جعفر حسون يعلق على الحكم القضائي حول قضية الإدماج المباشر في الوظيفة العمومية(2/2)

ذ/حسون جعفر*

و بالحملة فإن دعوى تسوية الوضعية الفردية للموظفين ليست هي الإطار القانوني، ولا هي التكييف الصحيح للطعن المرفوع أمام المحكمة الإدارية، كما أنها ليست هي الصيغة الممكنة.
ويبدو أن الاتجاه إلى هذا التكييف للنزاع على أنه دعوى تسوية الوضعية الفردية للطاعنة يرمي في الواقع إلى تجاوز اشكالية الأجل المرتبط بالطعن بالإلغاء بسبب تجاوز السلطة،ويندرج بالتالي ضمن الحيل القضائية أكثر منه ضمن مجال التكييف كمنهج له أصوله وضوابطه.

غير أن هذا التوجه نفسه كان يجب أن يستحضر أيضا اجتهادا متواترا للغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى آنذاك يعتبر أنه ” إذا كان من حق المعني بالأمر أن يسلك دعوى الإلغاء أو دعوى القضاء الشامل للحصول على تسوية وضعيته، فإنه لا يمكنه تجاوز آجال الطعن المحددة لممارسة دعوى الإلغاء و الانتقاال إلى دعوى القضاء الشامل والحال أن الدعوى الأولى مقيدة بأجال محددة وفق النظام العام”، ويضيف ” لا يمكن للطاعن تجاهل وجوب احترام هذه الآجال إذا كان قصده هو التوصل إلى إلغاء المقرر المطعون فيه الذي أثر على وضعيته الفردية”.
يعني، في نظر هذا الاجتهاد أن دعوى تسوية الوضعية الإدارية لا يمكنها أن تتحلل من شرط الأجل ما دام أنها في نهاية المطاف تنازع في مشروعية القرار الإداري الذي أثر على هذه الوضعية.

وبالتالي يكون هذا المسلك في تكييف الدعوى نفسه غير ذي جدوى في تجاوز إشكالية أجل الطعن.
  وللأمانة فإننا لسنا مع هذا التوجه الذي يسقط آجال الطعن بالإلغاء على دعاوى تسوية الوضعية الفردية لأسباب منها:

أن الآجال مسألة إجرائية لا يمكن أن تؤسس على اجتهاد المحكمة، ولا يمكن أن تنتج إلا عن نص قانوني صريح؛
أنه إذا كان الدستور يصنف مسألة اجراءات التقاضي ضمن مجال القانون ولا يمكن أن تتم إذن بمرسوم تنظيمي،كما لا يمكن أن يؤذن فيه للحكومة نفسها باتخاذ تدابير تشريعية ،فلا معنى لان يتم ذلك باجتهاد فضائي ولو كان صادرا عن محكمة النقض نفسها؛
إن اختلاف الأنظمة الإجرائية لكلا الدعويين هو مسألة جوهرية وبدونها لن يكون هناك أي معنى للتمييز بين مجال الطعن بالإلغاء ومجال الدعوى الشاملة.
ومع ذلك فقد كنا نود أن يشير الحكم إلى هذا “الاجتهاد” المتواتر في العمل القضائي ولو من باب تفنيده ودحضه، على نحو ما صنعنا، على الأقل ليزيل عنا الانطباع بأنه سكت عن اجتهاد لا يسند توجه الحكم أو أنه لم يعلم باجتهاد جرى عليه العمل القضائي وهذا أشد وأنكى.

ومهما يكن فإن الطعن بالإلغاء بسبب تجاوز السلطة نفسه لا يسعف في مواجهة قرار رفض الإدماج المباشرفي الوظيفة العمومية، ليس بسبب انصرام أجل الطعن،ولكن بسبب طبيعة القرار نفسه والذي يتجاوز وضعية فرد أو حتى أوضاع أفراد معينين بذواتهم وأشخاصهم ،أو حتى بصفاتهم كحاملين لدبلوم أو شهادات عليا، ليندرج في توجه حكومي ذي طبيعة عامة، تفصح عن موقف سياسي تجاه وبشأن الولوج إلى الوظيفة العمومية.

 فالأمر لا يتعلق برفض توظيف فلان أو علان من الناس، بقدر ما يتعلق برسم سياسة جديدة في التوظيف تقطع مع أسلوب وثقافة الإدماج المباشر كمنهج مخل بمبدأ تكافؤ الفرص، والاستحقاق والمساواة بين المواطنين في تقلد الوظائف العامة.
ومن ثم فإن القرار يكتسي صبغة قرار سيادي يندرج ضمن السياسة العامة للحكومة، أخذ بالفعل شكله وصيغته القانونية بصدور القانون رقم 05/50 يتغير وتتميم الظهير الصادر في 24 فبراير 1958 بمثابة النظام العام الأساسي للوظيفة العمومية، والمنشور بالجريدة الرسمية عدد 5944 بتاريخ 15 جمادى الآخرة 1432 للهجرة الموافق ل 19 ماي 2011،
فالأمر هنا يتعلق بتوجه سياسي عام  يقطع مع إمكانية الإدماج المباشر التي كان يتيحها الفصل 22 من النظام الأساسي للوظيفة العمومية في صيغته الأصلية حتى دون حاجة إلى إصدار مرسوم 08 أبريل 2011 حيث ينص على أن “يقع التوظيف في كل منصب من المناصب إما عن طريق مباريات، تجري بواسطة الإختبارات، أو نظرا للشهادات، وإما بواسطة امتحان الأهلية أو القيام بتمرين لإثبات الكفاءة…”
وعليه فإن قرار رفض التوظيف المباشر أو الإدماج المباشر في الوظيفة العمومية،يندرج ضمن القرارات الحكومية السيادية ذات الطبيعة السياسية و لا يطاله بالتالي الطعن بالالغاء بسبب تجاوز السلطة كطعن قضائي موجه أساسا وحصريا ضد القرارات ذات الطبيعة الإدارية المحضة.بل لاتطاله الرقابة القضائية التي تأباها طبيعة القرارات ذات الصبغة السياسية.
وهذا الصنف من القرارات ذات الصبغة السياسية والسيادية،إذا كان محصنا كما هو معلوم ضد أي طعن قضاءي،فإنه يبقى خاضعا لآليات الرقابة السياسية بدءا من المساءلة البرلمانية بمختلف درجاتها،وانتهاءا بالرقابة الشعبية عن طريق الجزاء الإنتخابي،مرورا بأشكال الرقابة التي يمارسها المجتمع المدني.

هذه الآليات التي أفرزها الفكر البشري والتدافع المجتمعي لمواجهة هذا النوع من القرارت التي لاسبيل للقضاء لبسط رقابته عليها،في سياق نظام محكم يقابل كل نوع من القرارات  بآليات الرقابة التي تلائمه، في إطار ما يعرف بمبدإ توازي الشكليات Parallélisme des formes  حتى لا يلتبس ما هو سياسي بما هو قضاءي ولايتلبس القضاء بالسياسة.
وفي المحصلة، فليس هناك أي قرار ،كيفما كان نوعه،بمنأى عن الرقابة،في نظام لايعرف المطلق ،ويعتبر أن “السلطة المطلقة مفسدة مطلقة”على رأي أستاذنا الكبير الدكتور طارق البشري.وتلك أهم مقومات دولة الحق والقانون، او دولة القانون Létat de droit ،وليس “الدولة القانونية” Létat légal كما سميت في الحكم،والتي هي على النقيض من دولة القانون،نظام يلعب فيه القانون مجرد دور دركي او شرطي مرور لا يحفل كثيرا بحقوق وحريات الأفراد،ولايعنيه مبدأ الشرعية الذي يحتم خضوع السلطات العامة أيضا لحكم القانون.ومن تم اعتبرت دول كألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية واسبانيا الفرنكاوية في عداد الدولة القانونية دون اعتبارها دول قانون.

  >
 الشائبة الثانية:الارتباك والتكلف في التعليل.
سمة أخرى تطبع هذا الحكم هي سمة الارتباك والتكلف في التعليل، وقد لمسناها بشكل واضح بخصوص تكييف الدعوى ورسم إطارها القانوني ،وحشرها قسرا ضمن دعاوى تسوية الوضعية الفردية للموظفين، مع أن موضوعها وجوهرها ينصب أساسا على أحقية الطاعنة في الولوج إلى الوظيفة العمومية عن طريق الإدماج المباشر.
وهو نفس الارتباك والتكلف الذي طبع أيضا تعليل الحكم عند تصديه لموضوع الدعوى أو الطعن ـ لاندري ـ مادام أن الحكم لم يكن حاسما، أو بالأحرى لم يكن موفقا في تحديد الإطار القانوني ..وفي هذا الصدد وفي معرض تحديد الطبيعة القانونية للمحضر وحجيته القانونية يورد الحكم جملة من المصطلحات والمفاهيم التي لا يجمع بينها أي رابط،فيتحدث تارة عن محضر تنفيذي ،وتارة يضفي عليه صبغة التزام قانوني مؤسسا على ما اعتبره “عرفا إداريا”( يفتح المجال لمشاركة الخواص في إبرام اتفاقيات مع الحكومة في إطار مهامها التنظيمية والدستورية !) كذا.
ولا يتضمن الحكم أي تحليل لعناصر هذا الاتفاق من حيث أطرافه وأركانه وموضوعه، ولكنه بالمقابل يلتفت كثيرا إلى بعض المظاهر الشكلية من قبيل أن “الورق المطبوع عليه المحضر مشار في طليعته لمؤسسة الوزير الأول ومؤشر عليه بطابعه وموقع عليه من طرف عامل ملحق -لاحظوا التعبير- عامل ملحق بولاية جهة الرباط سلا زمور زعير أو ممثل –لاحظوا- أيضا ممثل الوزارة المنتدبة لدى الوزير الأول المكلفة بتحديث القطاعات العامة “ليستنتج ببساطة أن المحضر “يعد عملا إداريا و قانونيا”.
 
ويتفادى تماما الدخول في مناقشات من نوع أهلية الموقعين على المحضر لإلزام الدولة أو الحكومة دون أي تفويض من رئيس الحكومة أو الوزير الأول  آنذاك ،باعتباره قانونيا هو من يمثل الدولة التي يمثلها أيضا الملك دستوريا على مستوى أعلى.
كما لا نجد أيضا أي تحديد دقيق لمضمون المحضر أو الاتفاق على حد تعبير الحكم، والذي جاء بصيغة الوعد التي يعبر عنها الفعل المضارع المقرون بحرف السين أو سوف:”سيتم في نفس الإطار إدماج المجموعات المتبقية…” كما يتوقف تنفيذ المحضر نفسه على عملية الأجرأة التي “سيشرع فيها بعد تحيين اللوائح، بتنسيق بين اللجنة المشرفة على عملية تدبير هذا الملف وممثلي المجموعات.” وعلى “تاريخ يحدد ابتداء من فاتح نوفمبر 2011” مما ينفي عن المحضر الصبغة التنفيذية التي أضفاها عليه الحكم.
وكما تطرح صفة الموقعين على المحضر وأهليتهم لإلزام الحكومة أو الدولة بمضمون الوثيقة، يطرح أيضا صفة من يتمسكون بهذه الوثيقة منضوين في مجموعات وتنسيقيات لا يعرف أحد إطارها القانوني الذي تشكلت فيه،ما دام أن ظهير الحريات العامة المنظم لتأسيس الجمعيات لا يتسع لهذا النوع من التنظيمات، كما لا يمكن أن يضمها أيضا قانون الأحزاب أو التعاونيات، على اعتبار أن لكل هذه التنظيمات خاصيات مميزة وإطارا قانونيا معلوما.
وبخصوص السياق القانوني الذي أنشئ فيه المحضر،فإن ما ينبغي الإنتباه إليه أن محضر 20 يوليز نشأ في ظل قانون 50/05 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 100/11/1 الصادر في 14 ربيع الأول 1432 للهجرة الموافق لـ 18 فبراير 2011 المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5944 الصادر بتاريخ 15 جمادى الآخرة 1432 الموافق لـ 19 ماي 2011 بتغيير وتتميم الظهير الشريف رقم 008.58.1 الصادر بتاريخ 4 شعبان 1377 ( 24 فبراير 1958) بشأن النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، الذي ينص صراحة في فصله 22 بعد تعديله: ” يجب أن يتم التوظيف في المناصب العليا ( لاحظوا صبغة الوجوب التي يقابلها بطلان أي إجراء أو تصرف مخالف ) وفق مساطر تضمن مساواة جميع المترشحين لولوج نفس المنصب، ولاسيما حسب مسطرة المباراة.
وتعتبر بمثابة مباراة امتحانات التخرج من المعاهد والمؤسسات المعهود إليها بالتكوين حصريا لفائدة الإدارة.
استثناء من أحكام الفقرة الأولى يمكن للحكومة أن ترخص للسلطات المكلفة بالدفاع الوطني والأمن  الداخلي والخارجي للدولة  بأن تقوم بتوظيفات بعد اختبار الكفاءات المطلوب توافرها في المترشحين دون إعلام سابق أو لاحق.
تحدد شروط وكيفيات تطبيق هذا الفصل بموجب مرسوم.””
هذا هو السياق القانوني الذي أصبح يؤطر الولوج إلى الوظيفة العمومية منذ صدور هذا الظهير ونشره بالجريدة الرسمية عدد 5944 بتاريخ 19 ماي 2011، أي قبل شهرين بالتمام والكمال على وجود محضر 20 يوليوز الذي يلوح به الجميع في وجه الحكومة اليوم، والذي نشأ إذن في ظل سياق قانوني يحصر تماما،بكيفية واضحة وصريحة ـ وبصبغة الوجوب ـ أسلوب وطريقة التوظيف في مدخل واحد هو مدخل المباراة.
حتى الاستثناء الصريح الممنوح لسلطات الدفاع الوطني والأمن الداخلي والخارجي، بالنظر لحساسية هذه الوظائف المتصلة أساسا بالأمن والنظام العام الداخلي والخارجي للدولة، اقتصر على إعفائها ـ بناء على ترخيص للحكومة ـ من الإعلان عليه بصفة عمومية دون إعفائها من ” اختبار توافر الكفاءات المطلوبة ” أي من منهج وأسلوب التباري والمنافسة.
كما أن اعتبار امتحانات التخرج من المعاهد والمؤسسات المتخصصة بالمعهود إليها حصريا بالتكوين لفائدة الإدارة، يفسره أيضا طابع التكوين المهني والعملي لهذه المؤسسات الذي يختلف جدريا عن التكوين الأكاديمي بالجامعات كما أن الولوج إلى هذه المعاهد نفسها مرتبط باجتياز مباراة الولوج.
يتضح إذن أن السياق مغلق تماما في وجه ما يسمى “الإدماج أو التوظيف المباشر”وذلك بحكم القانون ولأسباب وجيهة ومعقولة هي تحقيق المساواة وتكافؤ الفرص بين المترشحين الذي يخل به توظيف الأشخاص لمجرد تجمهرهم أمام البرلمان أو بالشارع العام.
حتى السؤال لم يعد ممكنا بشأن حجية هذا المحضر الذي وجد في ظل حكم قانوني صريح بحصر الولوج إلى مناصب الوظيفة العمومية في أسلوب المباراة. وبذلك يصبح المحضر إياه مجرد عمل مادي مجردا من أي أثر قانوني.
ولتجاوز هذا المعطى القانوني عمدت المحكمة إلى تقنية ربط سريان حكم القانون 50/05 ب ” دخول مرسومه التطبيقي رقم 621/11/2 المتعلق بتنظيم المباريات الصادر بتاريخ 27 دجنبر 2011 حيز التنفيذ ابتداء من 2012.
والالتباس الحاصل هنا هو ما بين نفاذ حكم القانون وبين الإجراءات التطبيقية لتنفيذه على أرض الواقع، وهي معادلة محكومة بقاعدة أخرى ومبدأ لم يستحضره الحكم وهو “مبدأ فورية القوانين” الذي يعني أن القوانين ـ كمبدأ عام ـ نافذة المفعول والأثر بمجرد صدورها كمظهر من مظاهر الإلزامية المميز للقاعدة القانونية وإن تراخت إجراءات التطبيق.
 فالحكم إذن ناجز ونافذ وحاصل بكون طريق التباري والتنافس هو الطريق الوحيد للولوج إلى الوظيفة العمومية،اعتبارا من19 ماي2011 تاريخ الصدورالقانون بالجريدة الرسمية.و تبقى الإجراءات التنظيمية لتنزيل هذا الحكم على حالات وأوضاع معينة غير ذات أثر على مضمون حكم القانون.
وفي جميع الأحوال،فإن المرسوم المشار إلييه في المادة22 لايمكن إلا أن يكون منسجما وخاضعا لمنطوق وحكم المادة نفسها،ولايسعه إلا أن ينحصر ويقتصر على ترتيب إجراءات تنظيم المباريات تنفيذالحكم قانوني غدا ثابتا وراسخا.
ولذلك فقد كان الأمر يقتضي أن تتوقف كل المحاولات والمبادرات التي بدأت في ظل القانون السابق ولم تكتمل، والتي أصبحت تسير في الاتجاه المعاكس والمخالف لحكم القانون وقوته التنفيذية.
 وبغض النظر عن هذه الاعتبارات الفقهية التي كان ينبغي أن تكون حاضرة لدى مصدري الحكم فإن القانون نفسه رقم 05/50 الذي هو في الأصل قانون تعديلي  لبعض مقتضيات ظهير 24 فبراير 1958 بمثابة النظام الأساسي للوظيفة العمومية،لايتضمن أي إجراءات انتقالية.ويأخذ بالتالي حكم القانون الأصلي الذي جاء لنعديله،والذي ينص في مادته 88 ـ مؤكدا بكيفية واضحة وصريحة هذا الأثر الفوري للقانون ـ ” يجري العمل حينا بمقتضيات ظهيرنا الشريف هذا الذي لا يتوقف تطبيقه على إصدار  مرسوم ..”
 وعلى خلاف الصيغة المعتادة والتي يقتصر فيها المشرع على أنه: يعمل بهذا بالقانون بمجرد صدوره في الجريدة الرسمية، فالنص المشار إليه يستعمل عبارة ” حينا” التي تفيد الفورية والنجوز، ثم يؤكد ذلك بعبارة :”الذي لا يتوقف تطبيقه على إصدار مرسوم”. وكأن المشرع في عجلة من أمره ليقطع بكيفية فورية وناجزة مع أسلوب  التوظيف المباشر.
والحكمة في ذلك أن التوظيف المباشر، إذا كان يلائم ظروف الخمسينيات كمنهج لتلبية حاجيات الإدارة الناشئة من الأطر والكفاءات،فإن الوضع اليوم، مع توافر أعداد الخريجين وحملة الشواهد العليا وفي ظل متطلبات تطوير الإدارة، وتأهيل مواردها البشرية يفرض بإلحاح وجود معايير موضوعية للولوج إلى الوظيفة العمومية.
أية حجية بقيت لهذا المحضر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وهو في النهاية عمل مادي باطل بطلانا مطلقا بمخالفته لسياق قانوني لم يعد يسمح بمثل هذه المناورات.كما لم يعد هناك أي مجال للحديث عن عدم.رجعية القوانين، وعن أوضاع او حقوق مكتسبة استنادا إلى ورقة مجردة من أي أثر قانوني ولا تكتسي أي صبغة أو طبيعة قانونية بل وتعد هي والعدم سواء.
وللتذكير فإن القانون رقم 50/05، الذي يقطع تماما مع إمكانية التوظيف المباشر باعتباره أسلوبا مخلا بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص والاستحقاق صدر في فبراير من سنة 2011، أي في ظل حكومة الوزير الأول عباس الفاسي وهو بالتالي محسوب سياسيا، وتشريعيا على حكومة كان يرأسها حزب الاستقلال وبمشاركة بقية الأحزاب المشكلة للمعارضة الحالية التي تذرف اليوم دموع التماسيح على أوضاع المعطلين حملة الشواهد العليا، وتجعل من محضر باطل قانونيا حصان طروادة في صراعها مع حكومة تميزها اليوم الشرعية الشعبية والانتخابية.
وإذا كانت هذه الحكومة صارمة في التمسك بمقتضيات القانون رقم 50/05 فلأن هذا القانون في مضمونه ينسجم تماما مع مبادئ الشفافية وأصول الحكامة الجيدة بما هي مقومات أساسية وضرورية في سياسة مكافحة الفساد من خلال تجفيف منابعة واجتثاث أصوله، وهي جوهر البرنامج السياسي لهذه الحكومة.
 ولاشك أن التوظيف المباشر أو الإدماج المباشر في أسلاك الوظيفة العمومية،فضلا عن إخلاله بمبدأ الاستحقاق وتكافؤ الفرص والمساواة ،فهو بالتأكيد مجال لسلطة تقديرية واسعة ،كان من السهل على هذه الحكومة أن تركبها كعقار (بضم العين) منشط produit doppant  لتضخيم حجمها السياسي، تماما كما وظفته الحكومات السابقة لشراء السلم الاجتماعي بل وحتى كمجال للريع السياسي وشتى أنواع المحسوبية.
وهنا يمكن الحديث عن استمرارية الدولة، والتزام مؤسساتها بتعهداتها المتمثلة في احترام القانون والالتزام بأحكامه. وهي في جميع الأحوال مسألة نسبية تخضع للمتغيرات السياسية والاجتماعية التي تخول الحكومات المتعاقبة، قوية بشرعيتها السياسية المستمدة من صناديق الاقتراع ،سن القوانين التي تلائم توجهاتها وبرنامجها السياسي الذي على أساسه تم التعاقد مع الناخبين.
ومن الغريب أن يطالب الجميع هذه الحكومة بالالتزام بمقتضيات ما سمي بمحضر 20 يوليوز، وحالته القانونية على ما أوضحنا من البطلان والمعدومية باسم هذه الاستمرارية نفسها.
وأغرب من ذلك أن يعتمد الحكم نفسه هذا المطلب في حيثياته وتعليلاته مبدأ استمرارية المرافق العمومية الذي يهم أساسا استمرار المرافق العمومية في أداء خدماتها للمرتفقين مهما تغيرت الحكومات، ولا يعني أبدأ استمرار الحكومات في نهج نفس السياسات، وإلا لما كان هناك معنى أصلا لتغير الحكومات والتدوال على الحكم.
الشائبة الثالثة:الإغراق في الخطابة والأسلوب الإنشائي:
 سمة أخرى بارزة من سمات هذا الحكم،تضاف إلى ما فصلنا فيه القول بخصوص عدم ضبط المفاهيم والمصطلحات القانونية، والإرتباك في التعليل، والتجاوز في التعاطي مع صريح مقتضيات النصوص القانونية، ألا وهي انخراط الحكم  في حيثياته وتعليله، في أسلوب خطابي إنشائي، ذو طابع سجالي لا يحمل أي مضمون قانوني حول قضايا تعتبر من باب تحصيل الحاصل وليست موضوع وجوهر الخلاف المعروض على المحكمة، من قبيل.:
“حيث إن الهدف الرئيسي من إخضاع الدولة للقانون وللرقابة القضائية هو تأمين الحماية لحقوق وحريات الأفراد وضد تعسف السلطات العامة وخصوصا السلطة التنفيذية ولذلك فإنه يفترض في دولة القانون ضمان حقوق وحريات الأفراد.
وحيث أن اغلب الدساتير الحديثة للدول تنص على كفالة هذه الحقوق والحريات، وبالتدخل الايجابي لكفالتها وتنميتها، ومنها الحق الدستوري في الشغل وتقلد الوظائف العمومية المعتبر جزء من الكرامة ا

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.