الشوباني يكتب -9- :هل نجح طوفان الأقصى في الإجهاز استراتيجيا على “الحل الصهيوني” ل “المسألة اليهودية” من المسافة الصفر؟

 

المقالة التاسعة (النص بالعربية):

[المسألة اليهودية من خلال نصوص سياسية ومواقف ثلة من مفكري التنوير الأوروبي: L’Abbé Grégoire]

النص الثاني الذي اخترناه بما يلائم أغراض سلسلة مقالاتنا حول “المسألة اليهودية”، من إنتاج الراهب المسيحي الفرنسي الثوري Henri Jean-Baptiste Grégoireالملقب ب “L’Abbé Grégoire” (1750-1831)، والذي يعتبر أحد الرموز الدينية للثورة الفرنسية، ونصه من أقوى النصوص في إدانة التاريخ الأوروبي بشأن “المسألة اليهودية”. انتخبه ممثلو الكنيسة سنة 1789 ليكون ضمن 1145 نائبًا المنتخبين في المجالس “العامة/الجمعية العامة les Etas Généraux” (موزعون كالتالي: 291 نائبًا عن رجال الدين، و270 عن طبقة النبلاء، و584 عن طبقة عموم الشعب/الطبقة الثالثة). وقد عقدت الجمعية العامة رقم 36، الملتئمة من 5 مايو إلى 27 يونيو 1789، آخر جمع لها في ظل نظام المملكة الفرنسية. دورة الانعقاد تلك دعا إليها الملك لويس السادس عشر(1754-1793) في 8 أغسطس 1788؛ لكن النقاشات الحادة حول الوضع الاقتصادي المأزوم، ونظام الامتيازات الطبقية الفاحشة، وموازين القوة غير المتكافئة في صناعة القرار داخل الجمعية ذاتها، كل ذلك تطور ليأخذ مع الخطباء الثوريين مضمونا انقلابيا على الوضع العام وعلى منظومة صناعة القرار في الدولة، فتحولت قاعة الاجتماعات إلى محرك وقاطرة للثورة بقيادة نواب الطبقة الثالثة/نواب الشعب، تلاها تصويتهم على تحويل الهيئة المنعقدة باسم “الجمعية العامة” إلى “الجمعية الوطنية Assemblée Nationale” في 17 يونيو 1789، ثم إلى “الجمعية التأسيسيةAssemblée Constituante” في 9 يوليو 1789 التي تولت حكم البلاد ووضع دستور جديد تم اعتماده في شتنبر 1791، وتحولت بموجبه إلى “المجلس التشريعي الوطني Nationale Législative Assemblée”.
في هذا المناخ الثوري شديد الاضطراب، حمل L’Abbé Grégoire معه انشغاله الحارق ب”المسألة اليهودية”، وألقى به في لُجَج النقاشات العنيفة التي كانت تمور بها الجمعية الوطنية الفرنسية، فكان بذلك من بين القلائل الذين حملوا “القلق على اليهود الممزوج بالخجل من فرنسا” ، في مقابل الغالبية الساحقة المشبعة ب “القلق من اليهود” ، انتهازا للفرصة التاريخية أن تتمخض الثورة عن وضع جديد لهذه الفئة المضطهدة من المجتمع الفرنسي. لم يستطع L’Abbé Grégoireإلقاء “الملتمس Motion” – المكون من 27 فصلا في حوالي 166صفحة – من منصة المجلس، لكنه طبعه ووزعه على جميع الأعضاء وحرص على مناقشته مع كل من أبدى استعداده لذلك.
فلسفة الملتمس الذي عَنْوَنَهُ A.Grégoire ب “الإحياء/البعث/التجديد المادي/الجسدي والمعنوي/الأخلاقي والسياسي لليهود la régénération physique, morale et politique des Juifs”، تقوم على الدعوة إلى الكف عن القتل المادي والمعنوي لليهود على أساس الاعتقاد الخاطئ بأن الشر متأصل فيهم، والدعوة لصحوة ضمير تبدأ بشجاعة اتهام المجتمع الفرنسي بالمسؤولية عن هذا الوضع، وصولا لشجاعة اتخاذ القرار السياسي اللازم لطي ملف تاريخ فرنسا الأسود ضد اليهود. لقد ساهم ملتمس A.Grégoire بتاريخ 1789 في إثارة نقاش سياسي مؤثر أفضى لتصويت الجمعية التأسيسية في سبتمبر 1791 لصالح إصدار مرسوم يمنح الجنسية الفرنسية لليهود، وبذلك تكون فرنسا قد طوت صفحة تاريخها الرسمي مع المسألة اليهودية بالاعتراف لهم قانونيا بالمواطنة الكاملة والمساواة، لكن ثقافة المجتمع ظلت عصية على التغيير كما يتضح من قوة وتجذر الاعتراضات التي حاول A.Grégoire جاهدا التصدي لها وتفنيدها في ملتمسه؛ وكما تفجر لاحقا في النازلة الشهيرة للضابط اليهودي Dreyfus (1894م)،ثم مع الحكومة الشمولية للمارشال بيتان le maréchal Pétain المعادية لليهود، بعد إغلاق قوس الجمهورية الثالثة بهزيمة القوات الفرنسية أمام الجيش الألماني في 10 يوليوز 1940.

لأهمية هذا النص سياسيا وأدبيا، نورده بلغته مع التصرف الشديد، من خلال انتقاء بعض مقاطعه الدالة على فلسفته، مرفوقا بنفس المقالة حيث تمت ترجمة النص إلى اللسان العربي.

يقول A.Grégoire في بعض المقاطع من ملتمسه التاريخي الكفيل بمساعدتنا على فهم حجم الحقد التاريخي الدفين الذي شحنت به المجتمعات الأوروبية ضمير اليهودي تجاه أعدائه، حتى ولو كانوا من ضحاياه الأبرياء الذين صنعهم باحتلال أرضهم، فارّاً من جحيم أوروبا، كما يجري في فلسطين اليوم:

(…بكل ثقة، أيها السادة، إنني، وأنا أدافع عن قضية اليهود التعساء أمام هذه الجمعية الموقرة، أتوجه إلى عقولكم بلغة العقل، وإلى قلوبكم بلغة الإنسانية (..) حاليًا، أيها السادة، سوف أتتبع بسرعة ثورات الشعب العبري منذ شتاته. هذا العرض ضروري لإثبات أن الانحطاط الحالي لليهود هو نتيجة حتمية للقمع الذي تعرضوا له دائمًا، وللاضطهاد الذي لاحقهم في كل مكان؛ لأنه بمعرفتنا لأصول الشر، سنجد علاجاتها بسهولة أكبر(..) إنهم يجرجرون أنفسهم إلى كافة أنحاء العالم لطلب اللجوء؛ يذهبون مرتعدين لتقبيل أقدام الأمم التي ترفعهم لتسحقهم، والذين لا يفلتون من العقاب إلا بالازدراء ينتظرهم. ثم التعامل مع تنهداتهم على أنها صرخات تمرد، والغضب الشعبي الذي يشتعل مثل النار ينتقل عبر المقاطعات ويذبحهم (..) في روان Rouen تم ذَبحهُم دون تمييز في العمر أو الجنس. وأُحرق ألف وخمسمائة في Strasbourg، وثلاثمائة في Mayence؛ وفيTrèves ،وفي York، غرز اليهود أنفسُهم السكين في صدور زوجاتهم وأطفالهم، قائلين بإنهم يفضلون إرسالهم إلى حضن إبراهيم بدلاً من تسليمهم إلى المسيحيين؛ والقديس برنارد Saint Bernard، بعد أن بشر بالحملة الصليبية، سارع إلى التبشير ضد قسوة الصليبيين.(..) عندما ولد الإقطاع، ارتدى اليهود سلاسل العبودية في جميع أنحاء أوروبا؛ لقد تعرضوا لضرائب هائلة، حتى إنهم أدَّوا حقوقا (للدولة) مقابل تغيير دينهم. لقد قتل الصليبيون اليهود باسم الدين، لينتحلوا لأنفسهم حق نهبهم؛ وكانت معاملاتهم الربوية بمثابة ذريعة للأمراء لنهبهم بدورهم. إن عهد ثلاثة من ملوكنا، Philippe Auguste, Philippe le Bel, Philippe le Long ، موسوم بالدم في أعز ما يتباهى به اليهود. في مقاطعة Bretagne تم طردهم سنة 1239 على يد Jean le Roux، دوق/حاكم هذه المقاطعة بجريرة ارتكاب انتهاكات ضد مزارعي البلاد، ؛ وقد أسقط ديون اليهود على المدينين، وسمح لمن كانت لهم أموال لهم أن لا يرجعوها إليهم، ومنع الإبلاغ عن أي شخص يقتل يهودا.
وفي القرون المظلمة للعصور الوسطى، اتُهم اليهود بكل الويلات التي أصابت بها السماء الأرض. لقد اتُهموا بجرائم مفترضة لم يتم إثباتها أبدًا، مثل التضحية بأطفال مسيحيين، وتسميم النوافير والآبار وحتى الأنهار، وهي جرائم لم يكن بإمكانهم أن يجنوا منها أي ثمار سوى مذابح جديدة، كلما كان إعدامهم ممكنًا؛ ولكن متى كان للكراهية عقل؟ إنهم يبدؤون أولا بالذبح، ثم يفحصون لاحقا ما إذا كان الضحايا مذنبون؛ وفي أي قرن يحدث كل هذا يا إلهي؟ (..) أصدرت أوروبا أربعمائة نظام (قانوني) لإقامة جدار فاصل بين المسيحيين واليهود. وبدلا من أن نسد الفجوة التي تفصل بينهما، سعدنا بتوسيعها، بإغلاق كل السبل المؤدية إلى معبد الشرف في وجههما.(..) في هذا القرن الذي يوصف بامتياز بقرن التنوير، والذي يفتخر باستعادة الإنسان حقوقه وكرامته الأساسية، إنها دائمًا في نظري ظاهرة أخلاقية أن أرى في بعض الأحيان أولئك الذين يتحدثون أكثر عن التسامح يتصرفون باستثناء مُدَوٍّ ضد اليهود، وغالبًا ما يكون ذلك دون أن يكون لديهم فكرة دقيقة عن التسامح، حتى دون أن يميزوا بين مختلف معاني هذا المصطلح.
إنني أتحدث أمام جمعية سياسية، فاسمحوا لي أيها السادة أن أناقش الاعتراض الديني الذي قدمه لي بعض أعضاء هذه الجمعية الكرام. وهم يزعمون أن اليهود، المحكوم عليهم إلى الأبد بالازدراء، لن يتمكنوا أبدا من أن يصبحوا مواطنين. سأنتظر الرد على الشخص الذي أنت على وشك سماعه. (..) ولكن، كما قيل لنا، كيف يمكننا أن نعترف بمرتبة التمدن حشد من الأنذال الرافضين لكل أمل في إحيائها، وهي طائفة، من حيث المبدأ، غير متسامحة، وأخلاقها ونظامها لا يقبلان الائتلاف مع أخلاق ونظام جميع الشعوب التي تعاملت معها (الطائفة) بكراهية مسمومة؟ (..) على مدى ثمانية عشر قرناً، داس الأمم تحت أقدامها بقايا إسرائيل؛ الانتقام الإلهي ينشر قسوته عليهم. ولكن هل كلفتنا العناية الإلهية بأن نكون منفذين لإرادتها؟ (..) يشرفني أيها السادة أن أقترح عليكم مشروع مرسوم، ومضمونه كما يلي: تقرر الجمعية الوطنية إعفاء اليهود في المملكة من الآن فصاعدا من دفع رسوم الحماية للمدن والبلدات والمجتمعات والقديسين؛ ويحق لهم الاستقرار في كل أماكن المملكة، وممارسة كافة الفنون والمهن، وامتلاك المباني، وزراعة الأراضي. ولن يتم إزعاجهم أثناء ممارسة عبادتهم؛ وباستيعابهم كمواطنين، سيتقاسمون مع نظرائهم المزايا، ويتحملون معهم الأعباء (..) يُبطل المجلس ويُعدِّل جميع المراسيم والرسائل الملكية والأحكام والإعلانات المخالفة لهذا المرسوم. ويُحظر بشدة إهانة أفراد الأمة اليهودية، فجميعهم يرغبون في أن يجدوا في الفرنسيين شركاء في الوطن، وسيحرصون على أن يستحقوا منهم الترابط والاحترام).

(يتبع في المقالة العاشرة)

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.