حيكر يكتب: رقابة البرلمان على العمل الحكومي في ضوء المستجدات التشريعية وإشكاليات الممارسة

رقابة البرلمان على العمل الحكومي في ضوء المستجدات التشريعية وإشكاليات الممارسة

تناول الكلمة في إطار ‹الإحاطة › خلال الجلسات الأسبوعية للأسئلة الشفهية نموذجا.

عبد الصمد حيكر (نائب برلماني وباحث في القانون البرلماني)

تهدف هذه المقالة إلى الوقوف عند الجدل الذي أثاره سلوك مكتب مجلس النواب بشأن طلبات أعضاء المجلس الرامية إلى تناول الكلمة في إطار ‹الإحاطة›، والمتمثل في النظر في موضوعها واتخاذ قرار بشأن إحالتها على الحكومة، حيث ظل رئيس المجموعة النيابية للعدالة والتنمية ومختلف رؤساء فرق المعارضة خاصة، يشتكون، منذ بداية الولاية التشريعية الحادية عشرة، من عدم برمجة تناولهم للكلمة في إطار ما تنص عليه المادة 152 من النظام الداخلي، إما بسبب رفض مكتب المجلس إحالتها أصلا على الحكومة، وإما بسبب عدم تعبير الحكومة عن استعدادها للجواب عنها، مما اعتُبِر –من طرف مكونات المعارضة- إخلالا بمقتضيات النظام الداخلي من جهة، وتضييقا على مبادراتها الرامية إلى مساء لة الحكومة من جهة ثانية.
وإن السبب المباشر في توليف هذه المقالة هو تدخل رئيس المجموعة النيابية للعدالة والتنمية بمجلس النواب، في إطار نقطة نظام، خلال الجلسة الأسبوعية للأسئلة الشفهية المنعقدة يوم الإثنين 9 يناير2023 ، ليحتج على قرار مكتب المجلس المتعلق بطلب تقدمت به المجموعة بتاريخ 20 دجنبر 2022، لتناول الكلمة في إطار الإحاطة في موضوع ‹انهيار المباني في المدن العتيقة….›، حيث قرر المكتب ‹بعد مناقشة هذا الطلب من مختلف جوانبه القانونية والمسطرية تقرر عدم إحالته على الحكومة لعدم استيفائه للضوابط والشروط القانونية الواردة في مقتضيات النظام الداخلي› حيث عبر الدكتور بووانو عن “تفاجئه بكون المكتب الذي اجتماع بتاريخ 3 يناير 2023 ، وحين نظره في طلب تقدم به فريق نيابي، لتناول الكلمة في إطار نفس المادة وحول نفس الموضوع، يوافق على إحالته على الحكومة !!” .
وتهدف هذه المقالة إلى مناقشة هذا الموضوع في ضوء ما تقرره المادة 152 من النظام الداخلي لمجلس النواب وتطبيقاتها، بغية التوصل في النهاية إلى رأي دستوري وقانوني في الموضوع.
أولا: أهم التطورات التشريعية المتعلقة بموضوع تناول الكلمة في إطار ‹الإحاطة› بمجلس النواب:
في البداية، نشير إلى أن موضوع تناول الكلمة في إطار الإحاطة، قد خضع لتطورات تشريعية مهمة على مراحل، أَمْلَتْ بعضَها عددٌ من الإشكالات التي أفرزتها الممارسة العملية، كما تأرجحت القواعد المتعلقة به في النظام الداخلي، بين إقرار القضاء الدستوري بدستوريتها وعدمها .
ويمكننا القول إن تحول استعمال هذه ‹الإحاطة› إلى أداة رقابية إضافية، قد جاء نتيجة للتطورات التشريعية المشار إليها؛ لا سيما مع مراجعة مجلس النواب لنظامه الداخلي سنة 2004 ؛ الذي كرس هذا الأمر، حيث أدخل تعديلا على مضمون المادة ذات الصلة في النظام الداخلي؛ فأصبحت تتيح إمكانية “التحدث في موضوع خاص، بدلا من أمر شخصي خاص بالنائب، وأصبحت القضايا المثارة تشمل جميع المسائل التي تثار عادة في الأسئلة الشفهية” . وهو نفس الأمر الذي كان قد كرسه مجلس المستشارين، في نظامه الداخلي ، حيث نص على أن ‹لرؤساء الفرق عند بداية كل جلسة إحاطة المجلس علما بقضية طارئة في مدة لا تتجاوز ثلاث دقائق، ويجب إخبار الرئيس بهذا الطلب برسالة، ساعةً قبل افتتاح الجلسة› . وهي المقتضيات التي كان قد صرح القضاء الدستوري بدستوريتها.
وهكذا، فقد تكرس تناول الكلمة في إطار الإحاطة، كأداة رقابية إضافية، بالرغم من أنها غير منصوص عليها صراحة في الوثيقة الدستورية؛ وهو التعليل الذي ظل يواجه به القاضي الدستوري المشرعَ البرلماني؛ إذْ ظل يعتبر أن كل وسيلة رقابية لم ينص عليها صراحة في الوثيقة الدستورية موجب لرفضها؛ وكنموذج عن ذلك رفضه إضافة الاستجواب البرلماني كآلية رقابية برلمانية معمول بها في الكثير من البرلمانات إلى الوسائل الرقابية التي أقرها المشرع البرلماني؛ حيث إنه بالرغم من أن هذه التقنية “التي يقترن بمقتضاها الجواب على السؤال الشفوي بتصويت من شأنه موافقة أو معارضة سياسة الحكومة من طرف البرلمانيين، قد سبق أن تم تفعيلها من طرف أعضاء المجلس الوطني الاستشاري سنة 1956؛ عملا بالتوجيهات الملكية ؛ والتي كانت تتضمن تأكيدا على أهميتها، وإعلانا -ضمنيا على عدم الاعتراض عليها ، بل إن التجربة العملية تفيد بأن أعضاء مجلس النواب قد قدموا فعلا، خلال التجربة البرلمانية الأولى (1956- 1963)، عدة استجوابات؛ “نذكر منها الاستجواب المتعلق بسبب عدم منع الحكومة الصحف الاستعمارية، واستجواب عن الزيادة في أثمان السكر، واستجواب آخر عن حوادث الدار البيضاء في مارس 1965… إلخ” ، غير أن الغرفة الدستورية كانت قد منعت، بمقتضى مقررها سنة 1971، وسيلة الاستجواب كتقنية لمساءلة أعضاء الحكومة؛ حيث صرحت بأن ما ورد في الفصل 109 من أن ‹لكل نائب حق استجواب الحكومة حول برامجها وسياستها العامة، وتكون المناقشة في الاستجوابات حسب مقتضيات الفصل 108›، غير مطابق للدستور. وعللت الغرفة الدستورية ذلك، بأن الدستور لا يبيح الاستجوابات، مقتصرا، فيما يخص الوسائل التي تكفل لنواب الأمة معرفة حقائق الأمور ومراقبة السلطة التنفيذية، على الأسئلة (الفصل 55) وملتمس الرقابة (الفصل 74)، ولا يمكن التوسع في نص الدستور الذي حدد بدقة وبكيفية لا تقبل الزيادة علاقات السلط بعضها ببعض ، وهكذا، “أصبحت مراقبة السلطة التنفيذية من طرف النواب تتم فقط عن طريق الأسئلة الشفوية والكتابية وعن طريق ملتمس الرقابة” .
وتأكيدا لنفس المنطق، فإن المجلس الدستوري اعتبر أن مانص عليه النظام الداخلي لمجلس النواب لسنة 2012 في مادته 73 من أنه “يمكن للنائبات والنواب التحدث في موضوع خاص، بعد موافقة الرئيس، في نهاية الجلسة، في مدة لا تزيد عن دقيقتين”، مخالف للدستور، معللا قراره بقوله: “حيث إن هذه المادة تنص على أنه يمكن للنائبات والنواب التحدث في ‹موضوع خاص› بعد موافقة الرئيس، في نهاية الجلسة، في مدة لا تزيد عن دقيقتين.
وحيث إن الدستور أناط بالنواب، باعتبارهم يمثلون الأمة، مهمة التحدث في المواضيع العامة وليس في المواضيع الخاصة، وحدد على سبيل الحصر الأدوات والوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك، في نطاق العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولما كان التحدث في موضوع خاص لا يندرج في هذا النطاق ولا في عداد تلك الوسائل، فإن ما نصت عليه المادة 73 المذكورة مخالف للدستور” . ثم بعد ذلك عمل مجلس النواب، على مراحل، على مراجعة المقتضيات المتعلقة بشروط وكيفيات تناول الكلمة في إطار ‹الإحاطة› في ضوء القواعد التي حددها القاضي الدستوري وهي القواعد التي يمكننا استعراضها كما يلي:
القاعدة الأولى: الحكم بأن تناول أعضاء البرلمان الكلمة في الأمور الخاصة، لا يندرج في عداد الوسائل والأدوات التي أتاحها الدستور للنواب في إطار ممارسة أدوارهم الرقابية، باعتبار أن الدستور قد أناط بهم مهمة التحدث في الأمور العامة وليس الخاصة.
القاعدة الثانية: ضرورة تقيد مكتب المجلس، في وضعه لجدول أعمال الجلسات الأسبوعية للأسئلة الشفهية، بجعل أسئلة أعضاء البرلمان الموجهة للحكومة وإدلاء هذه الأخيرة بأجوبتها، أول ما يتضمنه جدول أعمال هذه الجلسات، وذلك بالنظر إلى أن الدستور نص صراحة على أن تخصص بالأسبقية جلسة أسبوعية لأسئلة أعضاء البرلمان وأجوبة الحكومة.
القاعدة الثالثة: تأكيد مساواة أعضاء البرلمان في مساءلة الحكومة، وليس لرؤساء الفرق ولا لمن ينتدبونهم حقُّ الاستئثار بممارسة تناول الكلمة في إطار ‹الإحاطة›، وحرمان غيرهم؛ سواء كانوا منتسبين إلى فرق أو مجموعات برلمانية أو غير منتسبين؛ وذلك باعتبار أن حق مراقبة الحكومة حق مكفول لأعضاء البرلمان بشكل شخصي، وهم متكافئون في ذلك، فلا يمكن حصر حق ممارسة بعض الآليات والوسائل الرقابية على بعض أعضاء البرلمان دون البعض الآخر.
القاعدة الرابعة: وجوب إخبار الحكومة والاتفاق معها بشأن برمجة مواضيع الإحاطة، ضمن برنامج الجلسة الأسبوعية للأسئلة الشفهية، مع منحها حصة زمنية مكافئة لتلك المخصصة لأعضاء المجلس للإدلاء بالمعطيات والبيانات والمعلومات التي ترى ضرورة الإدلاء بها، حيث اعتبر المجلس الدستوري أن الإخلال بذلك يعتبر إخلالا بمبدأ التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية؛ الذي يُعدُّ، بمقتضى الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور، من المبادئ الجوهرية التي يقوم عليها النظام الدستوري للمملكة.
وبناء على ذلك، عمل مجلس النواب، على ملاءمة مضمون هذه المادة ؛ وليستكمل، بعد ذلك، مسلسل استجابته لملاحظات المجلس الدستوري المشار إليها، لتستقر المقتضيات المتعلقة بهذا الموضوع في مجلس النواب على الصيغة المنصوص عليها في المادة 152 من نظامه الداخلي لسنة 2017 ، والتي تنص على ما يلي:
“للنائبات والنواب الحق في تناول الكلام في نهاية الجلسة الأسبوعية المخصصة للأسئلة الشفهية للتحدث في موضوع عام وطارئ يستلزم إلقاء الضوء عليه وإخبار الرأي العام الوطني به.
يقوم رئيس الفريق أو المجموعة النيابية بإشعار رئيس المجلس كتابة بالطلبات الواردة من قبل النائبات والنواب المنتمين أو المنتسبين للفريق أو المجموعة النيابية والمتعلقة بطلب التحدث في موضوع عام وطارئ قبل افتتاح الجلسة 24 ساعة على الأقل.
يوجه النائبات والنواب غير المنتسبين لأي فريق أو مجموعة نيابية طلباتهم مباشرة إلى رئيس المجلس.
يقوم رئيس المجلس بإشعار الحكومة بموضوع الطلبات المذكورة وتبرمج المواضيع باتفاق معها.
للحكومة الحق في الإدلاء بمعطيات وبيانات وتوضيحات في القضايا المثارة من قبل النائبات والنواب .
تخصص لهذه الغاية حصة زمنية إجمالية أقصاها ستة عشرة دقيقة.
يحدد بالتناوب عدد المتدخلين في متحدثين اثنين من المعارضة ومتحدثين اثنين من الأغلبية بالتناوب بين الفرق والمجموعات النيابية مع مراعاة حقوق النائبات والنواب غير المنتسبين. ويحدد المكتب بناء عليه لائحة المتحدثين قبل بداية كل جلسة.
يخصص لكل موضوع دقيقتان اثنتان بالنسبة للنائبات والنواب ونفس الحصة بالنسبة للحكومة.
يمكن للحكومة عند الاقتضاء الإدلاء بمعطيات إضافية كتابة لدى رئيس المجلس يعممها على رؤساء الفرق والمجموعات النيابية وفق المساطر المعمول بها.
إذا تعذر برمجة طلبات التحدث في موضوع عام وطارئ في الأسبوع الأول من الطلب تبرمج هذه الأخيرة في الأسبوع الموالي، مع مراعاة المقتضيات المرتبطة بالحصة الزمنية الإجمالية المخصصة لهذه الطلبات”.
ثانيا: تصرفات مكتب مجلس النواب المتعلقة بموضوع ‹الإحاطة› بمجلس النواب في ضوء مقتضيات النظام الداخلي وقرارات القضاء الدستوري:
في ضوء التطورات التشريعية المشار إليها، وكذا قرارات القضاء الدستوري المرتبطة بها، يتبين أن مناقشة النازلة/ الإشكالية التي أشرنا إليها من خلال الوقائع التي ذكرناها مطلع هذه المقالة، يحيل على إشكاليتين فرعيتين جديرتين بالدراسة والتمحيص: تتعلق أولاهما بمدى صلاحية مكتب مجلس النواب في النظر في مضمون الكلمة موضوع الطلب الذي يتم إشعار الرئيس به من أجل تناول الكلمة في إطار ‹الإحاطة›، وهل يحق له -من الناحية القانونية- أو لرئيس المجلس أن يرفض إحالة طلبات النواب بهذا الخصوص إلى الحكومة؟، بينما تتعلق ثانيهما بالمتعين فعله حينما لا تعبر الحكومة عن استعدادها للجواب خلال الجلسة الموالية مباشرة لتوصلها بهذا الطلب.
1. صلاحيات رئيس المجلس ومكتبه في شأن طلبات النواب الرامية إلى تناول الكلمة في إطار ‹الإحاطة›:
تجدر الإشارة إلى أن جوهر تناول الكلمة في إطار الإحاطة هو في الحقيقة شكل من أشكال المساءلة البرلمانية لأعضاء الحكومة،فق شروط وكيفيات تختلف عن تلك التي حددها المشرع لباقي أشكال الأسئلة البرلمانية الأخرى، مما يجعل إمكانية استعمالها، من هذه الزاوية، حقا شخصيا وقانونيا، بل ودستوريا لأعضاء البرلمان؛ سيما أنها أصبحت خاضعة للضوابط والمقتضيات التي أقر القضاء الدستوري بمطابقتها للدستور وعدم مخالفتها له.
ولئن كان تناول الكلمة في إطار ‹الإحاطة› يرتبط عضويا بالجلسة الأسبوعية للأسئلة الشفهية، فإن مكتب المجلس مخول فقط ببرمجتها تلقائيا كلما توفرت الشروط، وفقا للضوابط التي حددتها المادة 152 والمتعلقة بأمر البرمجة من الناحية الزمنية ومن حيث توزيعها بالتناوب على مختلف مكونات المجلس…، علما أننا نعتبر أن قيام مكتب المجلس بالتداول في أمر إحالة طلبات أعضاء المجلس المتعلقة ب‹الإحاطة› من عدمه؛ ابتداء من التحقق من استيفاء شرط ‹الموضوع العام والطارئ› شطط في استعمال السلطة، لايستند إلى أساس دستوري أو قانوني؛ وذلك لعدد من الاعتبارات نجتزئ منها اثنين:
الاعتبار الأول: إن مكتب مجلس النواب غير مخول إطلاقا بإدراج هذه النقطة ضمن جدول أعماله، بله أن يتداول بشأنها ويقرر في أي أمر يتعلق بمضمونها وبإحالتها على الحكومة، بل إن النظام الداخلي اشترط إشعار رئيس المجلس كتابة بالطلب، وفي الوقت ذاته ألزم هذا الرئيس فقط بإخبار الحكومة باعتبار أن جميع المراسلات التي توجه إلى الحكومة تتم على يده، والاتفاق معها على برمجة مواضيع الإحاطات، دون منحه، هو الآخر، صلاحية هذا التحقق مما إذا كان الموضوع عاما وطارئا أم لا. وإذا كان من دورٍ لمكتب المجلس ورئيسه، فهو مرتبط بضمان توفير الجوانب التنظيمية المتعلقة ببرمجة هذه الفقرة؛ من حيث تحديد الفرق والمجموعات المخولة في كل جلسة، ضمانا لمبدأ التناوب،المشار إليه، بين الأغلبية والمعارضة من ناحية، ومن ناحية ثانية فيما بين فرق الأغلبية، وكذا فرق المعارضة فيما بينها أيضا، وأيضا من حيث الضبط الزمني للتدخلات… وما إلى ذلك، هذا دون أن نغوص في مشكل قطع البث التلفزي والإذاعي، بمجرد شروع النائبات والنواب في التحدث في إطار ‹إحاطاتهم›.
الاعتبار الثاني: إن نظر مكتب المجلس في طلبات أعضاء المجلس الرامية في أمر تناول الكلمة في إطار ‹الإحاطة›، من حيث موضوعها ومدى استيفائه للطابع العام والطارئ، فضلا عن أنه ليس من صلاحيات رئيس المجلس ولا أعضاء المكتب، يترتب عنه محظور دستوري وديموقراطي؛ يتمثل في إمكانية رفض إحالة هذه الطلبات إلى الحكومة كلما ارتأى رئيس المجلس أو مكتبه رأيا آخر، بالرغم من أن أصحابها يكونون قداستوفوا الشروط المطلوبة قانونا؛ بما فيها توصل رئيس المجلس بها كتابة، داخل الآجال المحددة، مما يعتبر، في حقيقة الأمر، مصادرة لِحقٍّ شخصي وقانوني لأعضاء البرلمان في ممارسة دور أساسي من أدوارهم؛ وهي الأدوار التي لا حق لأعضاء المكتب ولا لأيٍّ كان في مصادرتها؛ سيما أن كافة أعضاء البرلمان، بمن فيهم أعضاء المكتب، متساوون في ممارستها، ولا سلطة رئاسية لأي كان على غيره من أعضاء المجلس في ممارستها بالشكل الذي يرتضيه لها، وذلك بالنظر إلى أن المجلس الدستوري كان قد قضى بعدم جواز ذلك في أمر أقل أهمية لا يصل درجة مصادرة الحق في إحالة سؤال على الحكومة مطلقا، وإنما يتعق فقط بتحويله من سؤال شفوي إلى كتابي دون موافقة صاحبه؛ حيث إن المجلس الدستوري كان قد اعتبر أن “تخويل مكتب مجلس النواب حق تحويل الأسئلة الشفهية إلى كتابية دون موافقة أصحابها غير مطابق للدستور الذي ينص الفصل 55 منه على أن مساءلة الحكومة حق شخصي للنواب يمارسونه دون تدخل من أي كان في الطريقة التي يختارها لممارسته” ، وهو القرار الذي يمكن القياس عليه للقول بأن مكتب المجلس، حينما أضحى ينظر في مضمون طلبات النواب الرامية إلى تناول الكلمة في إطار ‹الإحاطة›، لم يكتف بممارسة اختصاص لا يخوله له النظام الداخلي، وإنما صار يلجأ أحيانا كثيرة، في ضوء نظره ذاك، إلى مصادرة حق دستوري من الحقوق الدستورية والقانونية الشخصية لأعضاء البرلمان.
2. صلاحيات رئيس المجلس ومكتبه في حالة تعذر برمجة تناول الكلمة في إطار ‹الإحاطة› خلال الجلسة الأسبوعية الموالية لتوصل الحكومة بالطلب:
إن اشتراط الاتفاق مع الحكومة بشأن برمجة مواضيع ‹الإحاطة›، يرتبط بأمرين عمليا:
أولهما: يتمثل في منح مكتب المجلس فكرة نهائية حول مدى استعداد الحكومة للإجابة عنها في الجلسة الموالية لتوصلها بالطلبات بشأنها، من أجل تمكنه من حصر برنامج الجلسة الأسبوعية للأسئلة الشفهية، الذي يتم توزيعه أساسا بين الإخبارات التي يتلوها أحد أمناء المجلس خلال الجلسة، وبين عرض الأسئلة المبرمجة وأجوبة الحكومة عليها، بما في ذلك التعقيبات الإضافية وتفاعل الحكومة معها، انتهاء بتناول الكلمة في إطار ‹الإحاطة›، ومن أجل تدبير الأمر طبقا للضوابط المتعلقة بإعمال مبدأ التناوب بين مختلف مكونات المجلس مما سبقت الإشارة إليه.
ثانيهما: يرتبط أساسا بالإخبار المتأخر للحكومة؛ بإمكانية برمجة فقرة ‹الإحاطة› وكذا بموضوعها، وذلك من أجل التعرف على مدى استعداد عضو الحكومة المعني، والتأكد من جاهزيته (disponibilité) وعدم انشغاله بالتزامات أقوى خلال وقت انعقاد الجلسة المعنية، أو من حيث قدرته على توفير المعطيات ذات الصلة بموضوع الإحاطة خلال المدة الفاصلة بين لحظة توصله بخبرها وتاريخ انعقاد الجلسة المعنية، وما إلى ذلك…؛ ولا يمكن، في نظرنا، أن نتصور أن هذا الإخبار هو من باب إشراك الحكومة في تحديد كيفية أو في اختيار موضوع إخضاعها للرقابة من طرف أعضاء المجلس في قضايا معينة، باعتبار أن تحديد كل ذلك يندرج في إطار ممارسة السلطة التشريعية استقلاليتها، كما أن هذا الإخبار يعتبر أحد تجليات التعاون مع السلطة التنفيذية؛ فإذا عبرت الحكومة، ساعتها، عن استعدادها للإجابة، رغم إخبارها في أقل من 24 عن افتتاح الجلسة الأسبوعية للأسئلة الشفهية، تتم برمجة ‹الإحاطة› في أول جلسة تلي توصل الحكومة بها، وأما إذا عبرت على عدم استعدادها، لاعتبارات تخصها، فإن هذه ‹الإحاطة› تُرْجَؤُ برمجتُها تلقائيا إلى الجلسة الموالية، طبقا للفقرة الأخيرة من المادة 152 من النظام الداخلي ، وذلك بالرغم من الطابع الاستعجالي للقضايا المراد إثارتها من خلال ‹الإحاطة› المطلوبة.
وفي هذا الإطار، وبالرجوع إلى الفقرة الأخيرة من المادة 152 المشار إليها، والتي تنص على أنه “إذا تعذر برمجة طلبات التحدث في موضوع عام وطارئ في الأسبوع الأول من الطلب تبرمج هذه الأخيرة في الأسبوع الموالي، مع مراعاة المقتضيات المرتبطة بالحصة الزمنية الإجمالية المخصصة لهذه الطلبات”، يتبين أن المشرع البرلماني، اعتبر أن تعذر برمجة هذه الفقرة ضمن جدول أعمال الجلسة الموالية موجب فقط لتأجيلها إلى غاية الجلسة الموالية، إذْ لم يضع المشرع البرلماني لبرمجتها اللاحقة إلا شرطا واحدا فقط؛ يتمثل في مراعاة المقتضيات المرتبطة بالحصة الزمنية ؛ مما يفيد، في نظرنا، وجوب برمجتها تلقائيا في الجلسة الموالية؛ وليس للحكومة إلا أن تحضر من أجل الإدلاء بالمعطيات والبيانات والتوضيحات في القضايا المثارة من قبل النائبات والنواب؛ إن هي أرادت؛ حيث إن غياب الحكومة لا يعتبر، فطبقا لمنطوق النظام الداخلي لمجلس النواب، مانعا من موانع برمجة الإحاطة في الأسبوع الموالي؛ وذلك باعتبار أن النظام الداخلي إنما ينص على أن ‹للحكومة الحق في الإدلاء بمعطيات وبيانات وتوضيحات في القضايا المثارة من قبل النائبات والنواب›، وليس ‹على الحكومة› أو ‹يجب على الحكومة الإدلاء بها…›، وهكذا فإن أمر برمجة الإحاطة في الجلسة الموالية من عدمه، إنما يرجع إلى رغبة صاحبها، فإما أن يطلب عدم برمجتها إذا ما تبين له ذلك، أو يتشبث بحقه الشخصي والقانوني في برمجتها؛ وحينها يبقى الخيار لعضو الحكومة المعني في أن يحضر شخصيا أو ينيب عنه أحد زملائه من أعضاء الحكومة، وإما ألا تحضر الحكومة إطلاقا ولا تشارك في هذه الفقرة، ويُكتَفَى بمداخلة النائبة أو النائب المعني. أما أن يقرر مكتب المجلس عدم برمجة هذه الإحاطة في الأسبوع الموالي أيضا؛ بعد تعذر ذلك في الجلسة التي قبلها؛ فهو مخالف لمنطوق الفقرة الأخيرة من المادة 152، وبالتالي فهو شطط آخر يقع فيه مكتب المجلس، لأنه يترتب عنه مصادرة حق شخصي وقانوني لأعضاء مجلس النواب يتعلق بأدوارهم الرقابية.
صفوة القول: بالنظر إلى القواعد القانونية المشار إليها، والتي تكتسي قيمة دستورية بعد أن صرح القاضي الدستور بمطابقتها للدستور أو عدم مخالفتها له، وبالنظر إلى القراءة التحليلية التي بسطناها بشأن منطوق المادة 152 من النظام الداخلي لمجلس النواب لسنة 2017، فإننا نعتبر أن مصادرة حق نواب الأمة في هذه الصيغة من صيغ مساءلة الحكومة باعتباره حقا دستوريا وقانونيا وله صبغة شخصية لا يجوز لأي كان أن ينال منه، إنما هو شطط في استعمال السلطة، ويبدو أن الاعتبارات السياسية تحتل مساحة مؤثرة في هذا الشطط؛ سيما بالنظر إلى ما ذكرناه من وقائع في مطلع هذه المقالة من أن مكتب المجلس، وهو يمارس اختصاصا ليس مخولا له، أحال على الحكومة طلبا لأحد الفرق في موضوع يتعلق بانهيار المباني في المدن العتيقة بعد أن كان قد صادر هذا الحق في مواجهة المجموعة النيابية للعدالة والتنمية التي سبق أن تقدمت بطلب تناول الكلمة في إطار الإحاطة في نفس الموضوع، سيما أن مكتب المجلس علل قراره بشأنه، حسبما ورد في تقرير اجتماعه المعني، بأنه ‹بعد مناقشة هذا الطلب من مختلف جوانبه القانونية والمسطرية تقرر عدم إحالته على الحكومة لعدم استيفائه للضوابط والشروط القانونية الواردة في مقتضيات النظام الداخلي› ، فأنى لنفس المكتب أن يوافق على إحالة طلب يرمي إلى تناول الكلمة في إطار ‹الإحاطة› في موضوع بعدما كان قد صرح، من قبل، بأنه لا يستوفي الضوابط والشروط القانونية المنصوص عليها في النظام الداخلي.
ومن غير حاجة إلى إحصاء كل الطلبات التي تقدمت بها مختلف مكونات المجلس منذ بداية الولاية التشريعية الحادية عشرة، وهي كثيرة، لتأكيد أن شطط المكتب قد طال عددا مهما من مبادرات أعضاء مجلس النواب الرامية إلى تناول الكلمة في إطار ‹الإحاطة›، فإن الأمر يحتاج في نظرنا إلى مراجعة المكتب لسلوكه في ضوء القواعد القانونية الصريحة المشار إليها إلى حين تعديلها على الأقل، الأمر الذي يتطلب يقظة كافة أعضاء مكتب المجلس، رئيسا وأعضاء، وممارسة أدوارهم باعتبارهم مكتبا مسيرا للمجلس بكافة مكوناته، أغلبية ومعارضة، وإن موقعهم في المسؤولية يفرض عليهم حماية الحقوق الدستورية والقانونية لكافة أعضاء المجلس أغلبية ومعارضة وأعضاء غير منتسبين، وأن يحتاطوا من الوقوع في هذا الشطط، الذي لا يقف عند حدود النيل سياسيا من عدد من أعضاء هذه المجموعة أو هذا الفريق، وإنما يمتد ليجسد مساسا مباشرا بالاختيار الديموقراطي باعتباره واحدا من الثوابت الجامعة التي تسند إليها الأمة في حياتها العامة (الفصل الأول من الدستور)، كما ينال من الحقوق الخاصة التي ضمنها الدستور صراحة للمعارضة قصد مشاركتها الفعلية في مختلف وظائف السلطة التشريعية (الفصل 10 والفصل 60 من الدستور)…
وهنا نعيد التأكيد مرة أخرى على أن ماجرى يدعو إلى التحلي بالموضوعية والإنصاف، ونرى أن على الجميع، تقديس حق البرلمان في مساءلة الحكومة، والتصدي لأية محاولة ترمي إلى الحد منه، وذلك بمنطق الاصطفاف إلى جانب الديموقراطية وضرورة تحصينها، وفرض احترام القواعد الدستورية والقانونية المؤطرة لمراقبة البرلمان للحكومة، وذلك من أي موقع سياسي كان، وليس الاصطفاف السياسي الذي يفرضه الانتماء إلى أغلبية ظرفية لا تدوم –في الغالب- إلى ما بعد الانتخابات التشريعية الموالية.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.