رحموني يكتب: أزمة المعارضة المؤسساتية.. بين محاولة البحث عن التوازن السياسي المفقود وإعادة إنتاج السلطوية

13.10.24
خالد رحموني*                  
من بين رسائل شتى نضحت بها التفاعلات السياسية التي أعقبت الحراك السياسي بالمغرب، برز جليا تواضع وبؤس أداء مختلف قوى المعارضة السياسية،  ليسلط الضوء الكاشف على عمق المأزق الذي آلت إليه بمختلف أطيافها وفصائلها وتشكيلاتها.

 تصدع في بيت المعارضة، تيه وارتباك..
ربما لا يكون من قبيل المبالغة الادعاء بأن قوى المعارضة تلك مدينة ربما لتردد وارتباك اعترى أداءها السياسي العام في الأيام الأولى لتدبير السياسات العمومية من قبل نخبة سياسية  جديدة، بل طارئة على تسيير الشأن العام من موقع العمل التدبيري والمسؤولية الحكومية، وقد كان سلوكها السياسي أيضا مرتبطا بسياسات لا ديمقراطية، تجسد ذلك في التئامها الاضطراري واصطفافها الظرفي ليس حول مشروع وإنما حول تيه في الخطوات وارتباك في النقد وغياب في الحضور.

فشأنها شأن أي معارضة عاجزة عن منافسة فصيل سياسي يبدو الأكثر تنظيما وجاهزية لاجتذاب الجماهير في الانتخابات ولإثارة الانتباه لأدائه المتميز حتى من غير سالف سبق وتجربة في تدبير الشأن العام، أبت بعض من فصائل تلك المعارضة إلا أن ترجئ صراعاتها وخلافاتها البينية برهة من الزمن حتى توحد جهودها، مرحليا على الأقل، بغية سحب البساط من تحت أقدام الطرف المنافس والأقوى المتمثل في تيار الإصلاح الديمقراطي وبالتحديد العدالة والتنمية.
وبغير عناء، يستطيع المتأمل في تاريخ التجربة الحزبية الحديثة أن يكتشف أن الانشقاقات الحزبية ليست من مستحدثات نظامها الحزبي بل هي آلية صميمة في النظام السياسي الذي يستثمر في الانقسام وتجزيء الحقل الحزبي. فما إن عرفت ظاهرة المعارضة السياسية بسمتها التنظيمي مع تأسيس الأحزاب على امتداد التاريخ السياسي الحديث في البلد، حتى أضحت الانشقاقات والتصدعات الحزبية صنوا للأحزاب السياسية التي تبنت المعارضة للسلطة والحكم في حينها.
 ويصعب القطع كذلك بأن الخبرة التنظيمية الهائلة والموغلة في القدم للحركة الإسلامية ذات الأفق الإصلاحي بالمغرب وذراعها السياسي كفيلة بتحصين حزب العدالة والتنمية، المنبثق عنها ضد أي تحولات أو مآلات من نوع الارتباك في التدبير والتيه عن أولويات الشعب، لصالح منظور للسياسة يراهن على النظر إليها باعتبارها تدبيرا للشأن العام في العلاقة مع الدولة  ومركز الحكم والسلطة فقط، وحصرا بالتنكب عن إرادة الشعب والنأي عن آماله وآلامه، خصوصا في ظل أجواء الاستقطاب السياسي الحاد المتنامية ومحاولات الإرباك والإفشال لعموم التجربة الإصلاحية، علاوة على الضغوط الكثيفة والتحديات المتفاقمة التي تحاصر التجربة الوليدة من كل نحو وصوب، إلى حد ينذر باتساع رقعة الخلاف بين مجمل مكونات الطبقة السياسية حول قضايا وملفات شتى من المفروض أن تكون مقاربتها بالمنطق “الإجماعي” لا الحزبي الضيق.
وفيما يجوز الادعاء بأن بعضا من الانشقاقات الحزبية والانشطارات في الرؤى البرنامجية والإستراتيجية السياسية تعد ظاهرة عالمية صحية ومحمودة في آن، لكونها تثري الحياة السياسية وتزيدها ديناميكية، كما تنشط عملية الحراك السياسي الديمقراطي، وتجدد دماء النظام السياسي، وتعزز دوران النخبة السياسية عبر تنمية وتنويع أقنية المشاركة السياسية في أعلى مستوياتها، وبالضبط توسيع نطاق الإسهام في صناعة القرار السياسي العمومي، وتوسيع دائرة الأطر والكفاءات السياسية المؤهلة والقادرة على المشاركة الناجزة في إدارة العملية السياسية برمتها، إلا أن ظاهرة التصدعات في تدبير النضال السياسي وتدبير الخط السياسي لكل طرف وبين القوى الحزبية  والارتباك الطافي على أدائها، قد تطوى بين ثناياها دلائل مقلقة على وهن النسق الحزبي برمته، وتجعله أمام مهام الإصلاح والتأهيل العاجل.
فغالبا تغدو تلك الحالة انعكاسا لحالة الإنهاك والإعياء المزمن والعجز المطبق التي تخيم على تلك الأحزاب التي تنتسب للمعارضة المؤسساتية، وتبدو أعراضها بل أعطابها جلية وظاهرة الإفلاس البرامجي والجمود الفكري والتنظيمي داخلها، علاوة على الإخفاق السياسي والجفاء الجماهيري والفقر في الأطر والكفاءات السياسية والإفلاس في عالم المصداقية.
من زاوية أخرى، تميط هذه الأوضاع اللثام عن حزمة أخرى من الأعراض المرضية، كاستشراء الشخصنة وغياب المؤسسية واستفحال الصراعات البينية حول الزعامة، فضلا عن التداخل الشديد، بين الإيديولوجي والسياسي واستحالة الفصل بين النشاط الجمعوي والعمل السياسي، بما يحول دون بلورة ركائز سياسية وفكرية لجماهيرية الحزب بديلا عن التبعية المبنية على الولاءات والانتماءات الأولية، والتي دأبت الأحزاب ذات الجذور الإدارية على الارتكان إليها رصيدا أو احتياطيا إستراتيجيا لها في معاركها السياسية ومنافساتها الانتخابية ضد خصومها من الأحزاب والقوى السياسية الأخرى المستقلة عن الدولة.
 
مهام التحويل الديمقراطي للدولة
من المفترض في أي معارضة سياسية أن تتحلى بالمسؤولية الوطنية، بما تعنيه من إعلاء مصلحة الوطن فوق أي اعتبارات فئوية أو حسابات حزبية أو استئجار خطواتها لصالح قوى الإعاقة الديمقراطية المعلومة، وأن تنأى بنفسها عن الأسقام التي تفت في عضد أية معارضة ناقدة فاعلة، كالمعارضة فقط من أجل المعارضة، واختزال مقاصدها في إسقاط نخبة الحكم بأساليب غير شفافة وتعويق المسيرة السياسية وإرباك التجربة الحكومة الوليدة، فضلا عن الإستقواء بالحزب السري ومراكز القوى داخل الدولة التي لم تندمج بعد في روح المرحلة، وإقحام أطراف وطنية غير سياسية في أية منافسات أو صراعات سياسية بين القوى الحزبية والاجتماعية بغية الحسم غير المتكافئ للصراع.
وعلى غير ذلك الدرب مضت بعض فصائل المعارضة المؤسساتية، فرغم أن الأزمة السياسية الأخيرة داخل التحالف الحكومي القائم العابرة، قد أتاحت لها فرصة تاريخية نادرة للالتئام والاصطفاف في مواجهة رئيس الحكومة المنتخبة والتيار الإصلاحي قاطبة، فإن هذا التوحد المفترض والالتقاء الموضوعي في المصالح  لم ينعكس بالإيجاب على طريقة إدارة المعارضة لصراعاتها السياسية مع النخبة الحاكمة الجديدة والمتصدية لمهام الإنماء والدمقرطة والإنهاض الاقتصادي والاجتماعي في المرحلة.
فقد تناست قياداتها ورموزها أنها شطر من نمط التدبير السابق ومن النظام السياسي التسلطي الذي نحن بالكاد إزاء محاولات تفكيك شبكاته الزبونية ومراكز النفوذ داخله، وفق المستطاع والممكن في المرحلة، ما يفرض عليها العمل سويا مع نخبة الحكم لاستكمال مهام البناء المؤسساتي والانتقال الديمقراطي وتحقيق أهدافه وإتمام مسيرة التحول السلمي الهادئ نحو الديمقراطية، والحيلولة دون انزلاق البلاد إلى مهاوي الفتنة والخراب السياسي والتشرذم حتى لا تغدو صيدا ثمينا وسهلا لمتربصي الخارج أو عناصر الردة الديمقراطية المضادة للتحول الديمقراطي في الداخل.
وبلا مسؤولية، أبدت ذات قوى وتشكيلات المعارضة بمختلف أطيافها رفضها التام لمشروع الإصلاح السياسي، وآثرت الاحتكام إلى الاحتشاد بالأدوات الغريزية وبالأساليب الغريبة عن النضال الجماهيري والاجتماعي وبمنطق وخطاب مغرق في الميكانيكية على مستوى المنهج، والكيد على صعيد النقد السياسي، للتعبير عن استيائها من تدبير العدالة والتنمية للمرحلة، رافضة كل دعوات التوافق والالتقاء في تدبير الأهداف الوطنية الكبرى بما يشبه صياغة كتلة تاريخية تكون قيومة على تأمين الانتقال، بما لا يتجاوب مع مطالبها الضيقة ويرضخ لشروطها المعجزة والأنانية التي لا تعترف بالحلول الوسطى.
ولم تتورع فصائل من المعارضة عن الإستقواء بقوى التحكم حينما طالبت  وسعت إلى ممارسة الضغوط على رئيس الحكومة لحمله على التراجع على الخطوات الجريئة في الإصلاح السياسي ولا تزال تفتعل المعارك في الهامش من أجل الإلهاء عن المعركة الأم الأساسية التي عنوانها مزيد من هزم الاستبداد ومحاصرة الفساد ومزيد من مراكمة البناء الديمقراطي والانفتاح السياسي والانجاز التنموي لبلدنا.
 ولم يكن هذا المسلك بالأمر المستحدث، فقد لجأت بعض أطيافها تحت وطأة البنية الاقصائية لمجمل النسق السياسي التسلطية –في سالف العهد -المفرط في تشدده المادي والبيرقراطي والرمزي ضدّ معارضيه للتبشير بالدخول في تحالفات لإسقاط النخب الجديدة الحاكمة. كذلك، جنحت ذات القوى للاستعانة بقوى المحافظة السياسية لنفس المقصد، ولم تتورع عن التعاون مع رموز التحكم وشبكات التسلط والنهب والمركب المصالحي  توخيا للحيلولة دون صعود الإسلاميين الإصلاحيين للسلطة، أو لوأد استمرارهم في تدبيرها لمرحلة لاحقة، لأن البعض يختزل الحراك الديمقراطي بكل أبعاده في الصراع على السلطة والنفوذ.
 
دور المعارضة في البناء الديمقراطي و البديل الهش
ما أجل كل ذلك، فإن دور المعارضة السياسية يغدو ملحا من أجل تقويم أداء النظام السياسي المختل التوازن وتصحيح مساره، وذلك بالنظر لكونها تعد ركنا ركينا من مقومات النظام السياسي الديمقراطي، سواء من خلال الرقابة أو عبر تقديم البرامج والمشاريع البديلة.
وإذا كانت مختلف البنى السياسية والمجال السياسي تعاني من ضعف مهول لقنوات التعبير المجتمعي عن صياغة المطالب ورفدها، وأيضا تشتكي غيابا مخيفا في المجال الوسيط بين الدولة والمجتمع، فإنه يفترض في المعارضة السياسية المؤسساتية أن تقوم بملء الفراغ الناجم عن وجود سلطة منفصلة عن المجتمع ،حسب ما تدعي.
وقد لا يخفى على كثيرين أن مأزق المعارضة السياسية في المغرب لم يكن وليد اليوم، وإنما يضرب بجذوره في عمق التجربة السياسية الحديثة، فمنذ العهد السابق –وبالنظر لطبيعة النظام السياسي – لم تعرف البلاد هيكلا حقيقيا للمعارضة السياسية الجماهيرية المؤثرة، إذ كانت هناك قوى سياسية مهيمنة ومستمرة في السلطة –بالرغم من اختلاف أطيافها الحزبية -فيما تعجز بقية الأحزاب عن منافستها بشكل جاد وضاغط، غير القوى الإصلاحية ذات المرجعية الإسلامية.
ورغم أن حزب الاتحاد الاشتراكي وباقي مكونات الكتلة الديمقراطية انتقلت إلى موقع السلطة لحظة التناوب التوافقي بغاية تدبير انتقال الملك ومعالجة أعراض ما سمي حينها بالسكتة القلبية، وبعيدا عن قضية ما إذا كانت عملية الاقتراع  التي تمخض عنها التناوب عينه كانت نزيهة أم لا، فان كل ذلك يزيد من مسؤولية قوى المعارضة في الحفاظ عل استقلالها السياسي إزاء مراكز النفوذ السلطوي.
وبينما نزع النظام السياسي الحاكم لحظتها باتجاه ترويض بعض فصائل المعارضة والاتحادية أساسا، أو تشكيل معارضة مستأنسة من داخله بغية إضفاء شيء من الشرعية على الأداء المجمل للنسق السياسي، فقد بقيت أقوى قوى المعارضة السياسية الحقيقية لحد الآن، خارج المشهد السياسي الرسمي، وتركت المجال لبعض القوى ممن يراهن على إرجاع عقارب الزمن السياسي إلى ما قبل الحراك الديمقراطي.
وقد أفضى غياب أو تغييب المعارضة السياسية الحقيقية إلى فتح الباب على مصراعيه أمام بروز معارضات تركن إلى آليات غير سياسية وأدوات غير نزيهة كما تصطبغ بصبغات متعددة ومتخالفة. فبينما عجزت  عديد من الأحزاب السياسية بشتى أطيافها عن تقديم بديل ملائم للنخب الحاكمة، عمدت بعض القوى السياسية ذات المرجعيات الإسلامية إلى تطوير ذاتها وتقديم نفسها للجماهير، بعد أن جددت من خطابها السياسي المفعم بمفاهيم الديمقراطية والمجتمع المدني والدولة المدنية والمواطنة والمساواة ودولة القانون.
وبالتوازي، كانت بعض أطياف المعارضة قد اكتست رداءا بمسحة انتهازية. وهو ما فرض بدوره تحديات جساما أمام قدرة الدولة على إيجاد إطار مؤسسي مرن وفعال واستيعابي، يحمي نسيجنا الوطني من التمزق ويقي كياننا المجتمعي من التورم، ويوفر ضمانات التوازن الذاتي في إطار الوحدة من خلال إرساء دعائم الدولة الديمقراطية، ممثلة في دولة الحق والقانون.
وقد دفع الإفلاس السياسي والفقر الجماهيري ببعض الأحزاب اليسارية والإدارية غير المستقلة ، للإستقواء بالحزب النكوصي السلطوي وشبكاته وخدمات بعض رموزه، بغية الاستفادة بخبراتهم المخزنية والتنظيمية وزخمهم المكابر وعلاقاتهم الممتدة وإمكاناتهم المالية في مواجهة القوى الديمقراطية الحقيقية، وفي طليعتها على وجه التحديد العدالة والتنمية.
كما لم تجد أحزاب إدارية أخرى غضاضة في الاستعانة ببعض الخارجين على القانون من تحالف قوى الإفساد الانتخابي –الانتخابات الجزئية لمولاي يعقوب نموذجا- لإرباك النخبة الحاكمة المنتخبة الجديدة. وهو توجه كان له جذوره التاريخية في توطين الاستبداد داخل أركان الدولة المخزنية.
وبدوره يبرز التحدي الثقافي أمام المعارضة، أي تبلور نمط جديد للمعارضة بئيس بدون أفق ثقافي ولا مشروع بديل، مما يفضي إلى إذكاء نزعات “العصيان” و”التمرد” الفوضوي غير المستند لا إلى خلفية شعبية ولا إلى رؤية أيديولوجية أو نموذج تغييري وتنموي. إن الإدمان على هذا المسعى قد يورد أصحابه موارد التنكيل بالشعب وتيئيسه من إمكانية التغيير الديمقراطي الهادئ، وقد يجعل الأمور تمضي في اتجاه تبخيس السياسة وإهلاكها وجعلها تتجاوز مواطن الشرعية السياسية ومراكز الديمقراطية التمثيلية،
 
على سبيل الخلاصة ..
وانطلاقا مما سبق، باتت قوى المعارضة المؤسساتية في موقف حرج وصعب بين النخبة الحاكمة والجماهير، فبينما يستثقلها البعض من قوى التسلط ويسعى إما لتقويض الجدي منها أو ترويض الناعم منها والرخو، لا يفتأ الجمهور والشعب يشيح بطرفه عنها غير معول عليها في تحقيق التغيير الديمقراطي المنشود، وربما يصير رهانه، أكثر من أي وقت مضى، على الحراك الشعبي بعيدا عن الوسائط السياسية والمدنية، فليتجنب البعض اللعب بالنار، وركوب المتاهة وسوء التقدير وسلوك المنازع الرخيصة في المتاجرة بآلام الناس وآمالهم.
** عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.