يتيم يكتب: التمرد على الإصلاح والتمرد على تطلعات الشعوب

13.10.08
سنة 2011 كانت سنة المد الديمقراطي في العالم العربي. في هبة شعبية شبابية فاجأت الجميع بتصاعدها وانتشارها في نار الخريف والخرف العربي انتشار النار في الهشيم لتخصب الأرضية العربية التي كانت قد تحولت إلى صحراء قاسية من الاستبداد والجدب الديمقراطي والكزازة والشح في كل مجالات الحياة: حيث لا تنمية حيثما كان التحكم والاستبداد، ولا صحة ولا تعليم ولا تكافؤ لا للفرص وإنما إقصاء وتهميش مولد  للإحباط واستنبات لكل أسباب الغلو والتطرف.

انتفضت طاقات كامنة واستيقظ المارد الشعبي والشبابي الذي كاد أن يتم طرده من المعادلة، وظن الجميع أن الدولة والمسكنة قد ضربت على شؤون المنطقة، وأن الشعوب حين فسقت عن طريق النضال والدفاع عن آدميتها، وحين بلع مثقفوها وسياسيوها ألسنتهم حتى إذا نطقوا لم يقولوا إلا نفاقا وتبريرا وفتاوى تحت الطلب من لدن علماء السوء، وإنها استحقت أن يستخف بها المستبدون كما استخف فرعون بقومه فأطاعوه لفسقهم وتخليهم عن الدفاع عن آدميتهم.

حتى إذا وقع ذلك كله تم تدشين دورة حياة جديدة تتطلع إلى بناء الديمقراطية وحياة الكرامة فتهاوت الفراعين الواحد تلو الآخر، لأنه لم يرعو أحد منهم أو يبادر إلى الإصلاح والتجاوب مع نسمات الحرية إلا بعد أن أدركهم الغرق ففهموا كلهم  متأخرين سنة الله التي قد خلت فيمن قبلهم وهلك هنالك المبطلون، تماما كما فهم  فرعون متأخرا حين نطق في الوقت الميت: “آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل .”

في المغرب الذي لم ندع يوما أننا جنة حقوق وحريات، ولكن كنا نقول وما زلنا أن لبلادنا تراكمات من الخلل في السياسيات المتلاحقة منذ الاستقلال، وأن بلادنا ما زالت تعاني من تحديات متعددة قادتها تارة إلى السكتة القلبية، وانتهت في السنوات التي سبقت الربيع الديمقراطي بالبعض من النافدين الجدد إلى أن يعودوا به القهقرى إلى النماذج التحكمية التي ادعوا باطلا أنها نماذج صالحة للاستيراد بسبب نجاعتها الاقتصادية، وإنه يمكن استنبات بعض النماذج التسلطية القائمة على هيئة حزب سلطوي سعى للتحكم في مفاصل الدولة والمؤسسات، وأن المجتمع المغربي بأحزابه ونقاباته ومجتمعه لا يزال قاصرا ومحتاجا إلى وصاية ومخططات نازلة من فوق..

كنا نقول وما نزال أن  المغرب كان له على الدوام خصوصية وتميز، وستبقى إن شاء الله على الدوام: وهو أن  له دولة عريقة وليس نظاما لقيطا فرض نفسه على الناس أو  جاء على ظهر دبابة أو مغامرة انقلابية أو تسلط لميليشيا أو نظام قمعي بوليسي.
دولة مهما كان هناك في أداء مؤسساتها من خلل أو قصور لها رصيد من الشرعية الدينية والتاريخية  ولاستمرارها من الضرورات الاجتماعية ما يجعلنا لا ننطلق من فراغ أو نكون في حاجة إلى الانزلاق في مغامرات الهدم الشامل المفتوح على المجهول..

ثم إن لقيادته من الحكمة والقدرة الاستباقية والشجاعة على المبادرة الإصلاحية ما جنب ويجنب البلاد الانزياح نحو مغامرات غير محسوبة العواقب، تمكن المغرب بفضل الله ثم بفضل ذلك من تجاوز منطقة الأعاصير والعواصف التي ضربت المنطقة، واستطاع بحكمة مختلف مكوناته من تحقيق المعادلة الذهبية الصعبة بين الإصلاح والاستقرار. استطاع المغرب تأكيد خصوصيته واستثنائه، وهو تعبير اليوم لا يعجب كثيرا ممن كانوا يتمنون لو لم تكن لدى ملك البلاد الشجاعة الكافية للإقدام على تلك المبادرة الشجاعة بإطلاق دورة جديدة من الإصلاحات الجوهرية، تجسدت في دستور جديد متقدم وانتخابات سابقة لأوانها والتعاطي مع نتائجها واحترامها مند أول يوم  كما تفرض ذلك الثقافة الديمقراطية في كل التفاصيل.. مبادرة تنم عن تبصر وحكمة وقدرة كبيرة على الإنصات وتوجيه شراع السفينة نحو شاطئ وبر الأمان..

اليوم تعرف عدة دول مما سمي بدول  الربيع العربي صعوبات مفهومة لمن قرأ تاريخ الثورات والانتفاضات ومن هو خبير بصعوبات المرحلة الانتقالية. فمن بدهيات علم الاجتماع السياسي أن كل توجه إصلاحي يواجه بقوى مضادة للإصلاح وكل ثورة تنتج ثورة مضادة وأن الثورة في بعض الأحيان تأكل أبناءها وترتكب أخطاء قاتلة تفسح المجال لعودة فلول الأنظمة السابقة وعودة مراكز مقاومة الإصلاح إلى السطح.

لكن حقائق علم الاجتماع السياسي وقواعد فلسفة التاريخ تؤكد على الخط التصاعدي للتاريخ. لكن هذا الاتجاه التصاعدي ليس خطا مستقيما بل هو خط لولبي أي أنه يمكن أن تحدث في مساره انتكاسات ظرفية أو جزئية، كما يمكن أن تحدث خلاله تراجعات  نتيجة استجماع القوى المضادة للإصلاح لقواها وإعادة انتشارها في مفاصل الدولة والمجتمع وربما نتيجة تراخي قوى الإصلاح أو أخطاء تقع من قبلها في تدبير عمليات الانتقال الديمقراطي.
اليوم هناك عودة لقوى التحكم وللفلول المقاومة للإصلاح، وهناك سعي للانقلاب على إرادة التغيير وتطلع الشعوب العربية إلى بناء الدولة والمجتمع الديمقراطيين.

وفي المغرب  الذي صنع استثناءه في الربيع الديمقراطي من خلال المزاوجة بين مطلب الاستقرار والإصلاح أي لم يستورد النماذج التي عرفتها المنطقة العربية، هناك اليوم من يسعى إلى استيراد تلك التجارب في جانبها الأسوأ، أي استيراد منطق الانقلاب على المكتسبات الديمقراطية وعلى التطلعات الشعبية المشروعة التي جاءت مع رياح الربيع الديمقراطي. هناك من يعتبر أن ما حدث سنة 2011 هو مجرد قوس قد فتح وأن الأوان آن لإغلاقه واسترداد ما تم تقديمه باليد اليمنى عن طريق اليد اليسرى.

هناك اليوم من يسعى انطلاقا من  هذا التموقع التراجعي أن يقوم بإسقاطات لا تصح على الواقع المغربي، حيث إنه لا يعقل أن ينزلق المغرب  – الذي لم يتجه في ربيعه الخاص إنتاج النموذج المصري أو التونسي أو الليبي أو اليمني أو السوري – إلى إعادة إنتاج خط الانقلاب على التوجه الإرادي الاستباقي ومواصلة نهج الإصلاح التراكمي الذي بدأه المغرب من عقود..

يبدو أنه في  الآونة الأخيرة وفي ظل النجاح الجزئي لفلول الأنظمة السابقة في مصر وتونس، وتواطؤ بعض الدول الغربية وصمتها، في انتظار نجاح عمليات الانقلاب العنيفة أو الناعمة على الثورات العربية فقد أصبحت  عدد من مراكز مقاومة الإصلاح تخضع لإغراء متزايد  بالسعي إلى إعادة إنتاج تجارب “التمرد” على تطلعات الشعوب العربية كما تم التعبير عنها.
في المنطقة. التمرد على الإصلاح يقوم  بتسخير كل صيغ “البلطجة” السياسية والانتخابية وكل أنواع العنف المادي والمعنوي للانقلاب على المسار الديمقراطي. المشكلة أن ذلك يتم تحت شعارات زائفة من قبيل الدفاع عن الفئات الشعبية وادعاء الوصل بهمومها ومطالبها وهي لا تقر لهم بذاك.

المشكلة أنها تتم تحت شعارات براقة من قبيل التنزيل الديمقراطي للدستور وقيم الديمقراطية.. والواقع أن الديمقراطية لا يمكن أن تقوم بدون ديمقراطيين وثقافة ديمقراطية، وكل المؤشرات تدل على أن أول من ذبح الديمقراطية فهم هؤلاء داخل تجاربهم الحزبية، وأن القاعدة تقول: فاقد الشيء لا يعطيه، وأن النائحة المستأجرة لا يمكن أن تكون مثل النائحة الثكلى .

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.