، وهو ما أفرز وجهتي نظر في التعاطي مع زواج الفتاة والفتى دون سن الأهلية القانونية، الأولى تقول بجعل الأصل هو إعمال السن الأدنى للزواج مع جعل الاستثناء مقيدا عبر منح القضاء اختصاص الإذن بالزواج دون سن الأهلية القانونية في حال توفر الشروط التي يستوجبها الإذن، والثانية تقول بضرورة منع زواج الفتاة والفتى دون سن الأهلية القانونية بغض النظر عن توفر حالات مؤهلة لبناء أسرة وتتوفر فيها كامل الشروط الاجتماعية والصحية والنفسية، بل تتجاوز ذلك إلى القول بضرورة تجريم زواج الفتاة والفتى دون سن الأهلية القانونية.
وهنا يطرح السؤال عن أي الاختيارات أنفع وأصلح للمجتمع المغربي، هل تقييد السن الأدنى للزواج وجعل الاستثناء بيد القضاء؟ أم أن منع وقوع الزيجات أقل من الثامنة عشر سنة وتجريم ذلك هو الأصلح والأصوب للمجتمع؟
ولمحاولة الجواب عن هذا السؤال وجب الانطلاق أولا من طبيعة المجتمع المغربي وكيف ينظر للزواج باعتباره ميثاق ترابط شرعي يهدف إلى التحصين والعفاف، وكيف هي وضعية الإقبال على هذا النوع من الزيجات هل هي من باب الناذر الذي لا إقبال عليه أم أن الأمر يتعلق بفئات واسعة من المجتمع تتقدم بطلبات الإذن للزواج دون سن الثامنة عشر سنة، إذ إنه وبالرجوع إلى مختلف الإحصائيات المقدمة من قبل الجهات القضائية في الموضوع سيتبين أن نسبة الطلبات بشكل سنوي لا تقل عن 15 في المئة (متوسط الطلبات المقدمة منذ دخول مدونة الأسرة إلى غاية سنة 2021) من عدد طلبات الإذن بالزواج المقدمة والتي تبت فيها المحاكم بالقبول بنسب عالية على الأقل إلى حدود سنة 2021، وهي السنة التي وقع فيها تحول في الممارسة القضائية بعدم قبول الطلبات التي يقل سن المخطوبة عن ستة عشر سنة، لينتقل العمل القضائي مطلع السنة الجارية إلى جعل الحد الأدنى في العموم عند السن السابعة عشر.
كما أن تبني اختيار من الاختيارات المطروحة يقتضي النظر إلى التجارب المقارنة، وكيف تفاعلت الأنظمة القانونية المقارنة مع موضوع السن الأدنى للزواج، بغض النظر عن تقارب أو اختلاف المنظومة القيمية الحاكمة ومكانة الأسرة داخل المجتمع موضوع المقارنة، اذ أن الملاحظ بالنسبة لمختلف الدول أنها لم تحدد حد أدنى لسن الزواج، فباستثناء كندا و اسبانيا وإيطاليا التي نصت على أن الحد الأدنى للزواج هو ستة عشر سنة، فإن باقي الأنظمة وإن نصت على سن الزواج فإنها لم تمنع إمكانية إبرام عقود الزواج دون سنة ثمانية عشر سنة شريطة الحصول على اذن قضائي من الجهة المخولة قانونا لذلك بحسب النظام القانوني للدولة المعنية، بما فيها الدول التي اعتمدت الحد الأدنى، وإعمال مبدأ الاستثناء القضائي لا يتعلق بالمجتمعات العربية فقط والتي تعتمد جلها نظام الاستثناء في الحد الأدنى لسن الزواج بل يتعلق بجل الدول الغربية وفي مقدمتها بعض الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، هولندا، الدانمارك، فنلندا، إسبانيا، فرنسا، إيطاليا، بلجيكا،….

ومن هنا يمكن القول أن اختيار المنع التام للإبرام عقود الزواج دون سن الأهلية القانونية بل والقول بضرورة تجريم اللجوء إليه، يبقى اختيارا غريبا عن المجتمع المغربي، لا يراعي طبيعته وبنيته، ونظرته للأسرة وحاجته إليه باعتباره اختيارا طبيعيا في عدد من الأوساط الاجتماعية، وأن اعتماد المنع التام سيؤدي إلى وضعيات اجتماعية مختلة تضطر الدولة والمجتمع بخصوصها إلى البحث عن حلول أخرى قصد حفظ حقوق فئات واسعة لن تنتظر بلوغ السن الأدنى للزواج، وما يؤكد ذلك هو البحث في مآل الحالات التي تم فيها رفض الإذن بالزواج خلال المرحلة السابقة، فضلا على أن اختيار المنع التام يبقى مقترحا غريبا لا تعمل به مختلف الدول والأنظمة القانونية، فباستثناء بريطانيا التي أقدمت على رفع السن الأدنى للزواج إلى ثمانية عشر سنة مطلع العام الجاري وألمانيا وبعض الأنظمة المعدودة على رؤوس الأصابع نجد أن مختلف الأنظمة القانونية تعمل بمبدأ تقييد السن الأدنى للزواج وجعل الاستثناء في تجاوز السن الأدنى بيد جهة قضائية يعهد إليها بمنح الإذن.
وانطلاقا من ذلك هل يمكن القول إن مبدأ التقييد مع جعل الاستثناء بيد القضاء طبقا للمادة 20 من مدونة الأسرة لا يحتاج إلى تعديل وتطوير؟ بطبيعة الحال أثبتت الممارسة العملية عددا من الإشكالات المتعلقة بتطبيق مقتضيات المادة 20 والتي في صلبها عدم قدرة القضاء في جميع الحالات على تشكيل صورة عامة عن وضعية الخاطب أو المخطوبة، والاستماع إلى رغبتها أو رغبته الحقيقية دون قيد أو شرط من وليها أو وليه القانوني، مما يقتضي أن يكون من بين مجالات التعديل ضرورة عقد جلسة استماع لطالب الإذن دون حضور وليه القانوني، فضلا على اشتراط اجتماع البحث الاجتماعي والخبرة الطبية في آن واحد لا الاقتصار على أحدهما، مع إمكانية طرح فارق السن بين الخاطب والمخطوبة، وبما يحقق المصلحة الفضلى للطرفين ويسهم في إنشاء أسرة قوامها المودة والسكينة ويضمن استقرارها واستمرارها وفق الغاية الدستورية التي نص عليها الفصل 32 من الدستور.
وفي الختام إن إعمال الاختيارات التشريعية الضابطة للمجتمع لاسيما في الحالات التي تتعلق بإطار قانوني يهم الأسرة باعتبارها اللبنة الأساس للمجتمع لا يكون محط رغبات فردية قائمة على تبني ما ينسجم مع قناعة أيديولوجية بقدر ما يجب أن يحتكم إلى ما هو أصلح وأنفع للمجتمع ويراعي خصوصيته وهويته ومنظومة قيمه الحاكمة والناظمة.

رضا بوكمازي عضو الأمانة العامة لحزب العجالة والتنمية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.