عبد الناصر ناجي: اتفاق 26 دجنبر 2023 هل يخرجنا من أزمة النظام الأساسي؟

عبد الناصر ناجي


تتوالى الاتفاقات بين الحكومة والنقابات، وما بين اتفاق واتفاق تتنازل الحكومة لفائدة المحتجين في الساحة التعليمية، لكن دون أن تنجح في تهدئة أجواء الغضب في صفوف الأساتذة، رغم تحقيقها لبعض النجاحات على مستوى التخفيف من زخم الإضرابات. وإذا كان التراجع في نسبة المضربين منتظرا بالنظر إلى المكتسبات التي حصل عليها رجال ونساء التعليم بعد ثلاثة أشهر من النضال أدت وستؤدي المنظومة التربوية خصوصا وبلادنا عموما ثمنها باهظا بغض النظر عن المسؤول عن الأزمة، فإن المرارة التي دبجت بها البلاغات الأخيرة لمختلف التنسيقيات تنم عن أن منهجية التعاطي مع أزمة غير مسبوقة في النظام التعليمي المغربي شابها الكثير من سوء التدبير والقليل من الحكمة والتبصر.
على مستوى تدبير الأزمة يبدو أن الحكومة تفاجأت بحجم الإضرابات وحدة الاحتجاجات بعدما اعتبرت في البداية أن غضب الأساتذة لن يطول وأن صبرهم سينفد بعد أسبوع أو أسبوعين أو حتى شهر، وهي ضريبة كانت مستعدة أن تسمح بأدائها من طرف الأسر والتلامذة في التعليم العمومي ما دامت النخبة التي تعول عليها للنهوض باقتصاد البلد استمرت في تدريس أبنائها في التعليم الخصوصي. غير أن تشبث المحتجين بمطالبهم وإصرارهم على مواصلة الإضرابات رغم قرارات الاقتطاع من أجورهم أجبر الحكومة على تغيير استراتيجية التسويف والمماطلة التي اعتمدت على ربح الوقت والمراهنة على إنهاك المحتجين والمضربين مع إمكانية تفعيل المقاربة الأمنية إذا لزم الأمر. الاستراتيجية الجديدة التي برزت بعض ملامحها بعد دخول رئيس الحكومة على خط الأزمة يوم 30 أكتوبر، كانت تراهن على امتصاص غضب الشارع التربوي من خلال تنفيس غضب النقابات الأربعة التي شاركت في صياغة النظام الأساسي الذي حرك الاحتجاجات لكنها اشتكت بقوة من عدم الأخذ بتعديلاتها على الصيغة النهائية قبل المصادقة عليها في المجلس الحكومي يوم 27 شتنبر. وهو ما دفع الحكومة إلى تبني استراتيجية براغماتية تعتمد على تطبيق مضامين محضر الاتفاق الموقع مع النقابات المذكورة بتاريخ 14 يناير 2023، والعمل على تجويد النظام الأساسي لكن دون تقديم أية وعود ذات أثر مالي كما يطالب بذلك الأساتذة. هذه المقاربة الجديدة لم تنجح مع المحتجين رغم دعوة النقابات الأربعة إلى توقيف الإضراب من أجل إتاحة الفرصة للحوار من جديد. بل إن حدة الاحتجاج ارتفعت أكثر ووتيرة الإضرابات تزايدت إلى أن توجت بالمسيرة الضخمة التي شهدتها عاصمة المملكة يوم 7 نونبر. رغم هذا الغليان الكبير الذي طبع الساحة التعليمية، وبدل أن تفكر الحكومة في استراتيجية جديدة لاحتواء الوضع المقبل على الانفجار، عادت إلى مقاربتها الأولى المعتمدة على التسويف والمماطلة بحجة أنها تنتظر عودة الأساتذة للأقسام الدراسية لكي تستأنف الحوار مع النقابات الأربعة. بعد عشرين يوما من الانتظار المتسم بشلل عام أصاب المدرسة العمومية، اجتمع رئيس الحكومة من جديد مع نفس النقابات ليفصح عن استراتيجية جديدة للحكومة في التعامل مع الأزمة تعتمد على تجميد النظام الأساسي في أفق ‏تعديله، وتضمينه تحسين دخل موظفي وموظفات قطاع التربية الوطنية، مع تكليف لجنة وزارية، يترأسها السيد شكيب بنموسى، بعضوية السيدين السكوري ولقجع، بمناقشة آفاق تعديل النظام الأساسي لموظفي التربية الوطنية، والعمل على إيجاد الحلول المناسبة للمشاكل المطروحة قبل 15 يناير 2024. المقاربة التي اعتمدتها الحكومة بعد 27 نونبر وتوجت باتفاق 10 دجنبر مع النقابات الأربعة كانت ترمي إلى استثمار الأزمة من أجل استعادة المبادرة من طرف الحكومة والنقابات الأربعة، وتقديم بعض التنازلات التي تمكنها من استرجاع ثقة رجال ونساء التعليم فيها، وبالتالي نيل ثقة المواطنين والمواطنات. لكن بما أن هذه المنهجية استندت إلى التفاوض مع نفس النقابات الأربع التي شاركت في وضع النظام الأساسي وبنفس الشروط المتضمنة في اتفاق 14 يناير 2023، وبما أن الزيادة المقترحة في الأجور كانت دون الالتزام الحكومي المتمثل في 2500 درهم، وبما أن الحكومة لم تتراجع عن نظام التحفيز المرتبط بالمردودية وبمؤسسات الريادة، لأنه يشكل صلب المقاربة التدبيرية التي تعتمد عليها وزارة التربية الوطنية في خارطة الطريق، فإن هذه الاستراتيجية لم تحقق مبتغاها. وهي التي كانت تراهن عليها الحكومة للخروج من الأزمة، وكانت النقابات الأربعة ستجد فيها ضالتها لأنها ستستعيد مكانتها في الساحة التعليمية بعد أن تكون قد استطاعت أن تنتزع مكتسبات للأسرة التعليمية تستجيب لبعض مطالبها. ما كان ينقص هذه الاستراتيجية هو إشراك الهيئات الأكثر تأثيرا في الحراك التعليمي في الحوار، ويتعلق الأمر بباقي النقابات وخاصة الجامعة الوطنية للتعليم التوجه الديمقراطي التي تعد من النقابات الأكثر تمثيلية، وبصفة أخص التنسيقيات التي لم يعد خافيا على أحد الوزن الثقيل الذي تشكله ضمن معادلة الإضراب. وفعلا تبنت الحكومة على مضض استراتيجية جديدة تقضي بالتحاور مع هذه التنظيمات مع محاولة تحقيق بعض مطالبها، خصوصا منها حل إشكالية التعاقد والرفع من أجور الأساتذة وعدم ربط الترقية بمردودية المتعلمين. هذا التوجه الجديد أسفر عن اتفاق 26 دجنبر الذي جاء بالعديد من المكتسبات لرجال ونساء التعليم وقدم حلولا للكثير من الملفات الفئوية، غير أن تراجع الحكومة عن محاورة التنسيقيات جعل هذه الأخيرة تشعر بالغبن وبنوع من الإهانة قد يؤدي إلى رفض مبدئي لهذا الاتفاق، نأمل أن يتحول مع مرور الوقت إلى قراءة موضوعية لبنوده من أجل اتخاذ القرارات الصائبة بخصوص التعامل مع مخرجاته.
إن التحول من استراتيجية إلى أخرى في تعامل الحكومة مع أزمة النظام الأساسي لا ينم عن اختيارات مسبقة تحتكم إلى سيناريوهات معدة سلفا، بقدر ما ينم عن عدم وضوح الرؤية منذ البداية، وعدم استناد عملية بناء المرسوم إلى تشخيص دقيق لوضعية المدرسين خاصة المتعاقدين أو أطر الأكاديميات، رغم وجود دراسات في الموضوع أنجزها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي. كان أحرى بالحكومة أن تتبنى استراتيجية تستحضر عمق الإشكالات المطروحة من خلال العمل على بناء النظام الأساسي على أسس جديدة تتفادى كل السلبيات التي طبعت الصيرورة التي أنتجت المرسوم الذي أخرج الأطر التربوية والإدارية إلى الشوارع وشل المدرسة العمومية. وأول خطوة في هذه الاستراتيجية هي الرجوع إلى الشرعية القانونية من خلال الاحتكام إلى القانون الإطار، ليس فقط في بناء النظام الأساسي الجديد، ولكن أيضا في كل ما يتعلق بإصلاح منظومة التربية والتكوين. وثاني خطوة هي توسيع دائرة التشاور المؤسساتي بحيث تشمل ليس فقط النقابات الأكثر تمثيلية بما في ذلك الجامعة الوطنية للتعليم، ولكن أيضا النقابات الأخرى والتنسيقيات. ثالث خطوة هي وضع منهجية مضبوطة لبناء النظام الأساسي الجديد تستند إلى دلائل مرجعية للوظائف والكفايات يتم إعدادها بشكل تشاركي مع مختلف الأطراف المعنية، وتعتمد على المعرفة الدقيقة بالواقع، وتحتكم إلى معايير الجودة التي ينبغي إعدادها، بالإضافة إلى استشرافها للمستقبل واستئناسها بالمقاربة الدولية. رابع خطوة هي عرض هذا المنتوج على المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي لإبداء الرأي فيه، ثم بعد الانتهاء من مشروع النظام الأساسي يعرض هو أيضا على المجلس من أجل توسيع التشاور بشأنه. أما خامس خطوة فهي أن تجتمع اللجنة الوزارية لتتبع الإصلاح المنصوص عليها في القانون الإطار والتي لم تجتمع منذ أكثر من سنتين، من أجل مناقشة المشروع وتجويده قبل عرضه على المجلس الحكومي للمصادقة عليه. هذه الاستراتيجية من شأنها أن تعيد مسار الإصلاح برمته إلى سكة الشرعية القانونية التي زاغ عنها منذ أكثر من سنتين، لكن نجاحها يبقى رهينا أيضا بمراجعة قانون الوظيفة العمومية في اتجاه تحقيق العدالة الأجرية بين جميع الموظفين والموظفات ، وإقرار مسارات مهنية تضمن العيش الكريم من جهة وترتقي من جهة بجودة المخرجات في جميع القطاعات بما في ذلك قطاع التربية الوطنية. ويظل رهينا أيضا *بوضع قانون النقابات وقانون الإضراب من أجل تجويد العمل النقابي وتقنين الحق في الإضراب بما يحقق التوازن بين حقوق جميع الأطراف

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.